الناس في الغالب يتجنَّبون الإعلانات، وخاصةً إذا كان هناك أكثر من شخص واحد في الغرفة. والفترة الوحيدة التي يُشاهِد فيها المشاهد الإعلانات هي خلال الساعات المتأخِّرة من الليل عندما يكون مُتعَبًا جدًّا ويَكسَل في ترك الغرفة. الاهتمام بالمُنتَج لا يُحدِث في الواقع أيَّ فارق في مستوى الانتباه...

لا يرغب المشاهِد في مشاهَدة إعلانات؛ فهو لا يريد أن يقطع أيُّ شيء متعةَ المشاهدة التي يستغرق فيها؛ لذلك يقاوم عقلُه الإعلان التليفزيوني. آرثر كوفر، «دورية أبحاث المستهلك» (١٩٩٥)

ثبت لدينا حتى الآن أن هناك اختلافاتٍ حول آلية عمل الإعلان، حيث يؤكِّد نموذج الإقناع التقليدي، والذي يَمِيل إليه كثيرون في صناعة الإعلان، على أن الغرض من الإعلان هو جذب الانتباه وتقديم رسالة مقنعة تحقِّق تغييرًا في اتجاهات المتلقي. وترى وكالات الإعلان في الانتباه أكبر عائق يتوجب التغلب عليه، وتعتبر تذكُّرَ الإعلان المقياسَ الأهم، بينما ترى شركات التسويق أن مهمة توصيل الرسالة الإعلانية هي العائق الأكبر، وأن إحداث تغيير في التوجه هو المقياس الأهم. ثم هناك الآراء المعارِضة التي تقول بأن الإقناع نموذج مغلوط، وأن الإعلان مؤثر من دون لفْت الانتباه ومن دون أن يُغيِّر التوجهات. غير أن هناك مسألة أخرى ترتبط بجميع هذه الآراء المتضاربة: ما هو كمُّ الإعلانات القادِر على دفعنا إلى الانتباه لها؟

لو رجعنا إلى الأساسيات سريعًا فسنجد أنه لا خلاف على أن الشركات تلجأ للإعلان؛ لأن لديها منتجات أو خدمات تريد بيعها لنا. ثم توصلنا بعد ذلك إلى حقيقة أن الجمهور - منذ بداية الإعلانات في القرن الثامن عشر - لم يكن يُبدِي أيَّ استعداد للانتباه لتلك الرسائل الإعلانية، ثم جاء عصر التليفزيون، وافترض الكل أن الصورة ستتغير، والسبب ببساطة أنك بدلًا من أن تخرج لتشتري جريدة، ثم تتصفحها بحثًا عن إعلان، فإن كل ما عليك هو أن تجلس في مقعدك وسوف تصلك الإعلانات في فواصل بين البرامج التي تشاهدها. والأكثر من هذا أنها لن تكون مجرد صور ثابتة، بل عرضٌ مثير كله حركة وصوت. ففي التليفزيون عناصر تشويق أكثر من الوسيط المطبوع، وهكذا يقول المنطق إن الإعلانات التليفزيونية ستكون - بديهيًّا - أكثر جاذبية.

تبدو نظريةً جيدةً، لكن للأسف لم تَثبُت وجاهتُهَا؛ ففي فبراير ٢٠٠٣ نشرت صحيفة «الإندبندنت» بيانًا صحفيًّا من كلية لندن للأعمال حول بحث قاموا بتنفيذه باستخدام كاميرات وضعوها في المنازل، وكان عنوان البيان كالتالي: «تقرير حديث من كلية لندن للأعمال يقدِّم تحليلًا لما يقوم به مشاهدو التليفزيون أثناء الفواصل الإعلانية. ومن المؤسف أن نقول لشركات التسويق إنه قد ثبت أن المشاهدين نادرًا ما يشاهدون تلك الإعلانات.»

