تسترعي التجارب الناجحة اهتماما أكبر من ذاك الذي تحظى به نظيراتها الفاشلة. فنحن نحتفي بقصص النجاح، وننكب عليها بالفحص والدراسة، لاستخلاص الأسباب التي قادت إلى أن تُكلل بهذه النهاية السعيدة. كما تُعنى القطاعات الاقتصادية والصناعية المختلفة بهذه العِبَر والدروس، وتنشرها تحت مسمى النصائح المُثلى للعمل...
بقلم: كريستيان جاريت-صحفي علمي
مواجهتنا لإخفاقاتنا، بروح متعاطفة مع النفس وليس من منطلق جلد الذات، تتيح لنا الفرص لاستخلاص الدروس من هذه التجارب

تسترعي التجارب الناجحة اهتماما أكبر من ذاك الذي تحظى به نظيراتها الفاشلة. فنحن نحتفي بقصص النجاح، وننكب عليها بالفحص والدراسة، لاستخلاص الأسباب التي قادت إلى أن تُكلل بهذه النهاية السعيدة. كما تُعنى القطاعات الاقتصادية والصناعية المختلفة بهذه العِبَر والدروس، وتنشرها تحت مسمى "النصائح المُثلى" للعمل في هذا المجال أو ذاك. كما تجد قصص النجاح تلك مكانا لها على ألسنة المتحدثين في المناسبات والحفلات الرسمية، ممن يُشنِفون آذان مستمعيهم بتفاصيل الخطوات التي أوصلتهم إلى المجد.

أما الإخفاقات، فإما أن يُهال التراب عليها، كي لا يتسنى لأحد أن يراها، أو يُنظر إليها على أنها مصدر للخزي والعار، وهو ما يمتد لمن كانت من نصيبهم أيضا.

رغم ذلك، فإن الأخطاء والسقطات والإخفاقات الواضحة هي التي تتضمن -على الأغلب- معلومات عملية مفيدة بشكل أكبر، تساعد على تحسين أداء المرء؛ شريطة أن يكون على استعداد لأن يدرس هذه العثرات بدقة وأن يُطلع الآخرين على تفاصيلها كذلك. على أي حال، لا يشكل ما سبق رأيا فرديا، بل رؤية تتبناها الأستاذتان في علم النفس آيليت فيشباك ولورين إسكرايس-وينكلير من كلية بوث لإدارة الأعمال في جامعة شيكاغو.

وترى الاثنتان أننا لا نستطيع، في أغلب الأحيان، أن نتعلم بشكل كافٍ من تجاربنا غير الناجحة. وتقول فيشباك: "نتخذ قرارات خاطئة في مجال العمل، لأننا لا نتعلم من مثيلاتها التي اتخذها الآخرون من قبل، ولم نستخلص العِبَر كذلك مما ارتكبناه نحن أنفسنا من أخطاء. بجانب ذلك، نتجاهل غالبا الإشارات التي تفيد بأن علاقاتنا لا تسير على ما يرام، أو تومئ إلى أن مديرنا في العمل -مثلا- غير راض عن مستوى أدائنا. فنحن لا نهتم بإخفاقاتنا، ولا نكبد أنفسنا عناء تعلم الدروس الخاصة بكيفية تحقيق النجاح".

النفور من إطلاع الآخرين على التجارب الفاشلة

وقد كشفت دراسات أُجريت في السابق النقاب بالفعل، عن النزعة غير المفيدة الموجودة لدى البشر لتحاشي إطلاع الآخرين على المعلومات الخاصة بتجاربنا الفاشلة، وهي مشكلة أطلق عليها أستاذ علم النفس في جامعة شفيلد، توماس وِب، وزملاؤه مصطلح "تأثير النعامة". فنحن ننزع كبشر إلى وضع رؤوسنا في الرمال، بمجرد شروعنا في القيام بمهمة ما، بدلا من أن نراقب خطواتنا بدقة خلال أدائها للتحقق من أننا نمضي على المسار الصحيح، ولم نَحِدْ عنه. ويستوى في ذلك ما إذا كنا بصدد تجربة نظام جديد لاكتساب اللياقة البدنية، أو إطلاق موقع إلكتروني خاص بشركة ما، أو التخطيط لمواجهة وباء يلوح في الأفق.

كما أننا نميل إلى تحاشي تخيل ما الذي يمكن أن يمضي على نحو خاطئ، خلال محاولتنا الوصول إلى هدف ما، وهو ما كشفت عنه دراسة أجرتها الباحثة غابريل أوتينغِن من جامعتيْ نيويورك وهامبورغ. اللافت أن فرص تحقيق النجاح وقدرتنا على المثابرة من أجل نيل غاية معينة تتزايد عندما يُطلب منّا الانخراط في ما يُعرف بـ"المقارنة الذهنية النظرية"، وهو مصطلح يشير إلى توقع المرء للعقبات التي يمكن أن يواجهها خلال سعيه للوصول إلى هدف بعينه.

