ثقافة وإعلام - ثقافية-اعلامية

كيف تموت اللغات في حلبات الصراع اللغوي؟

وهل الأدق وصف اللغة بالميتة أم النائمة ؟

وجود مشاريع عالمية عملاقة على مستوى محاولات إنقاذ الأحياء المهددة بالانقراض، وما يعظم الهمم في نفوس أصحاب تلك المشاريع هو إدراكهم للنفع العظيم المترتب على بقاء التنوع الإحيائي ماثلًا في الوجود والطبيعة، وعليه يمكن استدعاء هذا المنطق أيضا للدفاع عن فكرة الإبقاء على التنوع اللغوي الإنساني هو الآخر، وتأمين الحماية اللازمة للغات...

تتصدر لغة البلد قائمة الأولويات في الأمم المتحضرة؛ إذ استقرّ في علوم النفس، والاجتماع أن اللغة هي الآصرة الأقوى في شدّ عرى العواطف الإنسانية وأنها تمثّل العنوان الأبرز لهُويّة الإنسان العامة مهما تعددت هوياته الفرعية، وأن مسؤولية الحفاظ على اللغة لا يمكن التنصل عنها على المستويين الرسمي والشعبي في أي دولة من دول العالم بملاحظة وجود صراع لغوي عالمي مستمر مدفوع بأجندات سياسية غالبا لعل من آثاره القديمة والحديثة إقصاء لغات كثيرة عن دائرة الاستعمال، وبحسب تقديرات عام 2024م فإن 90% من اللغات المنطوقة في العالم- وعددها الكلي 6000 لغة تقريبا- مرشحٌ للانقراض عام 2050م. والمقترض والمهدد بالانقراض هو وصف شائع في عالم الأحياء، ولكنه متداول أيضا في أوساط اللغويين، والباحثين في مجالات علم الإنسان أو الأنثروبولوجيا، وسنبين وجهة نظرنا بهذا الوصف اتفاقا واختلافا في ما سيأتي من كلام.

موت اللغة أم نومها

يبدو لي أنه ليس من المناسب استعمال عبارات من قبيل موت اللغة أو ما يرادفها نحو انقراض اللغة، وموتها وفنائها، والترويج – بدلا من ذلك- لمصطلح نوم اللغة وتنشيطها لا موتها وانقراضها، وهي العبارة التي تجري على ألسنة بعض اللغويين الغربيين المعاصرين، ومنهم الباحث في معهد هارفرد (روبرتو زاريكي) الذي يجزم بإمكانية تنشيط اللغة أو إيقاظها من نومها، ولكن مع توفر شروط معينة يقف في مقدمتها وجود العاطفة العرقية لهذه اللغة أو تلك فضلا عن توفير ما يكفي من بيانات وموارد، وقد جرى ذلك التنشيط أو الإيقاظ بالفعل في مناطق عديدة من العالم، وبلغت اللغات التي جرى العمل على تنشيطها أو إيقاظها العشرات بل المئات، ومن أبرزها اللغة العبرية في فلسطين، ولغة مانكس، ولغة كورنش، ولغة يوتشي، وغيرها من اللغات المتوزعة جغرافيا بصورة أساسية في العديد من الولايات المتحدة الأمريكية، مثل أوكلاهوما، وكالفورنيا، ومشغان، وكولارادو، وتكساس، وأريزونا، وغيرها. والأمر نفسه يجري العمل بمقتضاه في مقاطعات أسترالية عديدة. على أن هذه المحاولات التي ترمي إلى إعادة بعض اللغات المهجورة هنا وهناك ينبغي أن لا يُنظر إليها باعتبارها انتهاءً لحقبة الصراع ، وبداية لعصر الوئام اللغوي إن جاز القول ؛ لأنّ تلك اللغات ماعادت تشكل على سبيل القطع أي تهديد للغات المهيمنة في تلك الأماكن...

 أنواع ودواعي خروج اللغات من قيد الاستعمال

يمكن تصنيف خروج اللغات من دائرة التداول إلى ثلاثة أنواع رئيسية: الأول وهو ما يحدث بصورة طبيعية، والثاني ما يكون نتيجة للقسر والإكراه الخارجي، والثالث ما يكون عن إرادة واختيار ذاتي. وبقدر ما يتعلق الأمر بالنوع الأول فحتى أكثر اللغات انتشارًا تبدأ في مرحلة زمنية ما بفقدان هيمنتها لتعقبها بعد ذلك وعلى نحو تدريجي مرحلة فقدان آخر متحدثيها، كما حدث ذلك بالفعل تاريخيا مع اللغات السومرية، واللاتينية، والسنسكريتية، وغيرها.

