قادتنا في أغلب الأحيان يعتمدون حصريًّا على صفةٍ واحدة؛ العقل أو القلب أو الشجاعة. ولسوء الحظ، عندما تفعل ذلك فإنك تتجاهل الصفتين الأُخْرَيين اللازمتين للنجاح؛ فإذا كان كل ما تحاول فعله هو إظهار دقتك التحليلية، فقد تبدو متبلد الشعور ومفتقرًا إلى الحس الأخلاقي، والأهم من ذلك أنك ستفتقر...
الأوقات الصعبة تتطلَّب قادةً كاملين؛ فالقادة الجزئيون يعانون في عصرٍ يتسم بالتناقُض والغموض والتقلُّب. ربما نجح تبنِّي منهج القيادة الأحادية البُعْد في أوقاتٍ أقلَّ تعقيدًا، لكن في ظل بيئةٍ تتسم بالتعقيد الأخلاقي، والتغيُّرات السريعة في التوجهات، والظروف الاجتماعية والسياسية، والأوضاع الاقتصادية والتكنولوجية؛ أصبح لزامًا على القادة أن يكونوا قادرين على استخدام عقولهم وقلوبهم وشجاعتهم حسبما تقتضي الظروف.
في السنوات الأخيرة، خذل كلُّ القادة السياسيين والدينيين والعسكريين وقادة الأعمال مؤيديهم؛ ففي حين أظهر الرئيس جورج دبليو بوش شجاعةً في استراتيجيته الشرسة لمكافحة الإرهابيين، اتهمه منتقدوه بالافتقار إلى الحكمة والشفقة في سياسة الحرب على العراق. وربما كان تعامُل قادة الكنيسة الكاثوليكية مع مشكلة اعتداء الكهنة على الأطفال يتَّسِم بالإشفاق على القساوسة، لكن معظم الناس أُصِيبوا بخيبة الأمل من عدمِ اهتمامهم الواضح بالضحايا، وعزوفِهم عن اتخاذ موقفٍ قويٍّ بشأن العقاب والتعويض. وبينما اتسم قادةُ الأعمال بالبراعة الشديدة والخبرة في تحقيق النتائج القصيرة المدى، فإنهم لم يُظهِروا الجرأة والثبات الداخلي اللازمَيْن لفعل الصواب على نحوٍ منتظمٍ في مواجهة احتياجات المساهمين المتنافسة، والضغط المستمر من أجل الأداء، والحاجة إلى إبقاء الموظفين مهتمين بالعمل ومتحمسين له.
أي إن قادتنا في أغلب الأحيان يعتمدون حصريًّا على صفةٍ واحدة؛ العقل «أو» القلب «أو» الشجاعة. ولسوء الحظ، عندما تفعل ذلك فإنك تتجاهل الصفتين الأُخْرَيين اللازمتين للنجاح؛ فإذا كان كل ما تحاول فعله هو إظهار دقتك التحليلية، فقد تبدو متبلد الشعور ومفتقرًا إلى الحس الأخلاقي، والأهم من ذلك أنك ستفتقر إلى القدرة على التعامُل بفعالية خارج حدود نطاقٍ ضيقٍ من المواقف. وعندما تحاول خلق ثقافةٍ قوامُها التعاطُفُ، قد تخسر فرصًا كان سيلاحظها قائدٌ يتَّسم بمزيدٍ من الفطنة والحس الاستراتيجي. أما الاعتماد الحصري على شجاعة معتقداتك وصلابتك، فقد يجعلك تُقلل من تقدير العواقب السلبية التي ستصيب الأشخاص الذين تحاول قيادتهم.
وقد أوضح ديفيد بروكس -كاتب أحد الأعمدة الصحفية في صحيفة «نيويورك تايمز»- على نحوٍ بارع إخفاقاتِ القيادة المؤسسية في إحدى مقالات الرأي، بعد فترةٍ قصيرةٍ من ضرب إعصار كاترينا لولاية نيو أورليانز؛ فعلى الرغم من أن تركيزه المبدئي انصبَّ على قلة التعاطف وضعف الأداء اللذين أبدتهما إدارةُ بوش في التعامُل مع سكان المدينة التي غمرتها السيول؛ فقد لاحظ أن هذا الفشل في القيادة كان جزءًا من اتجاهٍ أكبر. وأشار بروكس إلى أزمة تعاطي لاعبي البيسبول للمنشطات، وإلى فضائح المؤسسات، وسوء معاملة الجيش الأمريكي للسجناء في سجن أبو غريب، ولاحَظَ كيف أن الشعب فَقَدَ الثقةَ في القادة على النحو نفسه الذي حدث خلال سبعينيات القرن العشرين.
وبصفتنا مستشارين ومدرِّبين في مجال تطوير المسئولين التنفيذيين، فقد لاحظنا الاتجاه نفسه في مجال المؤسسات، والسبب في ذلك يرجع إلى القيادة الجزئية. لقد استمعنا إلى رؤساء تنفيذيين يَشْكُون من عدم وجود قادةٍ كاملين بين صفوف المسئولين التنفيذيين، ويُعبِّرون عن خوفهم من أن يكون الموظفون قد فقدوا ثقتَهم بهم. وسألونا: «هل من الممكن اكتساب القدرات المعرفية، والذكاء العاطفي، والشجاعة، من جانب القادة الذين يفتقرون إلى سمة أو سمتين من هذه السمات؟»
طالما سألنا أنفسنا السؤال نفسه، وعلى مدار سنوات، كرَّسنا أنفسنا لمساعدة كبار القادة على اكتساب القدرات المعرفية والذكاء العاطفي في بعض الأحيان. ومؤخرًا، أصبح تركيزنا منصبًّا على المطلب الإضافي المتمثِّل في الجرأة - الشجاعة - على الرغم من أن هذا المجال ما زال يحتاج إلى بذل الكثير من الجهود من جانبنا (ومن جانب الجميع أيضًا). وعلى الرغم من ذلك، فكلُّ ما فعلناه في عملنا وما رأيناه في العالم الأكبر يخبرنا أنه من الممكن تطوير قادةٍ كاملين، لكن هذا متوقِّفٌ على ابتعاد المؤسسات عن نماذج التطوير المعرفي التقليدية، وتبنِّيها أسلوبًا أكثرَ شموليةً.
