بين أزقة السوق القديم، تعالت أصوات المطارق وهي تضرب على المعادن، لتعزف سمفونية التراث القديم، فما ان تدخل السوق حتى تصدح من بين المحال اصوات المطارق الضاربة، فهناك من يضرب على قطعة النحاس لتأخذ الشكل المطلوب، وهناك من ينقش عليها باستخدام المطرقة والأزميل، بينما هناك عامل فنان آخر يزخرف أشكالا جميلة على صفائح النحاس المطروقة، ليضيف بعدها لمساته الاخيرة فيرصعها بالأحجار أو يطليها بالفضة.
حرفيون عراقيون، صنعوا كل هذه الفنون، وتوارثوا المهنة فجعلوها تلتحق بأسمائهم، فاصبحوا يتميزون عن غيرهم بلقب الصفار او الصفارين، مهنتهم تجذب الاذان قبل العيون، فمجرد ان تسمع صوت عمل الصفار لا تستطيع ان تمر من دون ان تقف وتأخذ نظرة على الزخارف والالوان، وحركة المطارق وأيدي العمال.
ما يعرف بمهنة الصفارين أو (الصفافير) كما يطلق عليهم عامة الناس من تصليح الأدوات المنزلية، وتلميع الاواني القديمة، وصناعة الاباريق والقدور وأواني المطبخ، إن اغلب العاملين في هذه المهنة توارثوها جيلا بعد جيل، فكانت مهنة الصفارين مرغوبة جدا من قبل الناس قديما.
أسرار في هذه الصناعة
كانت معظم المواد المنزلية (الأواني) او جميعها تصنع من مادة (الصفر) حتى عام (1953) وبعدها، تم منع استخدام الاواني المصنوعة من الصفر من وازرة الصحة، حيث توقفت هذه المهنة لمدة من الزمن، وبعدها انتقلت الى صنع التحفيات، والاباريق المزخرفة والمطلية بالالوان، وهذا زاد وساعد على انتشارها وأبقاها في عهد (عبد الكريم قاسم)، حيث عادت حركة هذا السوق من جديد، ومع قدوم السياح الاجانب وشرائها بسعر مغري انتشرت هذه الصناعة اكثر.
وبعد مرور فترة من الزمن ومع بداية الحروب التي قامت في العراق عام 1980 توقف اصحاب هذه المهنة عن العمل لعدم توفير مادة الصفر، والتي كانت توزع عليهم عن طريق الجمعية التعاونية للحرف والصناعات الشعبية منذ عام 1959، إلا ان النظام آنذاك حجز مادة النحاس (الصفر) للصناعات الحربية والقتال، وهذه هي البداية المؤلمة للصفارين، فما كان من اصحاب هذه المهنة المخلصين في مهنتهم إلا ان يعتمدوا على انفسهم وعلاقاتهم، والقيام بشرائها بسعر مكلف من السوق السوداء، من أجل الحصول على هذه المادة، وهناك من هجرها، وترك صناعتها من اجل لقمة العيش بعيدا عن مهنتهم الاصلية .
وفي ظل انعدام حركة السياحة اُجبر العديد من أصحاب المهن إلى العزوف إلى مهن أخرى، لكن حتى مع هجر النقاشين لمهنتهم، تبقى فئة قليلة من هؤلاء الحرفيين مخلصين للمهنة، يحاولون إعادتها إلى الحياة من جديد، على الرغم من الموت والنسيان الذي وجدت نفسها فيه، وقد يأتي يوم من الأيام ونسمع أصوات مطرقة النحاس هنا أو هناك.
متى أُنشِأ سوق الصفارين؟
وعندما أنشأ هذا السوق كان يقع بالقرب من المدرسة المستنصرية التي كانت جامعة للعلوم، ويعود تاريخ سوق الصفافير في بغداد إلى القرن الثالث عشر الميلادي؛ وكان الغرض من إنشائها هو توفير المتطلبات اللازمة للناس وأهل العلم من الطلبة والمدرسين في ذلك الزمن، وكان الصفارون يصنعون لهم ما يحتاجونه من فوانيس وقناديل، وغيرها من الأواني والقدور وغيرها، وكان يضج السوق بأصوات المعادن، حتى يذكر في تاريخ بغداد أن السوق كان مكاناً مناسباً لتعويد الخيول على القتال من خلال سماعها ضجيج المعادن، ولكي لا تفر أثناء الحروب عند سماعها صليل السيوف وأصوات القتال .
