يبدأ الابتكار كوميضٍ، كفكرةٍ، سواءً أكان لاختراع منتج أم خدمة أم حلٍّ جديد تمامًا، أم مجرد طريقة أفضل على نحو جوهري للقيام بأمرٍ ما نقوم به بالفعل. والتطلع إلى هدف طموح، بغضِّ النظر عن مدى صعوبة تحقيقه، يثير اهتمامَ الأفراد ويحفِّزهم من خلال إشراكهم في شيء أكبر منهم...
تبدأ عملية الابتكار بطموح يستحق الجهد. وبالرغم من أن الابتكار ربما يحدث من حينٍ إلى آخر نتيجةً للعبقرية، أو البراعة المحضة، أو متعة الاكتشاف الخالصة، فإنه يكون في الغالب نتيجةً لعملية منظمة تستلزم جهدًا كبيرًا. ويزيد المجهود والانضباط حين يكون الأفراد متحمسين للسعي من أجل أشياء طموحة. والأفراد -المدفوعون برغبة في القيام بشيء جديد ونافع- قادرون ومستعدون لتحمُّل المخاطر التي يقتضيها الابتكار؛ ومن ثمَّ لتعزيز الابتكار في مؤسستك، ابدأ بنوع من البحث في ذاتك لتحديد طموح يستحق الجهد؛ طموح يرتبط بنحوٍ ما بخَلْق عالم أفضل.
يبدأ الابتكار كوميضٍ، كفكرةٍ، سواءً أكان لاختراع منتج أم خدمة أم حلٍّ جديد تمامًا، أم مجرد طريقة أفضل -على نحو جوهري- للقيام بأمرٍ ما نقوم به بالفعل. والتطلع إلى هدف طموح، بغضِّ النظر عن مدى صعوبة تحقيقه، يثير اهتمامَ الأفراد ويحفِّزهم من خلال إشراكهم في شيء أكبر منهم.
بالطبع، من الممكن الابتكار من دون أهدافٍ سامية أو تطلعات عظيمة، لكنك إذا كنت مهتمًّا بالاستعانة بأشخاص أذكياء متحمسين في رحلة الابتكار غير اليقينية، فإن الطموح الذي يستحق الجهد يكون مصدرًا قيِّمًا للتحفيز.
لتوضيح هذه التوصية، سنلقي نظرة على دراستَيْ حالة مثيرتين للتطلُّع إلى هدف طموح، بالإضافة إلى رحلة الابتكار التي نتجت عنهما؛ وهما: إنقاذ عمال المناجم التشيليين في منجم النحاس سان خوسيه في عام ٢٠١٠، والجهد المبذول لتقليص الأخطاء الطبية في تشيلدرنز هوسبيتال آند كلينيكس في مينيابولس، بولاية مينيسوتا الأمريكية.
تصوِّر دراستَا الحالةِ هاتان الابتكارَ عبر العمل الجماعي في أفضل صوره. تسلِّط كلُّ قصة كذلك الضوءَ على أهمية الهدف السامي الذي يستحق التعب من أجله، الذي يتحقق (ليس من دون قلق وشك، بل إخفاق أيضًا) من خلال التعاون المرن بين أشخاص ساهموا بمهاراتهم المختلفة؛ لأنهم آمنوا -بشدة على الأغلب- بذلك الهدف.
(١) هدف نبيل
في الخامس من أغسطس من عام ٢٠١٠، انهار أكثر من نصف مليون طن من الصخور في منجم النحاس سان خوسيه في شمال شيلي، لتسدَّ مدخل المنجم تمامًا. إن حوادث المناجم شائعة للأسف، لكن ذلك الحادث كان أول سابقة من نوعه لعدة أسباب؛ من بينها: بُعْد العمال عن السطح، والعدد الكبير من العمال العالقين، وصلابة الصخور. لقد دُفِن ثلاثة وثلاثون رجلًا تحت الأرض وهم أحياء، تحت ألفَيْ قدم من الصخور الأكثر صلابةً من الجرانيت. في تشيلي، حُدِّدت التقديرات المبدئية لاحتمالية العثور على أي أحياء في هذا المنجم بحوالي عشرة بالمائة، وهي احتماليةٌ تضاءلت بشدة بعد يومين، عندما نجا عمَّال الإنقاذ بأعجوبة من انهيارٍ ثانوي لممر التهوية؛ مما قضى نهائيًّا على خيار إنقاذ العمال عبر ذلك الممر.
