في العام الذي يسبق الانتخابات، غالبا ما تعتمد الحكومات سياسة التوسع المالي والنقدي. والفكرة هي أن تسريع وتيرة نمو النواتج ومعدل العمالة من شأنه أن يعزز شعبية الرئيس المتولي مهام منصبه قبل الانتخابات، ولن تُدفع التكلفة المتعلقة بمشاكل الديون والتضخم إلا بعد التصويت. ولكن الورقة...
بقلم: جيفري فرانكل
كمبريدج- إن الافتراض الذي يُرجح إحداث تخفيض كبير لقيمة العملة الرئيسية مباشرة بعد الانتخابات وليس قبلها، يخضع الآن لإعادة النظر. ونظرا لأن هذا العام هو الأوفر على مر التاريخ من حيث عدد الناخبين، فإن سياسة خفض قيمة العملة ستكون لها عواقب بعيدة الأثر.
ولعل خبراء الاقتصاد يتذكرون المقالة البحثية القوية (Political Business Cycle دورة الأعمال السياسية)، التي أنجزها خبير الاقتصاد الحائز على جائزة نوبل، ويليام د. نوردهاوس، في عام 1975. ويقول نوردهاوس أنه في العام الذي يسبق الانتخابات، غالبا ما تعتمد الحكومات سياسة التوسع المالي والنقدي. والفكرة هي أن تسريع وتيرة نمو النواتج ومعدل العمالة من شأنه أن يعزز شعبية الرئيس المتولي مهام منصبه قبل الانتخابات، ولن تُدفع التكلفة المتعلقة بمشاكل الديون والتضخم إلا بعد التصويت.
ولكن الورقة البحثية الرائدة لنوردهاوس تنبأت أيضاً بدورة سياسية في العملة الأجنبية. وأشار نوردهاوس إلى أن الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية قد تسعى إلى دعم قيمة عملاتها قبل الانتخابات، حتى لو أدى ذلك إلى إنفاق احتياطياتها من النقد الأجنبي، ولكن سرعان ما ستنخفض بعد ذلك.
وطُورت نظرية دورة الانتخابات وخفض قيمة العملة على نحو كامل في سلسلة من الأوراق البحثية التي كتبها إرنستو شتاين والمؤلفون المشاركون. وربما تُخفض قيمة العملة عمدا، ثم تلوم الحكومة الجديدة الحكومة المنتهية ولايتها على العواقب الناجمة عن ذلك، بما في ذلك التضخم، وفي غالب الأحيان الانكماش الاقتصادي. (إن خفض قيمة العملة لا يلقى قبولا عاما وهذا يضاعف احتمال خسارة أي زعيم سياسي لمنصبه خلال الأشهر الستة بعد خفض قيمة العملة مقارنة بالأوقات العادية). أو ربما تفرض عملية خفض القيمة على البلاد في هيئة أزمة في ميزان المدفوعات.
ويبدو أن الأحداث الأخيرة تدعم هذا الرأي. لنأخذ على سبيل المثال الانتخابات الرئاسية التي أجريت في نيجيريا في فبراير/شباط 2023. لطالما كان شاغل المنصب، الذي كانت فترة رئاسته محدودة، يستخدم سياسة التدخل في النقد الأجنبي، وضوابط رأس المال، وأسعار الصرف المتعددة لتجنب خفض قيمة النايرا. ولكن رئيس نيجيريا الجديد بولا تينابو، أشرف على خفض قيمة العملة بنسبة 49 في المئة في 14 يونيو/حزيران 2023، بعد أسبوعين فقط من تنصيبه. (ولم يكن هذا كافيا لاستعادة التوازن في ميزان المدفوعات، ومنذ ذلك الحين سجلت قيمة النايرا مزيدا من التراجع).
وتركيا هي مثال آخر على ذلك. فقبل انتخابات مايو/أيار 2023، أعطى الرئيس رجب طيب أردوغان للبنك المركزي تعليماته التي عُرفت على نطاق واسع والتي تتمثل في إبقاء أسعار الفائدة منخفضة من أجل تعزيز النمو والتدخل لدعم الليرة، الأمر الذي أثار سخرية كبيرة بسبب إصراره على أن السياسة الشعبوية من شأنها أن تقلل من التضخم المرتفع. وبعد التصويت، انخفضت قيمة الليرة على الفور، واستمرت في الانخفاض على مدار العام.
