الخصوصية ليست انغلاقاً وانحباساً في الذات، وإنما هي تجديد لرؤى المعرفة وآفاق الحقيقة على نحو مستديم، بحيث تبقى ذاتنا ذاتاً فاعلة وحية. كما أن الكونية لا تعني الذوبان في حضارة الآخرين وثقافتهم، وإنما تعني التواصل الإنساني البعيد عن كل عوامل الهيمنة وأسباب الغطرسة والسيطرة...
في إطار الانشغال المعرفي والفكري بقضايا العصر وتطوراته وتحولاته المتسارعة، تتبلور الإجابات، وتنضج مستويات الاستجابة لتحديات الراهن، وتتوافر الشروط الذاتية والموضوعية للتفاعل الإيجابي والفعال مع قضايا العصر وتحولاته المتسارعة. لذلك فإن من المهم في الإطار الثقافي والحضاري، أن تتوافر في مجتمعنا أطر ومؤسسات للبحث والحوار والاشتغال الجاد بقضايا المعروفة والفكر. وذلك لأن هذه الأطر والمؤسسات، هي من ضرورات فهم حركة العصر واستيعاب تطوراته وإدراك تجاه تحولاته ومنعطفاته.
من هنا فإننا لا نجانب الصواب حين القول إن أحد معايير القوة الحضارية في عالم اليوم، هو مدى توافر مؤسسات البحث ومعاهد الدراسة ومراكز الحوار والتواصل. إذ أن توفر هذه الأطر والمؤسسات، يمنح المجتمع قوة وقدرة على المشاركة النوعية في حركة العصر. وغيابها يزيد من غبش الرؤية، ويفاقم من التناقضات الداخلية، ويجعل المستقبل في كل المجالات فضاءً مفتوحاً لإرادات الأجنبي ونزعاته في الهيمنة والسيطرة.
وعلى هدى هذه الرؤية، نحن نعتقد بأهمية أن تنطلق مجتمعاتنا وتنخرط نخبنا الثقافية والاجتماعية في بناء مؤسسات بحثية، تأخذ على عاتقها دراسة متغيرات العصر بشكل عميق، وبلورة الوعي الاجتماعي باتجاه القضايا الكبرى والحيوية والمهمة التي تعيشها الأمة في الحقبة الراهنة.
ولابد أن يدرك الجميع، على أن الخصوصية الدينية أو الوطنية، هي إيمان عميق بتحمل المسؤولية، لا وسيلة للتبرير والتراجع، وهي رافعة ترفعنا عن سفاسف الأمور وتوافهها على مختلف المستويات. وترفض رفضاً قاطعاً بقاءنا في الهامش وبعيداً عن الحضارة ومتعلقاتها السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية.
فالخصوصية ضرورة من ضرورات الاجتماع الإنساني، كما أن الكونية والعالمية هو المدى الحيوي، الذي ينبغي أن يشغل تفكيرنا وعملنا وموضوعات تطلعاتنا وطموحاتنا.
فالإضافة والمزيد من الحضور والمعرفة والكسب الجديد، هي جهدنا ومسؤوليتنا في هذه الحياة. وهذا جهد ينبغي أن نمارسه بلا توقف، وبناء متواصل للذات، حتى تكون مهيأة وقادرة على الالتزام بمقتضيات هذا الجهد. وبهذه الممارسة، تتجلى الخصوصية بوصفها مصدر الخلق المستمر للقوة بكل أبعادها وآفاقها، وانفتاح رشيد على الكون والعوالم الأخرى، لاستيعاب تجاربهم وامتصاص خبراتهم، والعمل معاً لإدارة شؤون البشرية وفق قواعد ونظم إنسانية خالدة.
فالخصوصية ليست انغلاقاً وانحباساً في الذات، وإنما هي تجديد لرؤى المعرفة وآفاق الحقيقة على نحو مستديم، بحيث تبقى ذاتنا ذاتاً فاعلة وحية.