ومع ذلك، خلال ٧٠ يومًا أُنقِذ عمالُ المناجم الثلاثة والثلاثون جميعهم، وقد حدثت هذه النتيجة الاستثنائية بسبب التزام عدد من القادة «بالهدف السامي والنبيل المتمثِّل في إنجاز عملية إنقاذ ناجحة»، بالرغم من العقبات الشديدة الصعوبة التي كانت تواجِه نجاحَهم. من الجليِّ أن عملية الإنقاذ تطلَّبَتِ ابتكارًا؛ فببساطة لم يكن هناك حلٌّ، سواء أكان داخل مجال المناجم في البداية أم خارجه. وقد تطلَّبَ هذا الابتكار الجهودَ الجماعية لأكثر من مائة خبير من مجالات مختلفة؛ من أجل تطوير وتنفيذ حلٍّ جديد على وجه السرعة.
وقد حدث الابتكار في هذه القصة في ميدانَيْن مختلفين للغاية؛ تمثَّلَ الميدان الأول -الذي يثير التفكيرُ فيه بالغَ الألم- في عمَّال المنجم الذين كانوا يواجهون تحدِّي النجاة على المستويَيْن البدني والنفسي، وقد اتخذ الابتكار هنا شكلَ نظامٍ اجتماعي جديد كان يهدف للحفاظ على حياة الثلاثة والثلاثين رجلًا وقواهم العقلية في ظروف رهيبة. وتمثَّلَ الميدان الثاني في اجتماع مجموعة كبيرة من المهندسين وعلماء الجيولوجيا من مؤسسات ودول مختلفة؛ للعمل على حل المشكلات التقنية المتمثِّلة في تحديد موقع عمَّال المناجم المحتجَزين، والوصول إليهم وإخراجهم؛ وقد أثمر ابتكارهم عن تصميم نظامِ إنقاذٍ جديد تمامًا وتطويره. ولدعم جهود هؤلاء الموجودين داخل منجم سان خوسيه وخارجه، اتخذ كبارُ القادة في الحكومة التشيلية -من بينهم رئيسُ البلاد- قراراتٍ، وقدَّموا المواردَ والتحفيزَ.
(١-١) العمل الجماعي من أجل النجاة
داخل المنجم، وسط الصدمة والخوف، أخذت القيادة والعمل الجماعي في استعادة السيطرة على الأمور بعد بداية مرتبكة. بعد الانهيار مباشَرةً تدافَعَ عمَّالُ المنجم إلى «مأوى» المنجم الصغير. بدأ لويس أورزوا -الذي كان يتمتع بسلطة قيادية رسمية على المجموعة بصفته ملاحِظ المناوَبَة- بفحص المؤن المتاحة في المأوى، وفي هدوء وسرعة، ركَّزَ على الاحتياجات الأساسية للبقاء على قيد الحياة، ولا سيما الطعام المتاح المحدود (الذي كان يكفي لإطعام عاملين فحسب لمدة عشرة أيام)؛ ومع ذلك، لم يَسُدِ الهدوء. غضب ماريو سيبولفيدا -وهو رجل في التاسعة والثلاثين من عمره يتمتع بشخصية كاريزمية- من حالة المنجم ومن إهمال الشركة المستمر لعوامل السلامة، وجاء بردِّ فعلٍ غاضب على الانهيار، وقد جذبت حيويتُه أتباعًا، وسرعان ما ظهرت الانقسامات والصراعات. أراد بعضهم اتخاذَ إجراءٍ من أي نوع للخروج من المنجم، بدلًا من الجلوس بلا حول ولا قوة بانتظار الإنقاذ، في حين أراد آخَرون اتِّبَاعَ إرشادات أورزوا؛ وبانتهاء الأربع والعشرين ساعةً الأولى، كانت طاقة عمَّال المنجم قد استُنزِفَتْ من المحاولات الفاشلة للتواصُل مع العالم الخارجي، متخبطين بفعل انعدام الضوء الطبيعي. ومع قلة الاهتمام بالنظافة الشخصية أو النظام، وبعد أن غلبهم الجوع والتعب، حاوَلوا أن يأخذوا قسطًا من النوم.
