يصعب على البشر صناعة الحُبّ، لكن يسهل عليهم صناعة الكراهية، البشر يميلون للشر أكثر من الخير، وللكراهية أكثر من المحبّة، لن يختفي الشر الأخلاقي ما دام الإنسان إنسانًا. ما دام الإنسان إنسانًا فهو يكذب ويراوغ وينافق ويكيد ويمكر ويسفك الدماء...

الحياة صراع أبدي، صراع مع أقدارك المفروضة عليك بالولادة والجينات، صراع مع التضادّ داخل ذاتك، صراع مع أولئك الأشرار في هذا العالم، صراع مع الطبيعة وقوانينها القسرية وما تباغت به الإنسان من كوارث وأوبئة، وصراع مع الشركاء في الأرض من مختلف الكائنات المتوحشة والحشرات وغيرها. الإنسان يتعلم الصراع منذ بداية حياته، ويظل يصارع الطبيعة والكائنات الأخرى وأخاه الإنسان ما دام حيًّا. الصراع قدر الإنسان في الأرض، وهو بالقدر الذي ينهك الإنسان ويستنزف طاقاته، يظل أحد أعمق الدوافع للإبداع وانبعاث المواهب وبناء الحضارة، بوصف الصراع تحديًا للفرد والمجتمع، ولا تتفجر قدرات الإنسان المختلفة ويبدع بلا تحدٍ. 

 ما دامت الحياة تقوم على الصراع وهو ليس طارئًا في الحياة، فمن الخطأ تربية الأبناء في عوائلنا ومدارسنا على أن العالمَ خيرٌ محض، وأن الشرّ طارئٌ والخير فقط هو الأصيل. ذلك ما يتسبّب بصدمات وانهيارات نفسية وعصبية وقيمية حادة للإنسان، بعد أن يكبر الأبناء ويصطدمون بالواقع المرير. الواقع يفرض على الإنسان أن يعيدَ النظر بفهم ذاته وفهم غيره، وتفسير تناقضات الحياة المختلفة، والسعي للخلاص من ضراوة تحدياتها الموجعة. ‏لا يمكن أن تكون الحياة كلها سعادة وفرح ومرح وابتهاج وسلام ومحبّة ورحمة صافية. لو فرضنا وجود هذا النوع من الحياة يسود في الأرض تتعطل حياة الإنسان، ويتسلط عليها التكرار والملل، ولن يحدث أي تغيير في الحياة، ويتوقف كلُّ شيء عن التطور والتكامل، لأن التطور والتكامل نتيجة طبيعية للتضاد. ‏لا يعرف قيمة السعادة مَن لا يعرف عذاب الألم، ولا يعرف قيمة الفرح مَن لا يعرف نكد الحزن، ولا يعرف قيمة الحُبّ مَن لا يعرف مشقة الكراهية، تٌعرَف الأشياء بأضدادها.

 أخصب دروس الحياة تتلخص في معرفة الأشياء بأضدادها، من حروب الأديان وآثارها الكارثية أمس واليوم يتعلم الإنسان أن الله ليس عدو الإنسان، وأن الدينَ يمكن أن يكون صوت صفح ورحمة وإحسان، وأن الإيمان صوت غفران. ومن تفشي الكراهية يتعلم الإنسان أن الكراهية لا تنتج في العلاقة بالإنسان المختلِف إلا كراهية مضاعفة، تُمرِض القلب، وتُسَمِّم الروح، وأن الحُبّ لا ينتج في العلاقة بالآخر إلا حبًّا مضاعفًا، يبثّ السلام في الروح، ويبهج القلب. وبتكريس الحياة الروحية، وإيقاظ الضمير الأخلاقي، وامتلاء القلب بالمحبّة، يتعلم الإنسان كيفية التحرّر من أغلال الكراهية، والاحتماء من الشرّ الأخلاقي.

 الإنسان كائن شديد التعقيد، من الصعب جدًا تفسير دوافع سلوكه، وتفسير بواعث مواقفه، وطبيعة شخصيته. بقدر ما يمتلك الإنسان من قدرة على البوح والتصريح والكشف يمتلك قدرة مضاعفة على الاختباء خلف أقنعة تحجب ما يكمن في ذاته العميقة. الإنسان بطبيعته مستعد للشر كما هو مستعد للخير أيضًا، لكن قوة محرضات الشر وتفشيها في الواقع تستفز الاستعداد للشر في داخل الانسان ليتفجر الشر بالفعل.

