إنا أشعر كأنها لحظة متضخمة جدا، يتجمع فيها كل العمر حتى تكاد تنفجر من كثرة الأحداث والمواقف والحكايات والأعمال والأصوات والعلاقات والخير والشر والضحك والبكاء والأفراح والأتراح، سنوات تضج بكل هذه التناقضات، وبالمواقف التي لا يمكن أن تحصيها أو تتذكر عناوينها أو أحداثها أو أسباب حدوثها...

أقفُ الآن عند أعالي السبعين، على مشارف السنة السبعين من العمر، سبعُ عقودٍ مضت كأنها سبعُ لحظاتٍ أو أقل، حين أسأل نفسي ماذا فهمت من هذه الرحلة الطويلة الشاقّة، يأتي الجواب غامضا غير مفهوم، أشبهُ بالتمتمة المبهمة، فيُعادُ السؤال مرة أخرى وأخرى، ماذا فهمت من رحلة السبعين يا رجل؟

في الحقيقة لا يوجد جواب واضح ومحدّد، كلّنا قد نكون عاجزين عن الإجابة الشافية الوافية، ماذا تعني لك هذه اللحظة وأنت تقف عند نهايات العقد السابع من عمرك؟

أنا أشعر كأنها لحظة متضخمة جدا، يتجمع فيها كل العمر حتى تكاد تنفجر من كثرة الأحداث والمواقف والحكايات والأعمال والأصوات والعلاقات والخير والشر والضحك والبكاء والأفراح والأتراح، سنوات تضج بكل هذه التناقضات، وبالمواقف التي لا يمكن أن تحصيها أو تتذكر عناوينها أو أحداثها أو أسباب حدوثها.

أتذكر فيما يشبه الخيال أو الحلم بأنني أجلس في حضن شيخ جليل لحيته بيضاء، له عينان بارقتان كأنهما عينا شاب متَّقد الحضور، لكن الشيخ الذي هو جدّي كان قريبا من الموت جدا، وكنتُ لا أسمع صوتهُ ولا أفهمه أيضا، كنتُ طفلا لم تتجاوز سنواتي أصابع الكف، كان ذلك الشيخ وقورا كثير الصلاة والتسبيح والدعاء، وكان يضع شفتيه عند سمعي، يتكلم، لكن لا أفهم ماذا يقول، حين كبرتُ عرفت من أهلي بأنه كان يبسمل ويكرر كلمات معينة كأنه يريد أن يطبعها في قلبي، وكل ما حفظته عنه ذلك الوجه الأبيض المستدير وتلكما العينيْن الساطعتين، وتلك الابتسامة التي كانت تصارع الموت.

أتذكر عبوري السنة السادسة ودخولي في المدرسة الابتدائية، ومجتمع الطلاب الصغار، وروح التنافس العجيب فيما بينهم، غريبة نفسية الإنسان وشخصيته، فهو مليء بالمشاعر المتناقضة، يحب سريعا ويكره سريعا، يفرح سريعا ويحزن سريعا أيضا، يدخل في صراعات مع أقرانه لا حدود لها، لكنه بالنتيجة سيقف على مشارف العمر خالي الوفاض.

أتذكر أيضا خطوتي الأولى في حومة الأدب، كتبتُ قصتي الأولى، بطلتها جدَّتي التي أصابها العمى قبل أن تبلغ السبعين، عجوز لا يظهر عليها التقدّم في السنّ، وكانت ذات شخصية صارمة ولها هيبة، حتى أبي الذي كان العالم كله لا يقف في وجهه ينصاع إلى أوامر جدتي (أمه)، ويستجيب لأوامرها بلا نقاش أو تأخير في التنفيذ، إنها تستحق أن أكتب عنها القصة الاولى (العجوز الشابّة).... 