مهنة الصفارين والأدب العربي
هذه المهنة الحرفية لها فضل كبير على الادب والشعر العربي، فالخليل بن احمد الفراهيدي اشتق الاوزان الشعرية من ضربات المطارق وذلك عندما دخل الى السوق واصغى الى كيفية الايقاعات، وعمل الصفارين وطريقة الاداء، فعمل على وضع هذه الاوزان ، كونها تساعد على تطوير المهارات السمعية للأذن، ويذكر أن البحور التي وضعها الفراهيدي وصل ععدها الى 15 بحرا استفاد منها الشعراء في نظم قصائدهم، ثم جاء احد تلامذة الفراهيدي ليضع البحر 16 ليصبح هذا عددها المعروف عبر التاريخ، ومن المفارقات التي لا تنسى، أن الأوزان الشعرية تحضر في ذاكرة الشعراء كلما وجدوا أنفسهم في احد اسواق الصفافير.
اسباب تراجع مهنة الصفارين
سوق الصفافير احد الأمكنة المهمة في التراث الشعبي، بل ويعتبر تحفة الصناعة العراقية، فكان الزائر الى العراق سابقا، اول شيء يقوم به هو القدوم الى سوق الصفارين، والقيام باقتناء التحف منه، والنظر إلى الصناعات النحاسية المعروضة للبيع والتمتع بها واختيار الأجمل منها .
وللاسف الشديد بدأ وضع السوق يتدهور ويتوقف عن العمل لعدة أسباب، حيث ايجارات المحال صارت مرتفعة جدا، والسبب الآخر هو الاستيراد وقلة مادة النحاس في السوق المحلية، في السابق كان أكثر الآباء لا يرسلون أبناءهم إلى التعليم العالي والجامعات فيتجهون للمهن، كما كان بالنسبة للنجار والصفار، فهما يصنعان كل شيء في البيت، في الزمن الماضي كان لا يتزوج أي شخص إذا لم يشتر (الطشت) والإبريق و (اللِّگن) والقناديل، كجهاز العروس، أما الآن فقد رحلت هذه العادة ولا أحد يشتري هذه الأواني، وأن الاستيراد غزا أسواق الصفارين، والسبب الآخر الإهمال الحكومي للحرفيين، وقلة السياحة في العراق، بالإضافة إلى اتجاه بعض التجار إلى استيراد بعض المواد التي تنافس المواد النحاسية المحلية، كالزجاجيات والبلاستيك والألمنيوم، وبسعر رخيص، مما جعل إقبال الناس على هذه المواد المستوردة، وترك الصفر كتحفة في الأسواق لا احد يقبل على شرائها .
هل ماتت مهنة الصفارين؟
السؤال المؤلم، هل توقفت هذه المهنة عن المشاركة والحضور في الاسواق؟، إن واقع حال هذه الاسواق قول بأن الصفارين يتركون اليوم مهنتهم التي توارثوها عن آبائهم واجدادهم، ولأن رواد السوق وأهل التراث الشعبي يعز عليهم توقف سماع أصوات العزف وسيمفونية المطارق تصدح من زواياه، والتي كنا نسمعها من مسافة بعيدة، لكن يبدو انها رحلت هي أيضا، ولم نعد نسمعها وهي تنشد وتزخرف كطائر مسرور .
لذا قاربت مهنة الصفارين على الانقراض، ولم يبق منها سوى الاسم واللقب فقط، حي كانت تعرف في العراق (باسم الصفافير) بعد أن غزا المستورد الرخيص الأسواق المحلية، مما جعل الأهالي يقبلون على شرائها، ويتركون ما يمثل جذورهم العميقة وتاريخهم الاصيل، وهو تراث شعبنا، لكنه بات مهددا بالاندثار ومعه تطوى آخر صفحة من تاريخ صناعة احدى الحرف العراقية المعروفة بمهنة الصفارين.
اضف تعليق