 يصعب على البشر صناعة الحُبّ، لكن يسهل عليهم صناعة الكراهية، البشر يميلون للشر أكثر من الخير، وللكراهية أكثر من المحبّة، لن يختفي الشر الأخلاقي ما دام الإنسان إنسانًا. ما دام الإنسان إنسانًا فهو يكذب ويراوغ وينافق ويكيد ويمكر ويسفك الدماء. القوانين والعقوبات والقيم الأخلاقية والأديان‏ والثقافات تهدف إلى خفض وتيرة الشرّ إلى أدنى مستوى ممكن، ولولاها لتحوّل الناس إلى أكلة لحوم البشر.

الإنسان كائنٌ لا تسعده نجاحات غيرِه، أكثر الناس يحزن في أعماقه من أيّ منجزٍ ثمين يقدمه قرينه، وإن كان كثير منهم يُظهِر خلاف ما يبطن. وربما يتفاقم حزنه فيتحول إلى موقف عدائي يضج بالحقد والضغينة أحيانًا، وقد يورطه الموقف العدائي بالغدر بأقرب الناس من الأقرباء والأصدقاء؛ لا لشيء إلا لتفوقهم عليه. 

قلما نشهد محبّة ليست مشوبة بالكراهية، إلا محبّة الله تنفرد بأنها محبّة صافية، وقلما نرى الإنسان الأخلاقي الذي يعيش الحياة بوصفها سلسلة مواقف تسعده إن أسعد غيره. افتراض علاقات بين الناس تخلو تمامًا من الكراهية افتراض طوباوي غير واقعي. حضور الكراهية في الحياة بموازاة حضور المحبّة أبدي، وهو تعبير عن الصراع المستمر في الأرض، والأضداد في الطبيعة الإنسانية. القوانين والكوابح العقابية والأخلاق والدين والثقافة والعلم والمعرفة والتربية السليمة والتعليم، كلها تخفض كثيرًا من الآثار الفتاكة للكراهية في حياة الأفراد والمجتمات، وتكرّس السلم المجتمعي، وتجعل حياة الإنسان أسهل.

 على الرغم من أن الحُبّ يغذي النرجسية، إلا أنه أحيانًا يضخمها إلى درجة تفسد الحُبّ، حين ‏ يسرف بعض المحبين بالثناء على ذاته، والإفراط باستعمال كلمة "أنا" بشكل مبتذل، وتكرار الإعلان المثير عن مزاياه وما يتفوق به على غيره، بأسلوب تسوده كثير من المبالغات وحتى الأكاذيب، ويظل يلح وهو يدعو حبيبه للإصغاء إليه كلّ مرة لإعادة هذه الكلمات المملة، ولا يسمح له بالتحدّث عن ذاته، وكأنه يبلغه رسالةً بالتفوق عليه ‏وعلى غيره، حتى يشعر مَن ينصت إليه بالاشمئزاز من الحديث والتواصل معه.

 يحُبّك الآخرون بقدر براعتك في بناء صورتك المضيئة في أذهانهم، وقدرتك على إشعارهم بالمعنى الجميل الذي تمنحه لحياتهم، ‏وصناعتك لسردية كلماتها الحُبّ الصادق، تكتب فيها روايتك المضيئة لصورتك؛ عبر لغتك العذبة ومواقفك الأخلاقية وسلوكك النبيل، وتعيد بنائها بألوان بهيجة، بنحوٍ ترتسم وتترسخ في مشاعرهم بالتدريج.

 ليس بالضرورة أن يظل الحُبّ حيًّا يقظًا في محطات حياة الإنسان وتقلباتها ومنعطفاتها المختلفة، إلا إن كان تجربة تعيد خلق الذات بطور وجودي أسمى. الحُبّ بوصفه ذكرى مقيمة في القلب غير الحُبّ بوصفه طورًا وجوديًا يعيشه الإنسان في محطة من محطات حياته المتنوعة. لا يدوم الحُبّ إلا بالتواضع، والتكافؤ في المحبّة، والاعتراف بالحق في الخطأ، والحق في الاختلاف، والحقّ بالاعتراف بالخطأ، والحقّ بالاعتذار. 

