آراء وافكار - وجهات نظر

سقوط ألمانيا

هانز فيرنر سن

 

ميونيخ ــ تشهد ألمانيا في الآونة الأخيرة نقطة تحول سياسي فاصلة. وليس الأمر أن خروج حزب الديمقراطيين الأحرار من محادثات الائتلاف ألقى بظلال من الشك على احتمالات بقاء المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل من حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي في السلطة فحسب، بل إن انسحاب حزب الديمقراطيين الأحرار من المفاوضات مع حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، وشقيقه البافاري حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي، وحزب الخُضر، يشير أيضا إلى انقضاء أي رغبة في تشكيل حكومات ائتلافية مستقرة، وهي الممارسة التي ظلت معتادة في السياسة الألمانية منذ أواخر أيام ولاية المستشار كونراد أديناور بعد الحرب.

بطبيعة الحال، من دون مشاركة حزب الديمقراطيين الأحرار، تستطيع ميركل أن تسعى إلى تشكيل حكومة ائتلافية مع حزب الديمقراطيين الاجتماعيين. ولكن حزب الديمقراطيين الاجتماعيين المدمر تقريبا يقول إنه عازم على البقاء في المعارضة، في محاولة للتعافي من هزيمته الساحقة في صناديق الاقتراع. ومن غير الوارد أيضا تشكيل أي ائتلاف محتمل آخر، لأن لا أحد ينظر إلى حزب من أقصى اليسار، أو حزب البديل من أجل ألمانيا من أقصى اليمين، باعتباره شريكا مقبولا.

ولكن من الممكن أن نتصور رغم ذلك حكومة أقلية بقيادة ميركل. ولأن الرئيس فرانك والتر شتاينماير أعرب عن نفوره من الدعوة إلى عقد انتخابات جديدة، فإن مثل هذا السيناريو قد يُصبِح مرجحا إذا لم تستقل ميركل بإرادتها. وحتى إذا أجريت انتخابات جديدة، فلن تأتي النتيجة مختلفة كثيرا، إلا إذا تنحى زعيم حزب الديمقراطيين الاجتماعيين مارتن شولتز.

وربما يمكن تشكيل حكومة أقلية بواسطة حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي وحزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي دون مشاركة رسمية من أحزاب أخرى. وائتلاف الأقلية الذي يضم حزب الخُضر من شأنه أن يرغم حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي على تقديم تنازلات في ما يتصل بقضايا مثل الهجرة وسياسات المناخ، وهو ما قد لا يكون ضروريا لولا ذلك، نظرا لعجز حزب الديمقراطيين الاجتماعيين (من اليسار)، وحزب الخُضر عن منع إقرار التشريعات. وسوف تحاول ميركل ذاتها تجنب تشكيل ائتلاف أقلية مع حزب الديمقراطيين الأحرار، حتى يتسنى لها أن تتفادى الاعتماد عليه. ومن جانبه، يود حزب الديمقراطيين الأحرار لو يشارك في مثل هذه الحكومة لنفس السبب بالضبط. فهو بذلك يُصبِح قادرا على احتواء انجذاب ميركل للأخضر والأحمر (الديمقراطيين الاجتماعيين والاشتراكيين والخُضر).

الواقع أن حكومة الأقلية، أيا كانت عناصر تشكيلها، ليست أمرا سيئا بالضرورة. فمع سعي الحكومة إلى إيجاد شركاء لاستنان التشريعات حسب الطلب، يُصبِح البوندستاج (مجلس العموم في الهيئة التشريعية الألمانية) أخيرا موقعا للحوار العام الحقيقي مرة أخرى. فعلى مدار فترة طويلة، كانت الحكومات الائتلافية تتفاوض على قرارات الحكومة وراء الأبواب المغلقة، وكان البوندستاج إما أن يصدق على النتائج تلقائيا أو ينقضها.

وسوف يكون المستفيد الأكبر من تعزيز قوة البرلمان الأحزاب الصغيرة التي كانت لتحظى لولا ذلك بفرصة ضئيلة لتأكيد نفوذها. وفي المقام الأول من الأهمية، سوف يستفيد من الحوار المفتوح حزب البديل من أجل ألمانيا، الذي يُعَد النسخة الألمانية من حزب الجبهة الوطنية في فرنسا، والذي خرج من العدم كثالث أكبر حزب في ألمانيا في انتخابات سبتمبر/أيلول. حتى الآن، كان تركيز وسائل الإعلام منصبا إلى حد كبير على تشويه سمعة الحزب. ولكن البوندستاج الأكثر استباقية سيتحول حتما إلى منبر لاستعراض حجج وخطابة حزب البديل من أجل ألمانيا.