ورغم أن هذا البحث أُجرِي على عدد محدود من العائلات، فإن أبحاثًا أخرى أكدت على دقة نتائج البحث الذي أَجْرتْه الكلية، بل ذكرتْ أن ذلك البحث قد صوَّر الوضْع على نحوٍ أقلَّ ممَّا هو حادث بالفعل؛ فقد تبيَّن في أوائل ثمانينيات القرن العشرين أن ما بين ٢٠٪ إلى ٤٠٪ من المشاهدين يغادر الغرفة عند بداية الفاصل الإعلاني (سولي، ١٩٨٤)، وتبيَّن في تسعينيات القرن ذاته أن ثلثي المشاهدين ينشغل بنشاط آخَر أثناء مشاهدة التليفزيون (كلانسي، ١٩٩٤). وبحلول عام ١٩٩٤، ذكرت دراسة أن نصف عدد المشاهدين لا يرغب في الإعلانات التليفزيونية (ميتال، ١٩٩٤). أما في القرن الجديد، فقد أظهرت دراسة أن مَن يشاهدون البرامج التليفزيونية المسجَّلة سابقًا يَعمِدون إلى تجاهل الفواصل الإعلانية تمامًا والانتقال بالمؤشر إلى ما بعد الفاصل (جوتزل، ٢٠٠٦)؛ أيْ إننا قد نَهوَى مشاهَدة البرامج التليفزيونية، بل وربما نحب برامج تتحدث عن صناعة الإعلان، ولكننا نفضِّل أكثر الدردشة مع أفراد العائلة، أو عمل الشاي، أو تفقُّد البريد الإلكتروني، أو مداعبة كلب، على مشاهدة الإعلانات نفسها.

فما هو تفسير عدم رغبتنا في التفاعُل مع الإعلان التليفزيوني؟ 

أثناء إصرار صناعة الإعلان على رفض أفكار كروجمان وإرينبرج، طرح أكاديميُّو علم النفس تفسيرًا مختلفًا؛ ففي عام ١٩٨٢، أشار اثنان من علماء النفس بجامعة أوهايو، وهما ريتشارد بيتي وجون كاتشوبو، إلى أن مدى الاهتمام بمجال منتج ما هو المسئول عن الطريقة التي يتعامل بها المتلقِّي مع الإعلان، وهو الأمر الذي أدَّى إلى صياغة ما يُعَدُّ «الإسهام النظري الأكثر تأثيرًا» (بيرد، ٢٠٠٢) للأوساط الأكاديمية المعنية بالإعلان، وهو «نموذج احتمالية الاستغراق».

نموذج احتمالية الاستغراق

مفاد هذا النموذج هو أن هناك مسارين مختلفين يمكن للإعلان من خلالهما تحقيق تغيير في سلوك المستهلِك، وأن هذين المسارين يختلفان وَفْقَ «مدى ما ينجم من تغيُّر في التوجُّه … بفعل التفكير النشِط» (بيتي وكاتشوبو، ١٩٩٦). وجوهر مقترح بيتي وكاتشوبو هو أن الجمهور المرتبط والمتابع للمجال الخاص بالمنتج يفكر بقدْر أعمق (أي يستغرق) في الرسالة التي يقدِّمها له الإعلان، أما خلاف هذا الجمهور من المشاهدين فلن يُبدُوا ذلك القَدْر من الاهتمام تجاهه. وهذان المساران هما - كما اتُّفق على التسمية - «المسار المركزي» و«المسار المحيطي». أما المسار المركزي فهو ما يمكننا أن نعتبره أسلوب الإقناع التقليدي، الذي يكون فيه التعامل مع الرسالة الإعلانية عملية «محكومة وعميقة ومنهجية وتتطلب جهدًا». ويقدِّم المؤلفان الوصف التالي:

عندما تعزِّز الظروف من دافعية الجمهور وقدرته على التفكير في الأمر، يكون مستوى «احتمالية الاستغراق» عاليًا، وهو ما يَعنِي أنه يكون من المرجَّح أن يتم الانتباه إلى الرسالة؛ كما تزداد احتمالات محاولة معالجة ما يتصل بذلك من ارتباطات وصور وخبرات مسترجعة من الذاكرة. (بيتي وكاتشوبو، ١٩٨٦)

وعلى النقيض من ذلك، فإنهما يصفان المسار المحيطي بكونه «تلقائيًّا، وغير عميق، وغير منهجي، وغير منطقي» و«يستند إلى تداعيات وجدانية أو استدلالات بسيطة متصلة بإشارات غير مركزية» (بيتي وكاتشوبو، ١٩٨٦)؛ بمعنى أنه مسارٌ ضعيفٌ غيرُ مقنِعٍ ومُشابِهٌ نوعًا ما لذلك الذي وصفه كروجمان وإرينبرج.

وقد عزَّز بيتي وكاتشوبو نظريتهما بأنْ قاما بإجراء ثلاث تجارب مع طلاب الجامعة؛ حيث اقترحا موضوعًا للمناقشة حول مرحلة اختبارات جديدة، وهما يعرفان أن مِن شأن هذا الموضوع أن يُثِير اهتمام الطلاب ويدفعهم إلى المشاركة، بل والاختلاف حوله. ووجدا في التجربة الأولى أن الطلاب المعنيِّين بالموضوع قد تأثَّروا أكثر بوجاهة الاقتراح الجَدَلي ذاته الذي يتم عرضه، بينما كان أكثر ما أثَّر في مجموعة غير المعنيين بالموضوع هو شكل وهيئة الشخص الذي كان يوصِّل إليهم الاقتراح الجدلي هذا.

 أما في التجربة الثانية فوجدا أن التأثير على مجموعة المعنيِّين بالموضوع حدث مع عرض هذا الاقتراح الجدلي مرة واحدة، ولكن مجموعة غير المعنيِّين بالموضوع احتاجت إلى تكرار عرض هذا الاقتراح قبل اتخاذهم قرارًا بشأنه. وفي النهاية، وجدا أن تغيُّر التوجُّه الناتج عن عرض الاقتراح المختلَف عليه بين المجموعة المعنيَّة بالموضوع يكون دائمًا وطويل الأمد، بينما تغيُّر التوجُّه لدى المجموعة غير المعنيَّة يكون مؤقتًا وقصير الأمد نسبيًّا.

ليس من المستغرب أن يَجِد بيتي وكاتشوبو أن المسار المركزي الذي يتَّسم بالتفكير النشِط والاهتمام الكبير أكثرُ فعاليةً من المسار المحيطي منخفض الاهتمام. وقد افترضا أن تغيير التوجه ضروري حتى يكون الإعلان فعَّالًا، ووَصَفَا ما وجداه، على حدِّ تعبيرهما، بأن «تغيُّرات التوجُّه من خلال المسار المركزي تكون أكثر ثباتًا ومقاومةً وأكثر تنبؤًا بالسلوك مقارنةً بالتغيُّرات الناجمة عن المسار المحيطي» (بيتي وكاتشوبو، ١٩٨٦). ولكن هذه النتيجة تتماشى تمامًا مع تفكير كروجمان وإرينبرج، حيث تقترح نظرياتهما أن الإعلان عاجز عن إحداث تحولات طويلة الأمد في التوجهات. على أن الفارق بالطبع هو أن كروجمان وإرينبرج قد رَأَيَا في المُعالَجة المحيطية الطريقةَ التي يتم بها التعامل مع «معظم» الإعلانات، واعتبراها وسيلة دعاية جيدة تمامًا للتأثير على السلوك.

على المستوى الأساسي، هناك وجاهة لنموذج احتمالية الاستغراق؛ فنحن نعتقد عمومًا أننا نُولِي المزيد من الانتباه للأشياء التي تحفِّزنا وتدفعنا إلى المشاركة، ويقل انتباهنا إلى الأشياء التي لا نهتمُّ بها. ولكن الأدلة التي لدينا من دراسة كلية لندن للأعمال تشير إلى أن الاهتمام بالسوق لا يفسر في الواقع سلوكنا تجاه الإعلان، فإذا نحن أوْلَيْنا المزيد من الانتباه إلى الإعلانات التي تتناول أشياء تهمُّنا، فسوف يتَّصف سلوك المشاهدة التليفزيونية بتذبذُب مستويات الانتباه. ببساطة، يتوقف انتباهنا أو تجاهلنا للإعلانات على مدى اهتمامنا بالأشياء المُعلَن عنها.