وفي اليوم التالي، تدخَّلَ أحد عمال المنجم -وكان يُدعَى خوسيه إنريكي- ليحثَّ المجموعةَ على بَدْء كلِّ يومٍ بصلاة جماعية، وسرعان ما أصبح ذلك روتينًا دائمًا، وساعَدَ على توحيد المجموعة حول هدف مشترك؛ وهو النجاة. ومع عدم وجود مخطَّط سابق لكيفية البقاء على قيد الحياة في هذه الظروف، كان النقاش والتجريب ضروريَّيْن لاكتشاف سبيلٍ للخروج. وفي الأيام التالية، مع مواجهة الظلام والجوع والاكتئاب والقذارة والألم، تعاوَنَ عمَّالُ المنجم معًا تعاوُنًا شديدًا للحفاظ على النظام والصحة والنظافة الشخصية والسلامة العقلية.
(١-٢) العمل الجماعي لحل المشكلات التقنية المعقَّدة
فوق سطح الأرض، وصلت مجموعة العمليات الخاصة التابعة لقوات الكربينيروس التشيلي -وهي واحدة من صفوة وحدات الشرطة الخاصة بعمليات الإنقاذ- بعد ساعات قليلة من الانهيار الأول، وقد أدت محاولتهم المبدئية في الإنقاذ إلى انهيار ممر التهوية، فكان ذلك أول إخفاق كئيب لجهود الإنقاذ؛ ومع انتشار أخبار حدوث انهيار في أحد المناجم، توافَدَ أهالي العمَّال وفِرَق الاستجابة للطوارئ وعمَّال الإنقاذ والمراسلون الصحفيون إلى الموقع. في الوقت نفسه، أرسل مسئولون آخَرون في مجال التعدين التشيلي خبراءَ وآلاتِ حفرٍ وجرافاتٍ، وأرسلت شركةُ كوديلكو -الشركة الحكومية التي تُشرِف على منجم سان خوسيه- لقيادة عملية الإنقاذ أندريه سوجاريت؛ وهو مهندس ومدير ذو خبرة تزيد على العشرين عامًا في مجال التعدين، كان معروفًا برصانته وتبسُّطه مع الناس.
شكَّل سوجاريت ثلاثَ فِرَق -بالتعاون مع عدة خبراء تقنيِّين آخَرين- للإشراف على جوانب مختلفة من عملية الإنقاذ؛ اضطلعت إحدى الفِرَق بالبحث عن الرجال؛ حيث راحت تحفر حَفْرًا عميقًا بالحفَّار في الأرض أملًا في سماع أصوات تدل على وجود أحياء، وعمِلت فرقة أخرى على كيفية الإبقاء عليهم أحياءً إذا ما وجدوهم، وأما الفرقة الثالثة فعملت على كيفية إخراجهم على نحوٍ آمِنٍ من المأوى.
في الثالث عشر من أكتوبر، بدأ إخراج عمَّالَ المنجم واحدًا تلو الآخَر في رحلة إلى سطح الأرض تستغرق ١٥ دقيقة، وعلى مدار اليومين التاليين، أُخرِج العمال واحدًا تلو الآخر عبر كبسولة إنقاذ بعرض ٢٨ بوصة، دُهِنت بألوان العلم التشيلي الأحمر والأبيض والأزرق؛ وبعد دقائق قليلة من تبادُل الأحضان مع الأقارب، اصطُحِب كلُّ عامل من عمَّال المنجم للفحص الطبي.