من ناحية أخرى، لا شك أن السياسة الخارجية لأي حكومة أقلية فيدرالية ستكون ضعيفة، وسوف تجد ميركل صعوبة كبيرة في الاضطلاع بدور نشط في السياسة الأوروبية. بيد أن هذا يعني أيضا أن شركاء ألمانيا الأوروبيين سيناضلون لفرض التنازل على الحكومة الألمانية. وسوف تشكل هذه الديناميكية أهمية خاصة لفرنسا، نظرا لهدف الرئيس إيمانويل ماكرون المتمثل في توطيد منطقة اليورو من خلال تزويدها بالمزيد من صِفات الدولة، ورغبته في الدفع إلى الأمام بأوروبا ذات السرعتين التي تتألف من منطقة اليورو ومجموعة ثانوية كبيرة من خارج منطقة اليورو تضم بلدان الشمال ودول الاتحاد الأوروبي الشرقية.

وسوف يكون لزاما على حكومة الأقلية في ألمانيا أن تعقد مناقشات مطولة مع كل المجموعات البرلمانية في البوندستاج حول كل قرار رئيسي قبل أن توافق على مقترحات ماكرون ــ أو أي شخص آخر. وتعني المعارضة الفعّالة في الداخل أن الحكومة لن تظل قادرة على الإذعان تحت ستار الليل لعمليات إنقاذ عديدة لشركاء ألمانيا في الاتحاد الأوروبي.

هذا هو ما حدث في مايو/أيار 2010، عندما أُجبِرَت حكومة ميركل، بواسطة الثلاثي الفرنسي الذي يتألف من رئيس البنك المركزي الأوروبي جان كلود تريشيه والمدير الإداري لصندوق النقد الدولي دومينيك شتراوس كان والرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، على انتهاك معاهدة ماستريخت بإنشاء صندوق إنقاذ لدائني اليونان الأجانب، وأغلبهم بنوك فرنسية. كما اضطرت ألمانيا إلى التنازل في عام 2012، عندما دُفِعَت ميركل إلى الموافقة على إنشاء اتحاد مصرفي وبرنامج "المعاملات النقدية الصريحة" الذي تقدم به البنك المركزي الأوروبي، والذي حول سندات الحكومات الأوروبية فعليا إلى سندات اليورو.

على نحو مماثل، أصبحت قرارات ميركل التلقائية ــ مثل تحركها نحو التخلص التدريجي من الطاقة النووية في غضون بضعة أشهر من كارثة فوكوشيما في اليابان، أو السماح للاجئين بالدخول إلى ألمانيا من دول ثالثة آمنة ــ في حكم المستحيل الآن. وهو أمر مرحب به، لأن الساسة كثيرا ما يندفعون بفِعل زخم أفكارهم الخاصة إلى اتخاذ قرارات ذات عواقب وخيمة في الأمد البعيد.

فمع التخلص التدريجي من الطاقة النووية على سبيل المثال، لا تستطيع ألمانيا الآن أن تحترم تعهداتها بمكافحة تغير المناخ إلا بإلحاق الضرر بجزء من قاعدتها الصناعية، أو ربما خسارته بالكامل. وبالسماح لنحو 1.5 مليون مهاجر بالدخول في غضون عامين فقط، فرضت ألمانيا أيضا عبئا هائلا على دولة الرفاهة الاجتماعية، وشجعت أنصار الخروج البريطاني دون قصد، وحشدت كل أوروبا الشرقية ضدها.

من المبكر للغاية أن نجزم بكيفية حل عدم اليقين السياسي الذي يواجه ألمانيا وأوروبا الآن. لكن ميركل التي يمكن مساءلتها ومحاسبتها من قِبَل البوندستاج ربما تكون البديل الأفضل لدى ألمانيا الآن.

* هانز فيرنر سن، أستاذ الاقتصاد والمالية العامة في جامعة ميونيخ ورئيس معهد ايفو للبحوث الاقتصادية
https://www.project-syndicate.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق