ان رؤساء تحرير الصحف العثمانية يرفضون أي مقال ترد فيه كلمة (قمر)، لأنها تعني الثورة ضد الحكم العثماني، والبلاد العربية كانت حينها تغلي على العثمانيين، وساستها بنوا آمالهم على الانكليز، فاتضح لاحقا انهم يفتقدون لبعد النظر، او قل لا نظر عندهم اطلاقا...

لست في معرض الحديث عن العلامة مصطفى جواد صاحب البرنامج الاذاعي والتلفزيوني الشهير (قل ولا تقل)، فما أريد الكلام فيه غير ذلك تماما، كل ما في الأمر ان صديقي الذي يرأس تحرير مجلة تصدر عن جهة حكومية، كثيرا ما يطلب مني تعديل المقال الأسبوعي الذي أكتبه ضمن العمود المخصص لي تحت عنوان (فلاشات) بمعنى ومضة ضوء، أتناول فيه مشكلة من التي يزدحم بها واقعنا العراقي، او انتقاد لمظهر غير مرغوب به، او اشادة بفعل متميز، وبما ان المكروه لدينا أكثر بكثير من الذي يشرح النفس. 

لذا يتفوق السلبي في كتاباتي على الايجابي، ومع ذلك فكلماتي بيضاء يُراد بها تحسين الحال وليس النيل من الأشخاص او المؤسسات او النظام ومن يديره، فالصحافة كما تعلمناها على أيدي أساتذتنا، وما قرأناه من أدبيات الرواد: رسالة ومهنة، ومن بين وظائفها مساعدة المسؤولين على اتخاذ قرارات رشيدة، مع درايتنا بأن آذان غالبيتهم صماء، والحال هكذا وقع صديقي بين المطرقة والسندان كما يُقال، فليس بوسعه الاعتذار مني، وفي الوقت نفسه لا يتجرأ على نشر المقال، فيلجأ الى التوسل بي بطريقة أخوية محببة لحذف كل انتقاد، بالمقابل أخجل من عدم الاستجابة لطلبه، فهو صديق عزيز وطيب القلب، ولا أقدر على زعله، فأشذب المقال حتى يغدو بلا طعم او رائحة او لون.

وفي كل مرة أتذكر أمرين: سأحدثكم عن أحدهما فقط، والثاني فيه محاذير، فعندما كان يدرسنا الاستاذ الدكتور منير بكر التكريتي اللغة الاعلامية في قسم الاعلام بجامعة بغداد، ولا أذكر لكم التاريخ ليس ناسيا، وانما لكي لا تعرفوا عمري، ولا تسألوني لماذا؟، ومن بين ما ذكره التكريتي ان رؤساء تحرير الصحف العثمانية يرفضون أي مقال ترد فيه كلمة (قمر)، لأنها تعني الثورة ضد الحكم العثماني، والبلاد العربية كانت حينها تغلي على العثمانيين، وساستها بنوا آمالهم على الانكليز، فاتضح لاحقا انهم يفتقدون لبعد النظر، او قل لا نظر عندهم اطلاقا.

أكثر ما نفتقده هو بعد النظر، تأمل في أحزابنا وقوانا السياسية اليوم، فخلال عشرين عاما مضت تبدلت التوجهات (360) درجة، فمن كان لا يقبل المساس بالمحتلين، ويصفهم بالأصدقاء المحررين، صار اليوم يحشد الجماهير على مقاومة بقاياه، ومن يتحدث عن الأمر الواقع، وظروف البلاد والاقليم يتهم بأنه لا يريد الخير للنظام، وغيرها من نعوت، ومن رفع السلاح وصدع رؤوسنا بالمقاومة بعد الاحتلال مباشرة صار اليوم يلوذ بهم للبقاء فاعلا في المشهد. 

ولذلك أقول: من لا يملك رؤية لما ستكون عليه الحال في المستقبل القريب على أدنى حد وليس البعيد، فهذا لا يمت للسياسة بصلة أبدا، وان وصوله لهذا المجال جاء بالمال او بضربة حظ او بأيدي الغرباء، خصوصا وان السياسة لدينا صارت مجالا منتهكا يدخله من يشاء، وجلهم بلا تاريخ او ثقافة او حتى حياء، ان فشلوا لا يستحون، وان راح الآلاف ضحايا رعونتهم لا يتحرك لهم ضمير، وان عم الخراب يلقون باللائمة على الخصوم، ومثل هؤلاء ليسوا قادة، فالقيادة ايمان بقضية واستعداد للتضحية من أجلها ان كان في السلطة ام خارجها، فالقضية كما يفترض قضية وطن وهدفها يأتي للارتقاء بالبلاد والعيش الكريم للناس.

أسماء سياسية كثيرة وبألوان مختلفة مرت بنا خلال تجربة العراق الجديد، صعدت الى قمة سلم العملية السياسية من الرئاسة الى الوزارة، ومنها من تدحرج بسرعة فائقة، فلزم الصمت، ولم نعد نراه او نسمع به، وكأنه في عداد الأموات، لو كان هؤلاء يؤمنون بقضية وطنية حقيقية، لتواصل جهادهم من أجل قضيتهم، ولما اختفوا عن الانظار، فلهم أقول: عندما يغيب الايمان بالوطن والشعب كونوا على يقين ان المتجمهرين حولكم سيتبخرون كما تبخرت حشود تجمهرت حول من سبقوكم، وانتم تعرفونهم جيدا، ولصديقي الطيب دعني أقول وليس بالمعنى العثماني: قمر.

اضف تعليق