الآن تُدلي فيشباك وإسكرايس-وينكلير بدلوهما في هذا الموضوع، عبر تسليطهما الضوء علميا على نزعتنا للإحجام عن الاهتمام بالإخفاقات التي حدثت بالفعل، سواء ما واجهناه نحن على هذا الصعيد أو ما مُني به الآخرون. ففي أحدث أوراقهما البحثية، طلبت الباحثتان من عشرات المدرسين تذكّر وقت بعينه حققوا خلاله النجاح في عملهم، وآخر فشلوا فيه. ثم سُئِلَ هؤلاء المعلمون عن أي من هذه التجارب يفضلون إطلاع أقرانهم عليها للاستفادة منها. وحينذاك، تبين أن 70 في المئة منهم فضلوا اختيار قصص النجاح، لا الفشل.

الأمر نفسه تكرر عندما طُلِبَ من مئات المتطوعين عبر الإنترنت التفكير في المرات التي نجحوا فيها في الإبقاء على تركيزهم منصبا بالكامل على ما يؤدونه من مهام في مكان العمل، وكذلك تذكر الأوقات الأخرى التي فشلوا فيها في ذلك. وأظهرت الدراسة أن غالبية المبحوثين أحجموا بشكل أكبر عن إطلاع الآخرين على مرات تشتت الانتباه، بينما كانوا أكثر رغبة في الحديث عن أوقات النجاح في الحفاظ على التركيز. بل أن هذا الإحجام استمر، حتى عندما ذكر الباحثون أن الطرف الذي سيطلع على هذه التجارب يتمثل في "شخصيات افتراضية تمثل المبحوثين أنفسهم ولكن في المستقبل". ويوحي ذلك بأن الأمر يتجاوز مجرد رغبتنا في أن نرسم صورة إيجابية عن أنفسنا أمام الآخرين الغرباء عنّا.

الإخفاقات المعلوماتية

ترى فيشباك وإسكرايس-وينكلير أن من بين العوامل الرئيسية التي تسبب هذه المشكلة حقيقة أن الكثيرين منّا لا يدركون ما الذي يعنيه الوقوع في ما يمكن تسميته "أخطاء معلوماتية". ولاختبار صحة هذا الافتراض تجريبيا، صممت الباحثتان مهمة شديدة البساطة تحاكي المواقف الحياتية، مفتاح النجاح فيها يتمثل في تجنب ارتكاب الأخطاء. واستهدفت التجربة تحديد ما إذا كان المبحوثون سيتجنبون إطلاع الآخرين على إخفاقاتهم، حتى إن كانت تنطوي على معلومات مفيدة على نحو أكبر من تلك التي تتضمنها قصص النجاح الخاصة بهم.

وفي إطار هذه التجربة، طُلِبَ من المتطوعين للمشاركة في البحث عبر الإنترنت فتح صندوقين من ثلاثة صناديق افتراضية متاحة لهم، وذلك من أجل الفوز بمبلغ ما من المال. وكان الصندوق الأول يحتوي على 20 سنتا، بينما يوجد في الثاني 80 سنتا. أما الثالث فكان عديم القيمة، بل ويكلف من يفتحه سنتاً واحداً. بعد ذلك، أُتيحت لكل من المشاركين الفرصة لإطلاع المشارك التالي له على معلومات بشأن واحد من الصندوقيْن اللذين فتحهما، وذلك لتعزيز فرصه في الفوز في اللعبة. ولتحفيز المبحوثين على القيام بذلك، قيل لكل منهم إن من يمد يد المساعدة، لن يلبث أن يُرد له الجميل عبر إطلاعه على المعلومات التي سيحصل عليها الآخر بدوره.

وقد صممت الباحثتان التجربة على نحو يضمن أن يفتح كل متطوع صندوقيْن بعينهما، أحدهما الذي يحتوي على السنتات العشرين والآخر عديم القيمة. ويعني ذلك عمليا أنه سيكون من المفيد بشكل أكبر للجميع أن يُطلِعوا بعضهم بعضا على تفاصيل الجانب الفاشل من التجربة، أي موقع الصندوق الذي يكلفهم فتحه سنتا واحدا، أكثر من أن يتشاركوا الحديث عن الشق الناجح منها؛ المتمثل في مكان صندوق الـ 20 سنتا. إذ أن حديثك مع المشارك التالي لك عن "فشلك"، سيتيح له فرصة الاختيار بين صندوقيْن رابحيْن واستبعاد الثالث عديم القيمة. أما إطلاعه على معلومات "نجاحك"، فستجعله يستبعد صندوق السنتات العشرين، ويبقى أمام الاختيار بين صندوقيْن، أحدهما لا قيمة له على الإطلاق.