لم أكن أعرف أي أديب في العاصمة، أرسلتُ قصتي للنشر في البريد العادي، وضعتها في مظروف ورقيّ وكتبت عنوان المجلة وألصقت عليها طابعا بريديا وقذفت بها في فوهة صندوق البريد المرسَل، تابعتُ المجلة الشهرية، شهرا بعد آخر لتمرّ ستة شهور ولم يتم نشر قصتي فنسيتها وغصتُ في كتابة قصة عن بائع (اللبلبي) الذي يقف في باب مدرستنا، عن شخصيته الفذة، وجمال أسلوبه، وقدرته الهائلة على كسب قلوب الطلبة، فهو لا يردّ طالبا مطلقا، حتى لو باع كل ما لديه بلا مقابل، يحب الطلاب جميعا، ويقدم لهم الصحون الصغيرة الدافئة بقلب ناصع البياض وبحنان أم كبيرة، هذا البائع ذات يوم اختفى، ولم يعد إلينا أبدًا، قيل إنه مات بالسكتة الدماغية، ظلّ مكان العربة فارغا أكثر من أربعين يوما، وكان هذا الفراغ يحزننا كثيرا، حتى عادت العربة ذات صباح، رعاية ابنه الذي حاول أن يكون كأبيه وبذل قصارى جهده كي يحبه الطلبة الصغار لكنه فشل في ذلك.

في الشهر العاشر، أي بعد مرور عشرة شهور ظهرت قصتي منشورة في المجلة، فاجتاحني فرح لا حدود له، وركضتُ بلا توقف ثلاث أو أربع ساعات من الفرح، وأول شخص عرف بهذا الحدث السعيد هي (جدَّتي)، فقد أخبرتها بقصتي التي تم نشرها في مجلة مهمة منحتني هوية الانتماء إلى الأدباء، لم تفهم جدتي ما أخبرتها به ولم تفرح بنشر القصة التي هي بطلتها، ولم تكلف نفسها أن تمسك المجلة بيدها أو تقلّبها، ولم تقل لي كلمة، بل أمرتني كعادتها أن أجلب لها خمس سجائر (مزبَّن) من دكان (شمسه) المحاذي لبيتنا، وفي الوقت الذي كنتُ أقرأ فيه قصتي المنشورة عنها، كانت تسحب أنفاسا عميقة من السيجارة، وتسألني عن أبي الذي تأخر كثيرا هذا اليوم بينما يعصف الجوع بنا، وكنتُ أسمع كلمات السبّ والتذمر والنقمة من جدّتي على أبي لأنه لم يُحضِرْ لنا (المسواك) كعادته كلَّ يوم.

ماتت جدتي بعد أن تجاوز عمرها التسعين، ولم تعد هناك شخصية صارمة في البيت، أمي امرأة بسيطة لا تتكلم كثيرا، طلباتها لا تتجاوز طلبات أصغر الأطفال، وأبي بصوته الحنون لا يؤذي حتى نملة، البيت آل إلى الهدوء، بعد رحيل جدتي، ولكن لابد من روح جديدة تحرّك البيت وتعيد له (المشاكل الصغيرة) التي تنشر النشاط في أجواء البيت، وهكذا حلَّت علينا (زوجة أبي) الثانية، فاشتعل البيت مجددا بالزعيق والأوامر التي لا أول لها ولا آخر، فالمشاكل التي صنعتها المرأة الجديدة كانت من العيار الثقيل لا يمكن حلّها أو التعايش معها.

فررْتُ إلى الجيش هاربا من جحيم البيت، متأملا إنقاذ أمي وأخوتي من الجوع والحرمان ومن المرأة الصارمة (زوجة أبي الثانية)، فهي لا تزال في مقتبل العمر والموت بعيد عنها كالأمنيات المستحيلة، في الصرامة تتشابه جدتي وهذه الزوجة الثانية، ولكن هناك فارق كبير بينهما، فالزوجة الثانية تحمل قسوة متوحشة لا رحمة فيها، أما جدتي فكانت صرامتها من النوع الأليف المقبول الذي يحد من طلباتك لكن لا يسلب الحياة منك.

بعد ذلك سكنتُ في العاصمة، وغصتُ في وسطها الثقافي سنوات وسنوات، وكتبتُ قصصا كثيرة وكتبا اخرى وبعض الروايات، وأصدرتُ كتبا عدّة، حيث تسارعت السنوات كأنها لحظات رغم ضجيج الحروب المدمرة، إلا أن العمر كان سريعا، كأنه يسير في طائرة أسرع من الصوت، لأجد نفسي واقفا على مشارف السبعين، متطلعا إلى فقرات ومواقف وأحداث أخرى لابد من المرور عليها والعودة إليها مجدَّدا.

اضف تعليق