ولكن هذا لم يكن ما توصَّل إليه باحثو الكلية، فقد وجدوا أن الناس في الغالب يتجنَّبون الإعلانات، وخاصةً إذا كان هناك أكثر من شخص واحد في الغرفة. والفترة الوحيدة التي يُشاهِد فيها المشاهد الإعلانات هي خلال الساعات المتأخِّرة من الليل عندما يكون مُتعَبًا جدًّا ويَكسَل في ترك الغرفة. وفي بحثي وجدتُ أن الاهتمام بالمُنتَج لا يُحدِث في الواقع أيَّ فارق في مستوى الانتباه للإعلان التليفزيوني؛ ففي ظل ظروف مصمَّمة بعناية بحيث تحاكي تجربة المشاهدة الطبيعية، وجدتُ أن مستويات الانتباه للإعلانات عن المنتجات والعلامات التجارية التي يستخدمها المشارك (الذي يُفتَرَض أن يكون - بناءً على ذلك - أكثرَ تفاعلًا معها) لم تختلف تمامًا عن مستويات الانتباه للإعلانات عن المنتجات والعلامات التجارية التي لم يَسبِق له استخدامها (هيث وآخرون، ٢٠٠٩).

والأمر هنا يعتمد جزئيًّا على الطريقة التي تتبعها وكالات الإعلان عند صُنع الإعلانات التليفزيونية؛ ففي كثير من الأحيان يكون من الصعب التعرُّف على الماركة أو حتى مجال المنتج إلا مع نهاية الإعلان. والفكرة هي أنه طالما أنك تَجهَل المنتج الذي يعرضه الإعلان فإنك سوف تشاهده بعناية أكبر من أجْل معرفة ذلك، ولكن إذا كان المشاهِد متجاهِلًا للإعلانات بوجْه عام فإن هذا النهج يأتي بنتائج عكسية تمامًا؛ فهو إمَّا أنْ يُغيِّر القناة قبل أن ينتهي الإعلان، أو ببساطة يتجاهل مشاهدة الإعلان من الأصل.

على أن هناك سببًا أقوى من ذلك بكثير وراء عدم مشاهدة الإعلانات، وهو سببٌ له علاقة بما ننتظر أن نتعلَّمه منها؛ فقد كان موضوع المناقشة في تجارب بيتي وكاتشوبو أخبارًا تتعلق باختبار جديد، وهو موضوع يعرفان أنه سيكون مهمًّا جدًّا للطلاب المنتظر أن يخضعوا لذلك الاختبار. المؤسف أن شركات التسويق الحديثة نادرًا ما تمتلك فرصة إدراج عناصر بمثل هذا القدْر من الجاذبية في إعلاناتها؛ فالتطور المُذهِل في التكنولوجيا الحديثة يجعل العلامات التجارية في أغلب الأحيان قادرة على استيعاب أي أفكار جديدة في وقت أقل ممَّا يستغرقه صنع إعلان تليفزيوني، فمعظم الإعلانات التليفزيونية تقدِّم رسالة إلى المُشاهِد وهو يعرف محتواها سابقًا؛ فما الحافز الذي يدفعه إلى الانتباه إلى تلك الرسالة إذن؟

بطبيعة الحال، كلما أصبحتْ شركة التسويق أكثر قدرة على مواكبة المنافسين وتحسين المنتج تَوافَر لها نطاق اختيار أكبر. وقد تظن أن هذا من شأنه أن يشجِّعنا على أن نكون «أكثر» انتباهًا للإعلان التليفزيوني، ولكن الواقع العملي يُثبِت العكس.

* مقتطف من كتاب: (إغواء العقل الباطن: سيكولوجية التأثير العاطفي في الدعاية والإعلان)، لمؤلفه: روبرت هيث، ترجمة محمد عثمان خليفة، نشر مؤسسة هنداوي

اضف تعليق