رغم ذلك، وجدت الباحثتان أن نسبة تتراوح ما بين ثلث ونصف المبحوثين اختاروا إطلاع المشاركين التاليين لهم على المعلومات الخاصة بالنجاح لا الفشل، مع أن العكس كان سيصبح أكثر إفادة للجميع.

وفي دراسة متابعة لاحقة أُجريت عبر تجربة صُمِمَت على شكل اختبار، اكتشفت الباحثتان أدلة أخرى تُظهر الأسلوب الذي نتغاضى من خلاله عما يكمن في الفشل من قيمة ودروس. واكتشفتا كذلك أن من اليسير معالجة هذه المشكلة.

ففي هذه التجربة، طُلِبَ من مبحوثين متطوعين تخمين معاني رموز قديمة مُقسّمة إلى مجموعتين، عبر الاختيار بين إجابتيْن محتملتيْن لكل سؤال. وبعد الانتهاء، قال القائمون على التجربة للمبحوثين إنه ليس لديهم وقت لتوضيح الإجابات الصحيحة الخاصة بأسئلة إحدى المجموعتين، وأن إجاباتهم على أسئلة المجموعة الثانية كلها خاطئة.

النتائج بدت كاشفة، خاصة على صعيد ما أظهرته من أن 70 في المئة من المتطوعين للمشاركة في الدراسة اختاروا أن يُطلعوا الآخرين على تجربتهم مع مجموعة الأسئلة التي لم يحصلوا على أي رد فعل بشأنها من جانب القائمين على البحث، لا المجموعة الأخرى التي أُخْبِروا بأن إجاباتهم على أسئلتها كانت كلها خاطئة، وهو ما جعل لديهم بالتبعية معرفة كاملة بالإجابات الصحيحة فيها، في ضوء وجود اختياريْن فحسب لكل سؤال.

وتكررت في هذه التجربة المشكلة نفسها التي ظهرت في تجربة "الصناديق الثلاثة"، والمتمثلة في جهل المبحوثين بما يكمن في الإخفاقات والتجارب الفاشلة من فوائد معلوماتية. وعندما تجلى للمشاركين في الدراسة هذا الخطأ، اختلفت ردود فعلهم. فعندما لفتت الباحثتان انتباه مجموعة ثالثة من المتطوعين إلى أن إبلاغهم بأن إجاباتهم على القسم الثاني من الأسئلة خاطئة يعني عمليا معرفتهم بالإجابات الصحيحة، أدى ذلك إلى تعزيز استعدادهم لإطلاع الآخرين على ما يعرفونه من معلومات بشأن الرموز التي ظنوا أنهم فشلوا في تخمين ما تشير إليه.

ضرورة إبداء قدر أكبر من الاهتمام

أظهرت إحدى الدراسات أن المبحوثين الذين طُلِبَ منهم فتح صناديق يُفترض أنها تحتوي على أموال خلال تجربة علمية، نزعوا للإحجام عن إطلاع الآخرين على المعلومات الخاصة بإخفاقاتهم (خسارتهم لأموال) مقارنة برغبتهم بشكل أكبر في الحديث عن نجاحاتهم (حصولهم عليها)

وتوحي نتائج هذه الدراسات بأن بوسع الكثيرين منّا الاستفادة من مجرد التعرف على الدروس الكامنة في تجاربنا الفاشلة.

وتقول فيشباك في هذا الصدد: "عليك أن تطرح على نفسك بعض الأسئلة بعد كل تجربة فاشلة تمر بها، من قبيل `ما الذي تعلمته؟ وكيف يمكنني أن استفيد من هذا الدرس في المستقبل؟`". لكنها تستدرك بالقول إنه قد يكون من العسير على المرء التعلم من عثراته وأخطائه، نظرا لأن الاعتراف بالإخفاقات يضر بثقته بنفسه. ويعني ذلك أنك ستحتاج في هذه الحالة لإبداء قدر أكبر من المعتاد من الاهتمام والانتباه "لأن التعلم من التجارب الفاشلة أمر أكثر صعوبة".

ومن الأمور المفيدة في هذا الشأن، أن تضع مخططا أوليا لمشروعك المزمع، سواء كان مهنيا أو شخصيا، قبل أن تشرع في السعي لإنجازه بالفعل. وقد أظهرت الدراسة التي أجرتها أوتينغِن بشأن "المقارنة الذهنية النظرية"، أن توقعك في بداية تحركك باتجاه تحقيق هدف ما للعثرات التي يمكن أن تواجهها على هذا الطريق يجعلك أكثر تقبلا لتلقي ردود فعل سلبية خلال تلك العملية.

