لم يكن عزوفنا عن المكتبة بدافع الكسل فقط. كان ثمة خلل في المنظومة نفسها؛ فلم يكن هناك من يشجعنا على القراءة أو يستثير فضولنا نحو استكشاف عوالم جديدة. كانت المكتبة مغلقة أمامنا بمعنى فكري لا حرفي؛ فقد غابت عنها الفعاليات والأنشطة التي تربط الكتب بحياتنا اليومية...

في ذاكرتي شريط من الأيام التي قضيتها طالبًا في المعهد التقني المسيب، أيام تكدست فيها الأهداف والطموحات، ولكنها لم تخلو من مشاعر الحيرة والاغتراب داخل أسوار المكان. ولعل واحدة من أغرب المفارقات التي ما زلت أتذكرها هي تلك المكتبة المركزية التي كانت كأنها مغلقة على نفسها، لا تُفتح أبوابها ولا تُقرأ كتبها. كانت المكتبة قائمة مثل تمثال، تشهد على زمن القراءة المنسي، وتُذكّرنا بأن ثروة العلم يمكن أن تكون مهجورة في موضعها، لا أحد يجرؤ على لمسها.

اللقاء الأول بالمكتبة

حين دخلت المعهد لأول مرة، كانت لديَّ صورة مثالية عن الحياة الجامعية. ظننت أن المكتبة ستكون ملاذي عندما أحتاج إلى المعرفة أو الهروب من الضوضاء. وكنت أسمع في المحاضرات أساتذتي يشيرون إلى كتب ومصادر موجودة هناك، فتتزايد لديَّ رغبة في زيارتها. وفي أحد الأيام، وبينما كنت أتجول مع أصدقائي، قررت أن أستكشف المكتبة المركزية. دفعت بابها بخفة، ووجدت نفسي في مساحة صامتة، مليئة بالكتب المغبرة والرفوف المهملة. كانت المكتبة أشبه بمكان نُسي في الزمن، عيون الكتب تُحدّق في الداخلين وكأنها تسألهم: أين أنتم؟ لماذا تركتمونا؟.

الكتب التي لم تلمسها الأيدي

على الرفوف، تراكمت المجلدات والموسوعات. لم يكن هناك أثر لقارئ أو باحث؛ فقط كتب مكدسة وكأنها تُكافح للبقاء. شعرت حينها بالأسى؛ فكيف يُمكن لمؤسسة أكاديمية أن تترك هذه الكنوز الفكرية عالقة في العزلة؟ هل أُلقيت اللائمة على الطلاب الذين فضّلوا المذكرات المختصرة على الكتب الكاملة؟ أم أن التكنولوجيا ووسائل المعرفة الحديثة أزاحت المكتبات جانبًا؟

ورغم أن المكتبة بدت خالية، شعرت بأن لها روحًا تُخاطبني، تقول لي إننا جزء من الإهمال، وإننا بتجاهلنا لهذه الكتب خسرنا صلتنا بماضينا وحاضرنا.

الضجيج الذي يبتلع الوقت

كانت الحياة في المعهد مليئة بالصخب؛ بين المحاضرات وورشات والمناقشات التي لا تنتهي عن الامتحانات والدرجات، لم يكن هناك متسع من الوقت للقراءة الترفيهية أو البحث الحر. الجميع يبحث عن الطريق الأسرع للوصول إلى النجاح الأكاديمي دون الالتفات إلى المعارف التي تشكّل أعماق الفكر. في هذا المشهد، لم يكن أحد يسأل عن المكتبة أو الكتب. أصبحت المكتبة كيانًا هامشيًا، بعيدًا عن الحياة اليومية، وكأنها وُجدت فقط لتملأ فراغًا في تصميم المبنى.

لماذا لم نقرأ؟

لم يكن عزوفنا عن المكتبة بدافع الكسل فقط. كان ثمة خلل في المنظومة نفسها؛ فلم يكن هناك من يشجعنا على القراءة أو يستثير فضولنا نحو استكشاف عوالم جديدة. كانت المكتبة مغلقة أمامنا بمعنى فكري لا حرفي؛ فقد غابت عنها الفعاليات والأنشطة التي تربط الكتب بحياتنا اليومية. لم نجد فيها بيئة تدفعنا للاستمرار أو مساحة تُرحب بأفكارنا.

العودة إلى المكتبة المفقودة

بعد سنوات من مغادرة المعهد، وفي خضم انشغالات الحياة، أجد نفسي أحيانًا أفكر في تلك المكتبة. أستعيد صورها في ذهني، وأتساءل: هل تغير حالها؟ هل بدأت الكتب تُقرأ؟ هل عاد الطلاب إليها كملاذ فكري؟

لعل الإجابة عن هذه الأسئلة لا تزال مبهمة، ولكن الأهم أنني أدركت شيئًا عميقًا؛ وهو أن المكتبات ليست مجرد مكان، بل هي انعكاس لثقافة مجتمع بأكمله.

نافذة على الأمل

رغم كل شيء، يبقى هناك أمل بأن نُعيد إحياء المكتبات في حياتنا. يمكننا أن نبدأ بخطوات بسيطة؛ بتنظيم فعاليات للقراءة، بتشجيع الطلاب على استكشاف الكتب بدلًا من اختزال المعرفة في مذكرات مختصرة. ربما يمكن للمكتبة أن تتحول من غرفة مهجورة إلى قلب نابض بالحياة. ففي النهاية، الكتب لا تموت، بل تنتظر قارئًا يُنفض الغبار عنها ويُعيد إليها الحياة.

وعندما نُعيد الاعتبار للمكتبات، لن نكون قد أنصفنا الكتب فقط، بل أنصفنا أنفسنا أيضًا.

اضف تعليق