(١-٣) منهجية لا هي من القمة إلى القاعدة، ولا من القاعدة إلى القمة
بالتأمُّل في عملية إنقاذ العمال التشيليين، يتَّضِح أن أي منهجية منطلقة من القمة إلى القاعدة، أو تقوم على القيادة والسيطرة - من ذلك النوعُ الذي يمكن استخدامُه بنجاح في أزمة لها حلٌّ معروف، مثلما يحدث حين يندلع حريق أو يُرصَد إعصار وشيك - كانت ستفشل فشلًا ذريعًا. لم يكن باستطاعة شخص واحد أو فريق قيادي واحد أن يكتشف كيفية حل هذه المشكلة، كما أنه من الواضح أن مجرد تشجيع شخصٍ ما على محاولة القيام بأي شيء يراه مناسِبًا، لم يكن سيثمر سوى الفوضى والضرر. وتعيَّنَ منع الأهالي وعمال المناجم والآخرين من ذوي النوايا الحسنة مراتٍ عديدة، من الاندفاع إلى الصخور مُمْسِكين بالبلطات في محاولةٍ لكسرها، بل بدلًا من ذلك، كان الأمر يتطلَّب -لمواجهة حجْمِ الكارثة غير المسبوق- العملَ الجماعي المنسق والمَرِن في الوقت نفسه؛ ويتمثَّل ذلك في عمل مجموعات عديدة مؤقتة من الأشخاص، على نحوٍ منفصل، على أنماط مختلفة من المشكلات مع التنسيق فيما بينهم، وذلك بحسب ما تقتضيه الظروف. يتوجَّب على هذه المجموعات أن تبتكر بطُرق لا يستطيع أحدٌ توقُّعَها عند بداية عملهم معًا؛ يتضمَّن ذلك القيامَ -على نحوٍ جيد- بالتجريب التدريجي؛ وهو أحد أساليب الابتكار الأساسية.
ما الذي ينبغي على القادة في الشركات الأخرى الاستفادة به من هذه القصة؟ دعونا ننظر إلى مبدأين أساسين من مبادئ القيادة، يساعدان على تحفيز الابتكار في أي مؤسسة.
أولًا: التزمت القيادة العليا في كارثة المنجم على الملأ بتحقيق نتيجة إيجابية، لتخاطِرَ بذلك بمواردها وسمعتها من أجل نتيجة بعيدة الحدوث. يُشبِه الرئيسُ التشيلي سيبستيان بينيرا -الذي كان منتخَبًا حديثًا في ذلك الحين- في قراره القيامَ بذلك؛ قادةً آخَرين يواجهون تحدياتٍ شبه مستحيلة في عملهم، وهم مستعدون للإعلان عن التزامهم المبكر والكلي بتحقيق النجاح. إن التطلُّعات الطموحة بالضرورة محفوفةٌ بالمخاطر، لكنها محفِّزة كذلك.
ثانيًا: يجب على القادة أن يُطالِبُوا بإتاحة دورة تعلُّم سريعة؛ وفي خضم عملية التعلُّم المتكررة هذه، يجب على كل فرد توقُّعُ الفشل والتعلُّم منه. في تشيلي، تعاوَنَ الخبراء التقنيون معًا لوضع خيارات واختبارها وتعديلها ونَبْذها مرةً بعد أخرى، إلى أن توصَّلوا إلى خيار فعَّال؛ لقد نسَّقوا جهودَهم سريعًا لوضع حلول متنوِّعة وتجرِبتِها، واعترفوا بفشلهم بنفس السرعة أيضًا، حين فشلت تلك الحلول. لقد كانوا يغيِّرون مسارَهم طواعيةً بناءً على تقييم الموقف - الذي كان بعضه واضحًا (انهيار ممر التهوية)، وبعضه خفيًّا (حين أخبرهم مهندسٌ تدخَّل في منتصف العملية بتكنولوجيا جديدة، أن قياساتهم لم تكن دقيقةً). ربما يكون الأمرُ الأهمُّ أن المهندسين لم يعتبروا الفشلَ المتكرِّر دليلًا على استحالة نجاح عملية الإنقاذ. (بالمثل، شكَّلَ عمَّالُ المنجم فريقًا ناجحًا لحل المشكلات المُلحَّة التي تقف في سبيل بقائهم على قيد الحياة، بالرغم من كل الاحتمالات اليائسة).
اضف تعليق