ثم هناك الأرجنتين التي فاجأت العالم بانتخاب خافيير مايلي في انتخاباتها الرئاسية التي أجريت في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. وكثيرا ما وُصف مايلي -الذي لا يمثل حزبا سياسيا راسخا- بأنه تحرري يميني متطرف، وقد خاض حملته الانتخابية على وعد بتقليص دور الحكومة في الاقتصاد، وإلغاء قدرة البنك المركزي على طباعة النقود.
وبعد يومين من تنصيب مايلي، خفض قيمة البيزو بأكثر من النصف. وخفض أيضا الإنفاق الحكومي (على سبيل المثال، على دعم الطاقة)، مما مكنه من تحقيق فائض في الميزانية بسرعة، وأجرى إصلاحات شاملة تدعم قطاع الأعمال. ومع أن التضخم لا يزال مرتفعا جِدا، فإن احتياطيات البنك المركزي من النقد الأجنبي توقفت عن الانخفاض بعد خفض قيمة العملة، وهي النتيجة التي تتوافق مع نظرية نوردهاوس.
والمثال الرابع هو مصر. إن الرئيس عبد الفتاح السيسي كان بإمكانه ضمان إعادة انتخابه في انتخابات ديسمبر/كانون الأول الماضي، وذلك بفرض سيطرته على مؤسسات الدولة وتحييد أي منافس سياسي جدي. ومع ذلك، أجلت حكومة السيسي التدابير الاقتصادية غير المرغوب فيها إلى ما بعد التصويت، مع أن الاقتصاد عانى من أزمة لبعض الوقت. وخُفضت قيمة الجنيه المصري (بنسبة 45 في المئة)، في السادس من مارس/آذار، وهو إجراء كان متوقعا على نطاق واسع، ويندرج في إطار برنامج لصندوق النقد الدولي تَضمن أيضاً المطالب المعتادة فيما يتعلق بالانضباط النقدي والمالي، التي لا تحظى بقبول عام.
والمثال الأخير هو إندونيسيا، التي شهدت انخفاض قيمة الروبية منذ الانتخابات الرئاسية المثيرة للجدل في فبراير/شباط. إذ اقتربت من أدنى مستوى لها على الإطلاق في وقت سابق من أبريل/نيسان. ولم يُنصب بعد الرئيس المنتخب برابوو سوبيانتوـ الذي فاز بالانتخابات بفضل دعم سلفه جوكو ويدودو الذي يتمتع بشعبية كبيرة ولكن فترة رئاسته محدودة. ويبدو كما لو أن الحكومة المنتهية ولايتها تحاول أن تسدي معروفا لسوبيانتو، وذلك بإبعاد سياسة خفض قيمة العملة من طريقه.
وبطبيعة الحال، فالانتخابات لا تؤدي دائما إلى انخفاض قيمة العملة. ولا يبدو أن الهند، حيث تُجرى الانتخابات الآن، ولا المكسيك، التي من المقرر أن تجري انتخابات في يونيو/حزيران، تحتاجان إلى تعديل كبير لسعر الصرف. ولكن دورة الانتخابات وخفض قيمة العملة من الممكن أن تستمر في بوليفيا، على سبيل المثال، التي تخضع لضغوط ميزان المدفوعات الهائلة، في ظل تضاؤل الاحتياطيات الدولية المتزامن مع قرب إجراء انتخاباتها الرئاسية المقررة في عام 2025.
ويمكن للمرء أن يتصور أيضاً أن هذه الدورة قد تترسخ في فنزويلا، حيث يعاني الاقتصاد من حالة من الفوضى، بسبب سوء الإدارة التي دامت لفترة طويلة، وحيث يبالَغ في تقدير العملة (البوليفار) باستمرار. ولكن كما تحظر الحكومة فعلياً المنافسين السياسيين -لن يُسمح لأي من مرشحي المعارضة الرئيسيين بخوض الانتخابات الرئاسية في شهر يوليو/تموز المقبل- فإنها تحظر في الأساس شراء العملات الأجنبية. ونتيجة لذلك، فقد يمر وقت طويل قبل استعادة التوازن إلى سوق الصرف الأجنبي.
إن إنفاق الاحتياطيات من النقد الأجنبي ليس الوسيلة الوحيدة لدرء انخفاض قيمة العملة؛ بل يمكن أيضًا استخدام ضوابط رأس المال أو أسعار الصرف المتعددة. ولكن في حين أن مثل هذه التدابير من الممكن أن تمكن الحكومات من تأجيل الإصلاحات الصعبةـ وخاصة في بيئة سياسية قمعية، حيث يكون الزعماء محميين من غضب الناخبين- فإن الضغوط الرامية إلى التكيف مع أساسيات الاقتصاد الكلي أمر لا مفر منه.
اضف تعليق