 الحُبّ الذي لا يثري حياة الإنسان، ولا يُشبِع روحه بالمعنى، ليس حُبًّا أصيلًا، مثل هذا الحُبّ ينبغي أن يتخلص الإنسان منه، لأنه ربما يتحول إلى سمّ قاتل. بعضهم يستغلّ مَن يعلن حُبّه، وإن كان لا يحبّه بالعمق، فيستخدمه للفرار من نفسه، وكسر عزلته، وعجزه عن حلّ مشكلاته، وعدم قدرته على التصالح مع ذاته والثقة بها. وهذا حُبّ زائف، إذ سرعان ما يستغني عنه الإنسان لحظة توكيد ذاته واستعادة شيء من ثقته بنفسه، وعبور مشكلاته، والتخلص من عزلته.

 أحيانًا يتحول الحُبّ إلى قناع لإنسان طفيلي بارع بالابتزاز والخديعة العاطفية، يختبئ خلف قناع الحُبّ. يمكن أن أصف هذا الإنسان بـالمتسول للعطف والشفقة، العاشق لتمثيل دور الضحية في الحياة، وهو لا يحبّ أحدًا حُبًّا حقيقيًا. مثل هذا الإنسان يترقب من الآخرين احترامه وإكرامه ومحبّته، وكأن تلك وظيفة الناس حياله، من دون أن يبادر هو بموقف عملي يدلل على العطاء العاطفي أو المادي لمن يكرمه ويحيطه بالمحبّة. ينبغي ألا نترقب من الإنسان الآخر أن يحُبّنا ويحترمنا ويكرمنا من دون أن نبادر نحن بالمحبّة والاحترام والإكرام. مَن يبادر بالإحسان والتراحم والمحبّة ينبغي إكرامه ولو بكلمة محبّة صادقة. الإحسان المبادرة بالإحسان، التراحم المبادرة برحمة خلق الله، الاحترام المبادرة باحترام الانسان، المحبّة المبادرة بالمحبّة. يتجذّر الإحسان بالمبادرة بالإحسان، يتجذّر التراحم بالمبادرة برحمة خلق الله، يتجذّر الاحترام بالمبادرة باحترام الإنسان، تتجذّر المحبّة بالمبادرة بالمحبّة. 

 كلُّ شيء ينشد فيه الإنسان التكامل يمكن أن يستعبده في خاتمة المطاف، العبادة والصلاة وسيلة للتطهر، فلو انقلبت الوسيلة إلى غاية تفسد العبادة. العبادة والصلاة تهدف لطهارة الإنسان، فإذا صارت الصلاة والعبادة غاية بذاتها ونسي الإنسانُ اللهَ استعبدت الإنسان. الحُبّ يتكامل فيها الإنسان حين يستثمره بما يثري حياته، لكن حين تتحوّل صورة المحبوب إلى صنم يفسد الحُبّ. لو تحول الحُبّ إلى مسعىً لامتلاك كلِّ شيء في شخصية المحبوب وحياته، يصير ضربًا من الاستعباد الممقوت. الصنمية تهشم الذات، إذ يتحوّل معها الإنسان شبحًا، تُمحى في شخصيته ملامحه الخاصة. 

الصنمية عبودية مهما كان نمط الصنم، حتى في الحبّ؛ حين يصبح المحبوب صنمًا يغدو المحبّ عبدًا. طالما تشكلت صورة صنمية للمعشوق في خيال العاشق، تحجب ما هو مزعج في شخصيته، وتخفي صورته الحقيقية. لا يصحّ الوثوق دائمًا بخيال العشاق، العاشق غالبًا ما ينسج صورة للمعشوق غارقة بالأوهام، صورة تتشكل في إطار احتياجاته النفسية الملحة، لمشاهدة جمال موهوم لصورة يحتاجها بشدة، ولا يريد أن يرى الشخصية الواقعية. حين يستفيق أكثر العشاق بعد مدة، يكتشفون أن هذه الصورة افتعلها خيالهم لتلبية احتياجاتهم النفسية، وهي لا تشبه هذا الإنسان الذي تعرفوا عليه عن قرب. العاشق يريد ألا يرى في تلك الصورة إلا الضوء والجمال والنبل، ومن النادر أن نرى إنسانًا كلَّه ضوء وجمال ونبل خالص، الإنسان الذي يكون كذلك يخرج كليًا عن طبيعته الإنسانية.

اضف تعليق