تشهد الكثير من دول العالم ومجموعاتها الدولية الإقليمية والعالمية وجود العديد من المنظمات المهتمة بحقوق الإنسان، ومنظمات الدفاع عن حقوق الإنسان التي كانت تمارس نشاطها تحت مسميات عدة مثل الجمعيات الخيرية والتضامنية تحولت فجأة إلى كيانات مهيكلة وآلات شرسة للدعاية والتمويل وجمع الأدلة والحقائق. لقد تكاثرت هذه المنظمات التي تحولت إلى أدوات بيد القوى العالمية على نحو مذهل للغاية لتصبح اليوم من المسلمات الثابتة في حياتنا اليومية، كما اكتسبت نوعاً من القداسة الوهمية الأمر الذي ساهم في وضعها فوق المساءلة رغم الشبهات والسقطات المتلاحقة. أسئلة كثيرة تدور في أذهاننا ونحن نتابع التقارير الدورية لتلك المنظمات الدولية التي تمنح نفسها الحق في مناقشة أمور مجتمعنا وإبداء الرأي غير الدقيق حوله، متجاهلة الخصوصيات الحضارية والثقافية والدينية والإجتماعية فيه.
والغريب في الأمر أن معظم الساعين لذلك يستندون في تأييد مسعاهم بما تقدمه لهم دول الغطرسة من دعم، وبتشجيع وتأييد من حكومات هذه الدول التي تشهد بلدانها العديد من حالات انتهاك حقوق الإنسان. فلا جدال في مشروعية وجود منظمات حقوق الإنسان عند ممارسة دورها بموضوعية، ولكن السؤال الذي من الجائز طرحه: أين منظمات حقوق الإنسان من واجباته، فهل غفلت هذه المنظمات أم تغافلت عن مدى الارتباط التبادلي بين الحق والواجب وأن المطالبة بالحق تقتضي القيام بالواجب، وأن من لم يقم بواجبه لا يمتلك مشروعية المطالبة بحقه، وهل تغافلت عن أنه ليس من حق أحد المطالبة بحقوق الغير ما لم يحمل وكالة قانونية تخوله ذلك، وإن كان من حق الإنسان التظاهر للتعبير عن رأيه، أليس من الضروري أن يكون هذا الأمر محكوماً بتشريعات تنظمّه؟ ولماذا تعمل الدول الغربية الكبرى على تقييد حرية التظاهر في بلدانها وفقاً لما تنص عليه تشريعاتها ولا ترى وجوب تحقق ذلك في بلدان أخرى؟
تمثيلية حقوق الإنسان التي يؤديها الغرب من ذوي الدم الأزرق ودساسي اللوبي الصهيوني في امريكا والغرب الأوروبي، إنما تدار في رهان على عنصر اللاشعور السياسي الذي ولّد معارضة جدلية ذات عقل سياسي مؤسس على التمذهب، والذي لا يزال ولو في حدّه الادنى مطلوباً اللعب به وشدّ عصبيّاته من أجل تفتيت البلدان، وأهم أغراضه فرض بربرية استعمارية جديدة على الفكر الحر الذي يقاوم الأطماع والغزوات الاستعمارية الجديدة.
ومن جلابات الحظ الكلاسيكية التي يعتمد عليها الغرب في إيجاد الذرائع، تلفيقات لا يخدع بها حتى السذج، مثل حالة المذبة التي اتخذت ذريعة لاحتلال بلد عربي في شمال إفريقيا قبل أكثر من مائة عام، أو مثل حادثة دنشواي في مصر للقضاء على انتفاضة الريف المصري.
أما في أيامنا فتستخدم المنظمات الإقليمية والدولية كأدوات في فرض عقوبات، وثمة أنشوطة المنظمات المتباكية على حقوق الإنسان مثل منظمة أفاز وهيومن رايت ووتش وغيرها، التي تلفق التقارير وهي معروفة في مصادر تمويلها، كي تيسّر التدخل الاستعماري، وهي تغمض عيونها أو لا حول لها ولا قوة عندما يكون هناك انتهاك واضح لحقوق الإنسان يُرتكب بأيدي مشغّليها ولو كان ينفذ خلال عشرات العقود كما يجري في فلسطين على يد إسرائيل، أو على مدى سنوات كما في العراق الذي دمرته أمريكا وعاثت فيه قتلاً وفساداً، أو في ليبيا التي أعيدت ساعة الزمن فيها إلى الحقبة الفاشية.