أما النوع الثاني فغالبا ما يكون نتاجا لأفعال قسرية خارجية، ويمكن إدراك غاياته ومراميه من خلال فهم حقيقة أن اللغة ليست وسيلة للتواصل فحسب بل هي أداة للهيمنة والسلطة السياسية، ومن هنا فقد نشأ مفهوم ما يعرف بالحروب اللغوية، وهو المفهوم الذي أدى إلى الاندثار القسري لكثير من اللغات التي وئدت داخل حاضناتها الاجتماعية الأصلية لأسباب إستعمارية محضة، وأحدث الشواهد على ذلك سياسات القمع اللغوي التي مورست ضد السكان الأصليين في كل من أمريكا الشمالية وكندا وأستراليا، وهم السكان الذين أجبروا على ترك اللغة الأم، وتعلّم لغة المحتل الأجنبي. والقمع اللغوي ما يزال أداة مفضلة تعزز بها النخب الحاكمة الأجنبية أو المحلية سيطرتها وسطوتها على المؤسسات والثروات والموارد، ويدخل ضمن ذلك النطاق بطبيعة الحال المحكومون المختلفون لغويًا.

أما النوع الثالث فيتمثل باختيار أبناء الأقليات طوعا التخلي عن لغاتهم الأصلية وتبني لغة الأغلبية حتى في حياتهم المنزلية، وتتداخل في هذا النوع أحيانا عوامل الرغبة والرهبة، فهو وإن اتخذ طابعا اقتصاديا لكنه يكون في أحيان ليست بالقليلة ناتجا عن دوافع عنصرية اجتماعية ويمكن ملاحظة ذلك الأمر حتى في البلدان التي تبيح أنظمتها القانونية والسياسية -في الوقت الحاضر- التعددية اللغوية.

التنوع الإحيائي والتنوع اللغوي

لقد بدأنا النقاش في هذا الموضوع بالإشارة العابرة لعلاقة علم الإحياء بعلم اللغة، ونريد هنا تسليط الضوء على هذه العلاقة من حيث التركيز على الأسباب التي تقف خلف إيجاد مشاريع عالمية عملاقة على مستوى محاولات إنقاذ الأحياء المهددة بالانقراض، وهي الأسباب التي يمكن إيجازها بإدراك القائمين على تلك المشاريع لعظم الأهمية المترتبة على بقاء التنوع الإحيائي ماثلًا في الوجود والطبيعة، وعليه يمكن استدعاء هذا المنطق نفسه للدفاع عن فكرة الإبقاء على التنوع اللغوي الإنساني هذه المرة، وتأمين الحماية اللازمة للّغات الخارجة -طوعا أو كرها- من مناطق التداول الإنساني ودفعها إلى زوايا الإهمال والنسيان، وهذا الطرح الرامي لديمومة التنوع اللغوي يتوافق إلى حد كبير مع الفهم القرآني لمفهوم اللغات أو الألسنة التي يعدّها الكتاب الكريم آيات تأتي في موازاة خلق السموات والأرض، وكذلك مع خلق الإنسان باختلاف ألوانه، وأعراقه، وهو ما يُستشف من قوله تعالى: (( وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ)). سورة الروم: 22.

وسواء أكان الأدق في وسم السرد الذي تتبعنا خطوطه العريضة في هذا المقال بوسم موت اللغة، أو نومها فإن النتيجة المترتبة على ضياع لغة ما تمثل في نهاية المطاف خسارة جسيمة ينبغي أن لا يُنظر إليها نظرة خالية من مشاعر الاكتراث ! وبحسب تشبيه عالم اللغة الأمريكي (كينث هيل) الذي نقلنا بتصرف شيئا من أفكاره آنفا فإن فقدان أي لغة بشرية أشبه ما يكون بعملية إلقاء قنبلة على متحف تُطيح بجزء عزيز من الذاكرة الجماعية لبني الإنسان.

يبقى أن نعيد تأكيد القول بأن تاريخ الصراع اللغوي لم ينته بعد بل مازال قائما على أشده، ويمكن للمتابع أن يجد آثاره واضحة في أجندات الدول المهيمنة عالميا، هذه الدول التي تسعى بكل ما أوتيت من قوة ونفوذ لجعل سيطرتها اللغوية قرينة لسطوتها السياسية والاقتصادية والعسكرية.


اضف تعليق