بدايةً، لنعترفْ بالخطأ؛ فنحن كمستشارين ساهمنا في مشكلة القيادة الجزئية. لقد فعلنا المنوط بنا في مجال التدريس، وبلا شكٍّ ساعدت جهودنا في إبراز المهارة المعرفية باعتبارها مكونًا أساسيًّا للنجاح في القيادة. ولحسن الحظ، فقد تعلَّمنا أيضًا من أخطائنا، واكتشفنا أنه حتى أبرع القادة التحليليين يفشلون إنْ كانوا يفتقرون إلى بعض الصفات الأخرى غير المعرفية. وفي واقع الأمر، وجدنا في كتابنا السابق (كتاب ديفيد وبيتر) الذي حمل عنوان «لماذا يفشل الرؤساء التنفيذيون؟» أنَّ بعضًا مِن أنجب كبار المسئولين التنفيذيين الذين دَرَّسنا لهم كانوا يفتقرون إلى الوعي بنقاط ضعفهم الشخصية، وأن انعدام الوعي أدَّى إلى سقوطهم. وهذا يعني أن الرؤساء التنفيذيين الذين يمتلكون القدرةَ العاطفية على فهم أنفسهم وتأثيرهم على الآخرين، بالإضافة إلى امتلاك المهارات المعرفية، لديهم فرصةٌ أكبر لأن يكونوا قادةً ناجحين.
وهكذا بدأنا نؤكِّد على أهمية الصفات «العاطفية» لتدعيم الصفات «العقلانية»، ووجدنا أن القادة الذين يسمحون بظهور نقاط ضعفهم أو يمنحون الثقة قبل اكتسابها -ما نطلق عليه مهارات القيادة «غير الطبيعية»- يكونون في الغالب أكثر فعاليةً في بعض المواقف مقارَنةً بالقادة التقليديين المعتمِدين على إصدار الأوامر والسيطرة. وقد طوَّرنا أسلوبَ تنميةٍ ساعَدَ القادةَ على التطوُّر معرفيًّا وعاطفيًّا.
لكنَّ شيئًا ما كان ناقصًا، وقد لاحَظَ كلٌّ منا أحدَ جوانب هذا الشيء الناقص بطريقته الخاصة، ومن خلال خبرته الخاصة؛ فلاحَظَ ستيف، الذي يتمتع بخبرةٍ شاملةٍ في الإدارة على نطاقٍ عالميٍّ -إذ كان سفيرًا خاصًّا للاتحاد السوفييتي في حكومة الرئيس ريجان- أن ما جعل القادة أمثال ميخائيل جورباتشوف ورونالد ريجان قادةً ناجحين، هو القدرة على المخاطرة بمعتقداتهم. أما بيتر، فبصفته رئيسًا سابقًا لقسم علم النفس الاستشاري في جامعة كولومبيا، فقد عمل باستمرارٍ على تنمية القدرة على التعاطُف والتواصُل لدى القادة؛ وكان شاهدًا بنفسه على شجاعة جولياني عمدة نيويورك عقب أحداث ١١ سبتمبر، وكيف ساعَدَ مدينة نيويورك في التعامُل مع اليأس والخوف. أما ديفيد، بصفته نائبَ رئيسٍ تنفيذيٍّ سابقًا لعدة شركاتٍ كبرى، من بينها هانيويل إنترناشونال، فقد عمل مباشَرةً مع بعضٍ من أذكى الرؤساء التنفيذيين، لكنه رأى أن أساس نجاحهم على المدى الطويل - إلى جانب احترام الآخَرين وإخلاصهم لهم - كان رغبتَهم في فعل الصواب بدلًا من اللجوء إلى الإجراءات السهلة أو المناسبة سياسيًّا.
«الشجاعة» مصطلح شامل للصفة التي طالما كانت مفقودة، وهي تعني الاستعداد لفعل الصواب، مهما كان صعبًا. وقد اتضح لنا أن القادة الذين يمتلكون القدرةَ على إظهار الشجاعة إلى جانب الذكاء المعرفي والعاطفي، هم الأكثر قدرةً على التعامُل مع الصعوبات التي تواجهها المؤسساتُ في وقتنا المعاصر. وليست الشجاعة بمعنى الإقدام على مخاطَرةٍ طائشةٍ هي الصفة المهمة ها هنا؛ بل المقصود هو الاستعداد للإقدام على المخاطَرة، اعتمادًا على معتقداتٍ وقِيَمٍ قوية.
هذا الإدراك ليس جديدًا ولا فريدًا، لكننا في حاجةٍ إليه الآن أكثر من أي وقتٍ مضى. وبمجرد البدء في توسيع فهمنا للقيادة الفعَّالة، بدأنا تجربتها على مختلِف الشركات والقادة، ووجدنا أن الاستجابة كانت إيجابيةً على نحوٍ ساحق؛ فالمسئولون التنفيذيون من كل أنواع الشركات، الذين يواجهون كافة أنواع المواقف المختلفة، سرعان ما رأَوْا أن نموذج العقل والقلب والشجاعة، أيًّا كان توصيفه، كان يستحقُّ الاختيارَ، والتدرُّبَ عليه، وتبنِّيَه.
اضف تعليق