المفارقة المُرّة أن هذه المنظمات كانت ولا تزال شاهداً يتم إحضاره حين الحاجة السياسية إليه، وليس وفق مقتضيات الأمانة القانونية والأخلاقية أو حسب الدور والمهام الموكلة لهذه المنظمات، وفي أحيان كثيرة تكون أداة تحكمها الأهواء السياسية والمصالح، وتفرض الهيمنة الدولية أجنداتها على مسارها وعلى استنتاجاتها، أكثر مما تتحكم بها مبادئها ومقتضيات وجودها القانوني والأخلاقي!
شاركت الولايات المتحدة في إنشاء عدة مؤسسات دولية وعدة منظمات غير حكومية لكي تعمل على ترسيخ فكرة حقوق الإنسان، ليس كغاية بحد ذاتها، بل كوسيلة تستخدم عند الحاجة لتفكيك المجتمعات والدول التي لا تسير في فلك سياستها، أو بالأحرى في المجتمعات والدول التي تناهض السياسة الأمريكية، بحيث تصبح هذه الدول والمجتمعات تعيش حالة من التناحر والتناقض والتضاد بما يشل قدرات الدولة ويحول دون نهوضها وتقدمها.
وهكذا نجد أن هيئات تابعة للأمم المتحدة مثل مجلس حقوق الإنسان، تستغلها القوى الكبرى كأدوات فاعلة في مجتمعات العالم الثالث ودوله، بينما لا تأثير لها البتة في أمريكا، أو الدول الأوروبية، لأنها ترفض رفضاً قاطعاً أن تتدخل أية هيئة دولية أو غير دولية في شؤونها الداخلية.
هذا وتساعد بعض المؤسسات الخاصة مثل فورد و روكفلر على حماية المصالح الأمريكية، وإن تمت تغطية ذلك تحت شعارات السلام العالمي والتنمية والقيم الديمقراطية والمصالح الدولية، وحماية حقوق الإنسان وغير ذلك من الشعارات البراقة التي يكمن وراءها ما يكمن، وعلى سبيل المثال تصل الأصول المالية لمؤسسة فورد إلى 14 مليار دولار أمريكي، يصرف منها نحو 350 مليون دولار كل عام، بينما تبلغ الأصول المالية لمؤسسة روكفلر نحو3 مليارات دولار يوزع منها 137 مليوناً في العام...
هذا مع العلم بأن المركز الرئيسي لهاتين المؤسستين العملاقتين هو مدينة نيويورك. وقد بدأت مؤسسة روكفلر نشاطها عام 1930 عن طريق دفع الأموال الطائلة للمفكرين والعلماء والمثقفين اليهود الألمان لنقلهم من ألمانيا إلى جامعات ومراكز أبحاث الولايات المتحدة الأمريكية، هذا وتتسلم إدارة هذه المؤسسة حالياً سيدة يهودية. والجدير بالذكر أن مؤسسة روكفلر هذه تقدم الهبات المالية لدعم المؤسسات الأمريكية التالية: لجنة العلاقات الخارجية الأمريكية، مؤسسة كارنيجي للدراسات والأبحاث، البنك الدولي، مؤسسة بروكينغز للأبحاث، الجامعات الأمريكية البارزة مثل جامعة هارفرد، مركز العلاقات العامة في لندن. هذا وما التشديد أو التركيز على إنشاء منظمات غير حكومية في بلدان الشرق الأوسط إلا طريقة حديثة ومدروسة لتوفير ظروف وسبل التدخل في مسار وسياسات الدول عبر إغداق الأموال لموضوعات خاصة ونشاطات غالباً ما تكون مشبوهة تقوم بها منظمات تحت عنوان الجمعيات الأهلية.
لقد خيبت المنظمات الدولية آمال معظم شعوب العالم لابتعادها عن غاياتها التي أنشئت من أجلها، بسبب تسييس عملها بشكل صارخ، ولازدواجية المعايير التي تتبعها في التعامل مع القضايا العالمية، ففي قاعات هذه المنظمات الفارهة تابع العالم التنظير بالمبادئ وحقوق الإنسان والعدالة من قبل الأعضاء، ولا سيّما الكبار، وعند التصويت كانت المصالح هي التي تحضر فقط، ويضرب بالمبادئ عرض الحائط، بذريعة أن السياسة هي فن الممكن!
لا نريد أن نحمّل المنظمات الدولية ما هو خارج سياق وجودها في إطار النظام العالمي، ولا أن نضيف إلى أجنداتها الحافلة بالمفارقات المزيد، لكنها قد تصلح للقياس على التجاذبات والصراعات المحتدمة بين أجنحة النظام العالمي القائم بأجنداته القديمة منها والجديدة، وبمشاهد التقاطعات في الرؤية الدولية التي تستحضر مخاوف إجراءات استباقية أكثر مما هي معنية بحقائق ما جرى والجرائم التي ترتكبها التنظيمات الداعشية الإرهابية وأخواتها في العديد من البلدان العربية، المدعومة من دول إقليمية وأخرى دائمة العضوية في مجلس الأمن، ومثلت بالنسبة لها ورقة للضغط السياسي وستاراً لدعم الإرهاب بطرق ملتوية ومباشرة دون حرج.
على هذه القاعدة يأخذ حديث المنظمات الدولية عمّا ترتكبه التنظيمات الإرهابية الجزء الذي يتوافق مع أجندات تلك الدول ولا يعير انتباهاً لآلاف المشاهد التي تمارس فيها تلك التنظيمات جرائمها بأدوات قدمتها لها تلك الدول، وقنوات سهلت لها العبور، وتغاضت من خلالها عن كل ما أقدمت عليه، فيما كانت المنظمات الدولية الشاهد الغائب عن الحضور على حلبة السياسة.
نحن نعي أن للمنظمات الدولية تأثيراً كبيرا فيما يتصل بصياغة المعاهدات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان وهي المعاهدات التي تشكل جزءاً من القانون الدولي، ونعلم أيضاً أن لتلك المنظمات تأثيراً مهماً في وسائل الإعلام بأنواعها المختلفة حول العالم من خلال شبكة عالمية مكرسة لنشر تقاريرها وبياناتها التي يطال تأثيرها القرارات السياسية الخارجية للعديد من دول العالم. جهات تشريعية أوروبية عدة بما فيها البرلمان الأوروبي والكونغرس الأميركي تتأثر بتقارير هذه الجهات أيضاً بالإضافة إلى العديد من المؤسسات الدولية المالية المهمة مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وذلك عبر تقييمها للأوضاع السياسية في الدول المستهدفة وقياس مدى إستقرارها فيما يتعلق بالتزاماتها بحقوق الإنسان.
وعليه، يتحتم على هذه المنظمات الحقوقية أن تصدر تقارير منصفة ومحايدة وموضوعية وذات مصداقية، وأن تتخذ مواقف ثابتة من الظلم وانتهاك الحريات في كل بقاع العالم سواسية. نحن نجدها للأسف تقف صامتة تجاه الغطرسة واﻻنتهاكات الإسرائيلية المستمرة في الأراضي الفلسطينية وسوريا وأفغانستان، وكذلك تجاه المجازر وعمليات القمع الدموية والتطهير العرقي الذي يمارس بشكل ممنهج على إخواننا المسلمين في بورما.
أتساءل دائما إن كان دور المنظمات الحقوقية هو تقييمي بحت لأداء حقوق الإنسان، أم أنها تمثل أداة ابتزاز تستخدمها الدول الداعمة والمانحة لتسخير تقاريرها لصالح رؤيتها السياسية في المنطقة. من الواضح جداً أن سياسة المكاييل المتعددة لدى تلك المنظمات في التعامل مع قضايا حقوق الإنسان هي أقرب ما تكون إلى العنصرية من كونها حقوقية، ومن واجب هذه المنظمات الحقوقية الدولية ـ مهنياً وإنسانياً وأخلاقياً ـ فضح انتهاكات حقوق الإنسان أينما كان دون تمييز.
العديد من المنظمات تتّبع سياسة انتقائية موجهة بقوة دفع سياسي فالإنتهاكات الحقوقية في دول معيّنة يجري تضخيمها أو اختلاقها في حين تقابل بصمت مخزٍ ومعيب في دول أخرى. لماذا لا تتخذ تلك المنظمات مواقف ثابتة من الظلم وانتهاك الحريات في كل بقاع العالم سواسية، ولماذا تظن أن حقوق الإنسان منتهكة في العالم الثالث فقط بينما يعج العالم الأول بإنتهاكات صريحة لحقوق الإنسان؟
لاشك أن الهدف السامي لحقوق الإنسان أخذ بالانحراف عن مساره نتيجة للممارسات الإنتقائية الصارخة في حقوق الإنسان التي باتت إملاءاتها بمثابة سيف مسلط فوق رؤوس الساسة في العالم، وحجة أخلاقية وقانونية ضاغطة للقيام بتغيرات هي مطلوبة في الأساس لهدف سياسي. إن النظرة إلى صغائر الأمور على حساب كبائرها يعد أحد ضروب التآمر السياسي والأخلاقي على حريات الشعوب دون شك فالحرية ليست سلعة مطروحة في سوق المصالح، كما أن قضايا حقوق الإنسان في العالم ليست مادة للابتزاز السياسي.
لقد آن الأوان لتوقف هذه المنظمات سياسة إزدواجية المعايير التي تمارسها إزاء قضايا حقوق الإنسان، حيث أن التجاهل الغربي المتزايد و الملحوظ، والأوروبي منه تحديداً تجاه الكثير من القضايا الإنسانية العالمية والكيل بمكيالين إزاء قضايا محقة، قد بات مشيناً.
طالما كان للدول القوية مصالح، فمن المؤكد أن التدخل آت لا محالة، بل وتمنح المنظمات الحقوقية صلاحيات واسعة لتفعل ما تشاء من توجيه إدانات وشجب وتنديد وتدخل سافر في شؤون الدول المعنية. إن الكثير من التقارير التي تصدر عن منظمات حقوق الإنسان حول دول منطقتنا العربية تتبنى مفهوماً محدوداً لهذه الحقوق، وتتجاهل عن عمد وإصرار أو عن جهل وعدم معرفة بالجوانب الإقتصادية والإجتماعية لهذه الحقوق التي تتفوق دول منطقتنا فيها تفوقاً كبيراً.
فإلى متى ستبقى المنظمات الدولية مسيسة ومصابة بالفصام وشاهد زور، وكنا نظنها ستكون عوناً للشعوب الفقيرة والمظلومة في هذا العالم الذي تملكه فعلاً الجشع وشهوة القتل والعدوان...!!
ورغم ذلك كله تنظر شعوب العالم هذه الأيام بشغف ولهفة وأمل وترقب، لمستقبل أفضل بدأت تلوح ملامح لظهور عالم جديد متعدد الأقطاب علّه يكون أكثر عدلاً وتوازناً، يعيد للشعوب المظلومة بعض حقوقها، ويبعد عنها الخوف والقلق والقتل ويجعل المنظمات الحقوقية الدولية فعالة ومتوازنة ومهنية بعيدة عن التسييس والازدواجية في عملها، ولتصبح عوناً لحل مشكلات العالم لا عبئاً عليها، تخفف آلام ملايين المظلومين والمعذبين في الأرض، ولتكن حائلاً حقيقياً لمنع حدوث المزيد من الحروب.
هل تحقيق التوازن أمر مستحيل؟
رغم كل ما سبق، نحن لا نجادل في مشروعية وجود هذه المنظمات، ولا نقول إنها شر بالمطلق، ونتمسك بمبدأ أن وجودها أفضل من عدمه، وأن العلة ليست فيها بل في القائمين عليها.
والسؤال: أليس في الإمكان تحقيق توازن من نوع ما في عملها بغض النظر عن النيات والأهداف المشبوهة من وراء تأسيسها، أم إن ذلك أمر مستحيل باعتبار أن منطق القوة لا يمكن أن يكون إلا شراً بالمطلق؟
نعلم أننا لا نعيش في عالم طوباوي، وأن العلاقات بين الدول تقوم على المصالح والمكاسب، وأن الدول ليست جمعيات خيرية، لكن ذاك السؤال يبقى مشروعاً، ولاسيما مع وصول القوى الغربية الاستعمارية إلى أدنى درجات الانحطاط في الإنسانية.. العالم اليوم يحتاج إلى عملية استدارة كاملة، لينظر وراءه ويمعن فيما خلفته هذه المنظمات من كوارث ومآس، وليبدأ التفكير في عمل شيء ما يعيد نصاب الإنسانية وحقوق الإنسان إلى مجراهما الحقيقي.
اضف تعليق