وتقول أوتينغِن إن ذلك لا يجعلنا نتقبل ردود الفعل على أي إخفاق محتمل بيسرٍ أكبر فحسب، وإنما يحدو بنا أيضا لجعل "ردود الفعل هذه جزءا من خططنا الرامية لتحقيق أهدافنا، وإنجاز ذلك على أرض الواقع أيضا". ويبدو الأمر هنا وكأن توقع المسارات الخاطئة التي يمكن أن تمضي عليها الأمور يدفعنا لأن نكون أكثر تقبلا لمسألة التعلم من الأخطاء والسقطات، عندما تحدث حتما بعد ذلك.

بطبيعة الحال، لا يمنع هذا من الإشارة، إلى أن التفكير في أخطائك قد يؤدي إلى إحباطك، خاصة إذا كنت ممن ينشدون الكمال، أو من يعانون من قلة الثقة في أنفسهم. لذا من المهم ألا تكون قاسيا على نفسك على نحو مفرط حينما تواجه أخطاءك، وأن تسعى لاستخلاص العِبَر منها.

ويشكل هذا الملف تحديدا موضوعا لدراسة يجريها فريق من الباحثين في جامعة شيفيلد، يضم في صفوفه الباحث توماس وِب، الذي تحدثنا عنه من قبل حينما أشرنا إلى مفهوم "تأثير النعامة". وتتضمن مهمة الفريق التعاون مع شركات ومؤسسات لتحديد سبل مساعدة الأشخاص المنتمين لها على تجاوز إخفاقاتهم، من خلال حملهم على التعامل معها بروح "التعاطف مع الذات" لا جلدها. ويتعاون باحثو الفريق في هذه الدراسة مع مسؤولين عن صالة للرياضة "جمنازيوم"، ورابطة معنية بشؤون الأبوة والأمومة، ودار للنشر. وفي الحالة الأخيرة، سيساعد الباحثون موظفين مكلفين بمراجعة النصوص على التغلب على ميلهم الشائع بينهم للتسويف في أداء مهامهم.

ويقول وِب: "الفرضية الأساسية في هذا الشأن، تتمثل في أن الناس ينظرون لأنفسهم بعين الانتقاد عند ارتكابهم هفوات أو مواجهتهم تحديات. لكن قدرتهم على التعامل مع ذلك بتعاطف مع الذات -كأن يرون مثلا أن الوقوع في هذا الخطأ أو ذاك طبيعي نظرا لكوننا بشرا- ستُمَكِنهم من الحفاظ على قوتهم الدافعة وبذل القدر ذاته من الجهد لتحقيق هدفهم المنشود. ويرتبط جزء من هذا الأمر بالثقافة السائدة في المجتمع، وما إذا كانت هذه الثقافة تدفع باتجاه تقبل الإخفاقات الواضحة".

توجه إيجابي؟

ولا شك في أن وِب على حق، في الإشارة إلى أن لدينا هنا درسا أوسع نطاقا، يرتبط بثقافة المجتمع. فرغم أننا محقون بشكل كبير في النظر إلى الإخفاقات باعتبارها أمورا سلبية، فإن ذلك لا يمنع من أننا سنستفيد كثيرا من تغيير نظرتنا إليها من كونها مصادر للشعور بالخزي أو الندم، إلى أنها تشكل فرصا زاخرة بالمعلومات للتعلم منها.

ومع أن هذه العقلية موجودة بالفعل في قطاعات تشكل فيها السلامة والأمان الأولوية الأولى، مثل صناعتيْ الفضاء والطيران، لكن بمقدورنا القول إن ثمة حاجة لنشرها على نطاق أوسع.

وفي الوقت الحالي، توجد مؤشرات إيجابية، تفيد بأن ذلك يحدث على أرض الواقع في بعض الشركات والمؤسسات. وتقول الباحثة فيشباك في هذا السياق إنها "معجبة بشدة" بالتوجه المتنامي في أوساط بعض الشركات لتنظيم تجمعات، تُمنح خلالها الفرصة للعاملين للحديث علانية عما ارتكبوه من أخطاء خلال أدائهم مهام وظائفهم، دون أن يترتب على ذلك أي عواقب سلبية بالنسبة لهم.

وهكذا، فبينما يتطلب الاعتراف بالوقوع في أخطاء أن يتحلى المرء بالشجاعة، سيؤدي إقدام عدد أكبر منّا على الإقرار بإخفاقاته وهفواته إلى أن نستفيد جميعا، بما سنتعلمه في هذه الحالة، من دروس تكمن في تلك التجارب الفاشلة.

https://www.bbc.com/arabic

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق