يواجه النقد الأدبي الكثير من العوائق التي تشي بعدم أداء النقاد لدورهم كما ينبغي، في ملاحقة ما يستجد من إصدارات تكاد تستمر على مدار الساحة، لاسيما بعد أن رُفعت الحواجز وحتى الضوابط الفنية عن النشر، حيث بات كل من (هبَّ ودب) قادرا على نشر كتاب أدبي يقع بحسب (المؤلف) ضمن أحد الأجناس الأدبية، فقد يكون الكتاب رواية وما هو برواية، وقد يعطي المؤلف لكتابه صفة (الكتاب القصصي أو النقدي أو المسرحي) وما هو بذلك، من هنا بات الأمر الذي يتعلق بمهمة النقد عسيرا وينطوي عل صعوبات تكاد تكون مستعصية، أو في أفضل التوصيفات بالغة الصعوبة.
كيف يمكن أن ندعم النقد لكي يتسنى له القيام بمهمته النقدية بأفضل وجع، ومتابعة المنجز الأدبي كما هو متفق عليه، حيث تقع على عاتق جمهرة النقاد المختصين بفحص المتون الادبية، في الأجناس كافة، وهذه المهمة لا تقتصر على الشعر، او القصة، أو الرواية، او المسرح، بل تشمل العملية الادبية والثقافية عموما، وبهذا فهي مسؤولية كبيرة، تحتاج الى جهد متواصل، وبحث لا يكل في ما يُطرح على الساحة، من جديد في الآداب كافة، ولكن ثمة مشكلة تتعلق في هذا الكم الهائل من المطبوعات التي تصل الى السوق وتُعرض في المكتبات من دون أن يكون هناك معايير ضابطة لهذا الكم ونوعيته وانتمائه الى الإبداع.
علما أننا نتأخر عما يحدث في العالم المتطور بهذا المجال، حيث الالتزام بضوابط النشر، من لدن دور النشر والكتّاب معا، وغير مسموع لكل من يرغب بوضع اسمه على كتاب لا علاقة له بالأدب أو ضوابطه، لذلك لابد أن تتماشى نبرة النقد، وتوجهاته، مع التقدم الحاصل في هذا الحقل عالميا، بمعنى، لاينبغي أن يبقى النقد ساكنا في محله، في الوقت الذي اصبحت آفاق النقد متنوعة ومضاهية للابداع بصورة عامة، بما ينطوي عليه من تجديد وتألق، فالنقد لم يعد نصّا جافا وخاليا من الإبداع، إذ كان الناقد يُتهم بأنه شاعر أو قاص فاشل.. يفشل في الشعر والقصة فيلجأ الى النقد، هذه الرؤية لم تعد مقبولة، فالناقد اليوم بات منتجا للنص الإبداعي.
حدود مهمات العملية النقدية
من المؤكد أن النقد له مهمة واضحة المعالم، تختلف عن النصوص الإبداعية، حيث يرى بعض النقاد، أن ثمة للنقد وظيفة محددة، يقوم بها تجاه النص، كي يُبعد عنه الطابع العبثي، الذي قد يُلصَق به، وربما تختلف وظائف النقد، تبعا للنظرية التي ينتمي إليها، وينطلق وفقا لتطبيقاتها، وتحديداتها أحيانا، فيما ذهب نقاد المعاصرة، الى أن المؤلَّف النقدي، بمختلف صنوفه، سواء كان بحثا، او دراسة، او كتابا، او مقالة، أصبح راهنا، يضاهي النص، إن لم يتفوق عليه، وبذلك فهو ينتمي الى الابداع، حاله حال القصيدة، والقصة، والرواية، وبقية الأجناس الأخرى، وبهذا بات ينتمي الى الإبداع، ولا يختلف عن أي جنس أدبي مما هو راسخ ومتعارف عليه.
وعندما نعطي النقد مكانته المرموقة التي يستحقها، عند ذاك لابد أن تدرك النظريات والبحوث النقدية مكانتها، فهذه هي مراتب جديدة، حققها الجهد النقدي، كي يصل الى مصاف النص الابداعي، في شروطه المعروفة، وضوابطه التي لا تعني سمة الانغلاق والتحديد، بقدر ما تعني توافر الشروط التي تدعم النص، لتمنحه هوية الانتماء الى الابداع، وما كان للنقد، أن ينتقل من مهمته التقويمية البحتة، الى كونه نصا ابداعيا، لو لا المواهب النقدية المرموقة، التي تمكنت من تحديث النقد، على مدار الحقب الماضية، لترتفع به الى مضاهاة الابداع قوةً وتفرداً وجمالاً، ومع ذلك يحدث في هذا المجال ما يثير التساؤلات حول أسباب التراجع الذي يعاني منه النقد والنقاد، تُرى هل يقع النقاد في الإشكالية ذاتها التي يقع فيها كتاب الأجناس الأدبية الأخرى؟.
وثمة تساؤل آخر في هذا الإطار، هل يجوز بعد القفزات التي حققها النقد وعبوره الفجوة او البون الشاسع بين الابداع والكتابة التقويمية، أن يتراجع خطوات واضحة الى الخلف على يد النقاد الانتقائيين الجدد؟، ثم من سمح بظهور موجة من النقود التي لا يمكن أن تُمنح سمة الدخول لهذا الميدان الهام، وإذا دخلت العشوائية في النقد ماذا سيحدث في النصوص الأخرى؟!.
إن النقد يمكن أن يكون صمام الأمان للعملية الإبداعية وتقييمها، فهذا تعطل هذا الصمام عن دوره ماذا علينا أن ننتظر، وهنا أعني النقد العراقي تحديدا، ولا أدّعي الالمام بالمشهد النقدي العالمي، او العربي، وهو ما يستوجب جهدا يصعب تحقيقه، إلا من لدن ذوي المشاريع النقدية، التي تكدّ وتجدّ سنينا متواصلة، إن لم نقل عمرا كاملا، كي تعمل على التمهيد لاستخلاص نظرية نقدية عربية، لا تمت بصلة لنظريات النقد الغربية، كالبنوية أو الشكلانية الروسية او غيرها، ولكن هذا لا يمنع من تأشير مكامن الخلل، التي قد تظهر هنا او هناك، في النشاط النقدي العراقي، المنثور على صفحات الصحف اليومية، والمجلات، والدوريات، وبعض المواقع الالكترونية، علما أننا نتفق على أهمية أن يكون النقد سد يقف بالضد من من موجات الترهل الأدبي الذي يجتاح الساحة من دون معايير أدبية أو فنية.
النقد لم يأخذ دوره كما يجب
لا نريد أن تضعف أهمية النقد ولا الدور المهم الذي يؤديه الناقد، وفي هذا الصدد ثمة ما يمكن أن نطلق عليه بالظاهرة النقدية، ونعني بها النقاد الانتقائيين، وهو ما سألخصه باختصار هنا، إذ قد يأخذ احد النقاد على عاتقه، قراءة هذا المنجز الادبي او ذاك، ممثلا بكتاب سردي، او شعري، أو خلافهما، والحال الذي بدأ يتكرر، فيما يُنشر هنا وهناك من نقود انتقائية، فالناقد الانتقائي يدخل في عالم الكتاب السردي او الشعري او غيرهما من الاجناس، ليهمل كل ما ينطوي عليه من قصائد، او قصص أخرى، مستفردا بقصة او قصيدة واحدة، ثم يعطي من خلالها حكما نقديا على ما ورد في المتن الكلي للكتاب، وبطبيعة الحال، ان الانتقاء بهذه الصورة، لا يمكن أن يحقق الهدف المبتغى من النقد، ومع أننا نقرّ بأن نجاح النص النقدي، لا يتحدد بأهداف نقدية، تقويمية محضة، كما تفترض حداثة النقد، إلا أن سمة الانتقاء والاختزال لعوالم الكتاب الشعري، او السردي، بقصيدة او قصة واحدة، لابد أن تفتقد لشروط النجاح، وقد يأتي هذا الانتقاء تحت ضغط العلاقات الشخصية مثلا، أو سواها من الضغوطات، ما يحجب الفرص عن كتب ونصوص قد تستحق فرصة النقد أكثر من سواها.
على أننا ينبغي أن نعترف بأن النقد لم يأخذ دوره في معالجة الإشكاليات التي تغص بها الساحة الثقافية والأدبية، ولا شك أن هنالك ضعفا وتقصيرا في هذا المجال، تخلّفت الشخصيات الثقافية المعنية عن التصدي له بمصداقية وشعور تام بالمسؤولية، فالعجز والتكاسل والضمور الذي يعتري النقد، يثير أسئلة عديدة، تأتي في المقدمة منها، هل النقد يقف بوجه الترهل الثقافي والأدبي ويؤدي دوره كما يجب، أن زمام الأمر أفلت من يديه وباتت العملية النقدية عاجزة عن ملاحقة الكم العشوائي من أطنان الورق التي تحتوي على اللغة وتفتقر للأفكار والرؤية الأدبية؟؟.
اضف تعليق