إن الكتابة خارج التخصص والبراعة فيها مهمة صعبة حتما، وهو أمر لا يجادل فيه باحثان، ويستدعي الإقرار به، والتأكيد عليه من باب الأمانة، والموضوعية، لكنها تظل مهمة ليست مستحيلة بتاتا، وما يجعل منها مهمة ممكنة بل ما يجعل منها مهمة في غاية اليسر، والسهولة هو وجود عنصر الشغف في نفس الكاتب الحاذق...
أن يكتب الأكاديمي في مجال مغاير لتخصصه الدقيق قضية تستدعي بطبيعتها الاستغراب، وربما الرفض أحيانا انطلاقا من الفكرة التي توجب على الباحث التزام حدود التخصص، وتشدد النكير على محاولات الخروج عنها، وهي فكرة لها وجاهتها، وأهميتها، ومؤيدوها حول العالم، وتتصل بالمقام الأول، وبشكل مباشر أيضا بالعلوم (المادية) كالرياضيات، والفيزياء، والكيمياء ونحوها، لاسيما مع نهاية الحقب التاريخية التي أتاحت للعلماء آنذاك قابلية الجمع بين أكثر من علم واحد، وسمحت بوجود عدد كبير جدا نسبيا من أهل التخصصات الجامعة بين علوم الطب، والهندسة، والفلك، وما إلى ذلك، واصطلح على تسميتهم في تلك الأزمنة أو بعدها بالعلماء الموسوعيين. أمّا في الوقت الحاضر فقد انحسرت الثقافة الموسوعية إلى حد كبير، وندر وجودها إلا في نطاق ضيق جدا في ما ذكرناه من العلوم آنفًا.
لكن الحال في حقول العلوم الإنسانية ما يزال يتيح إلى حدٍ مُعتَبَر الفرصة أمام الباحثين للكتابة خارج تخصصاتهم الدقيقة، أو هو في أقل تقدير لا يمارس مستوى من الصرامة يوازي ما هو عليه واقع العلوم التي وصفناها بالمادية، وآية ذلك ما بين أيدينا من أرقام مرتفعة نسبيا لشخصيات أكاديمية مهمّة عُرف عنها الكتابة خارج التخصص من دون أي محذور أكاديمي، وقد حقق قسم منهم نجاحات لا تقل من حيث النوع، والكم عمّا أحرزوه في ميادينهم العلمية الأصلية، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر الدكتور (نعوم جومسكي) الذي تعرّفه الـ (ويكيبيديا) بوصفه أستاذ لسانيات، وفيلسوفا، وعالمَ منطق، ومؤرخا، وناقدا سياسيا، و(ديفيد كرستال) اللغوي الإنكليزي المعروف، والمشهور بكونه شاعرا، ومسرحيا، ومترجما أيضا، و(ستيفن بينكر)، وهو عالم نفس، وعالم لغويات كذلك، و(جون مكوورتر)، وهو أكاديمي أمريكي في جامعة كولومبيا، ويقوم بتدريس اللغويات بالإضافة لتدريسه الفلسفة، وتاريخ الموسيقى في هذه الجامعة العريقة التي تُعدّ خامس أقدم جامعة في الولايات المتحدة الأمريكية. ولعلّ قدرة مكوورتر الفذّة على الكتابة في حقول معرفية مختلفة هي التي جعلت منه قلما مطلوبا في كثير من المؤسسات الصحفية الأكثر أهمية في بلاده كمجلة تايم، ووول ستريت جورنال، وواشنطن بوست، وبوليتيكو، ومجلة فوربس، ونيويورك ديلي نيوز...الخ.
ومثل هؤلاء الذين أتينا على ذكرهم توًا عشرات غيرهم ناشطون في إطار ما تُعرف بالعلوم الإنسانية، بل إن سمة الكتابة خارج التخصص لم تستثنِ أبرز عالمينِ في مجال الكونيات خلال القرنين العشرين، والحادي والعشرين، وهما (إلبرت إنشتاين) الذي ألّف "العالم كما أراه"، الكتاب الذي بثّ فيه عبقري الفيزياء آراءه الحرّة في المجتمع، والدين، والسياسة، والأخلاق، و(ستيفن هوكينغ) العالم الإشكالي الذي لا يقلّ شهرة عن (إلبرت إنشتاين)، ومع ذلك فقد ألّف العديد من الكتب في مجال فلسفة العقل، وهي فرع من الفلسفة تختص بدراسة طبيعة العقل، والوعي، والتجربة الذاتية، والعلاقة بين العقل، والجسم...
إنّ البحث هو مهارة، وكل من استطاع أن يحوز مستوى الحذق، والإجادة فيها استطاع أن يلج أكثر من ميدان علمي، وأن يُحرز المستوى نفسه من الاتقان، والنجاح، والإبداع. ومَثَلُ الباحث الجيّد في هذا الموضوع مَثَلُ المقتدر في قيادة السيّارة بصرف النظر عن اختلاف منشأ هذه تلك المركبة أو تلك، وما يفرّق بينهما من مواصفات. فالمسألة تتعلق أولا وأخيرا بالقدرة على ضبط أدوات البحث العلمي على حد تعبير الدكتور (عبد الله الأعرج)، كما أن من حسنات الكتابة خارج التخصص، واكتساب النجاح فيها جماهيريا- وهي فكرة جديرة بالنظر، والاعتبار أيضا- هو صيرورة الأكاديمي هذه المرّة مؤهلا لحيازة مرتبة (مثقف الشعب)، هذه المنزلة التي ما تزال حكرا على الصحفيين، لاسيما اللامعين منهم، بحسب المستفاد من كلام الكاتب (عبد العزيز آل محمود) في مقال حاول فيه الإجابة عن تساؤل مفاده: "لماذا لا يكتب الأكاديميون وإن كتبوا لا يقرأ لهم أحد"...
إن الكتابة خارج التخصص والبراعة فيها مهمة صعبة حتما، وهو أمر لا يجادل فيه باحثان، ويستدعي الإقرار به، والتأكيد عليه من باب الأمانة، والموضوعية، لكنها تظل مهمة ليست مستحيلة بتاتا، وما يجعل منها مهمة ممكنة بل ما يجعل منها مهمة في غاية اليسر، والسهولة هو وجود عنصر الشغف في نفس الكاتب الحاذق، هذا الشغف الذي يكتنز حاسة إنسانية مخفية ترشد صاحبها دائما إلى أماكن بِكْر، ومكامن دهشة، ليغدو أسلوبه مع مرور الوقت، والصقل جوازَ سفرٍ (دبلوماسيًا) عابرًا لجغرافية المعرفة، وتخومها الحديدية...
اضف تعليق