كما أن الكونية لا تعني الذوبان في حضارة الآخرين وثقافتهم، وإنما تعني التواصل الإنساني البعيد عن كل عوامل الهيمنة وأسباب الغطرسة والسيطرة.
وهذا يدفعنا إلى القول إن التغيير والتطوير ليس معجزة، وإنما هو إرادة إنسانية متواصلة، تأخذ على عاتقها ممارسة الأفكار الحضارية، وتبحث عن طرائق مؤاتية، لكي تأخذ هذه الأفكار طريقها في الواقع والمجتمع. ولعل هذا هو الذي يفسر لنا إخفاق العديد من مشروعات النهضة ومبادرات التغيير سواء على الصعيد الوطني أو القومي أو الإسلامي..
وذلك لأن التشبث بفضاء الكلمات الطنانة والشعارات المسجوعة، والتعالي عن الواقع بقضاياه وهمومه، لا تصنع تغييراً ولا واقعاً مؤاتياً للتغيير. والاكتفاء بذلك، دون العمل على تنزيل أفكار النهضة إلى حقائق مجتمعية، وهو السبب الرئيس في تقديرنا لإخفاق مشروعات النهضة وانسداد أفق مبادرات الإصلاح والتطوير.
لأن التستر بالشعارات والأفكار الكبيرة، وعدم انكشاف نفوسنا وعقولنا على هذه الشعارات والأفكار، هو الذي جعل هذه الأفكار بعيدة عن واقعنا وليست متكيفة (التكيف الإيجابي) مع النسيج المجتمعي.
إن ملحمة النهضة، تبدأ بالانطلاق، حينما نواجه أنفسنا ونكتشف بيئتنا، وننطلق من هذه المواجهة إلى خلق الأفكار والرؤى والبصائر المنسجمة ومتطلبات تلك المواجهة. وإن سبيل التغيير والتطوير، هو العمل والممارسة على هدى الأفكار والبصائر العليا.
والمدارس التنويرية في التجربة الإنسانية، لم تكن وليدة المقولات الجاهزة والكلمات السحرية، وإنما هي وليدة العمل والفعل المتسق والمشروع الاستراتيجي الذي تنشده هذه المدارس التنويرية. وإن رغوة الكلام لا تخلق فعالية تاريخية تتجه صوب البناء والإنتاج والتطور.
ولابد من القول إن المعارف الجاهزة، لا تفضي إلى نمو المعرفة والإبداع، ما لم تتقدم في المساءلة والقراءة والنقد.
وحينئذ فما يتبلور منها من حقائق وأفكار ونتائج بالاحتكام إلى عقولنا سيضيف إلى واقعنا الثقافي والاجتماعي المزيد من الحيوية والفاعلية. لذلك فإن المطلوب دائماً، هو إثراء تجاربنا العقلية والفكرية والمعرفية بتجارب السابقين مما يحقق معنى التواصل في بناء المعارف الإنسانية والانفتاح على آفاق السيرورة التي تختزن تجارب الإنسان والراهن في عملية إخصاب دائم لا تكف عن التوالد والإبداع.
فالدين كما يشمل العبادات والأخلاق والقيم النبيلة، كذلك هو دعوة دائمة للنظر والتأمل والتبصر.
والنظر بدوره يستدعي الشغف بالعلم والإبداع ومحاولات فك اللغز الإنساني عن طريق التأمل والاجتهاد، ويكتشف جماليات الإنسان والكون، حتى تكون الصورة بمفرداتها العديدة في سياق واحد منسجماً ومنطوق الآية القرآنية: {في أحسن تقويم}..
وتراجع مستوى الإبداع في أي مجتمع، يرجع في تقديرنا إلى انهيار مصادر التجديد والتغيير والتطوير في المجتمع. فحينما تسود أيدلوجيات التسويغ والتبرير، وتتضاءل إمكانية استخدام العقل، ويصاب الوجدان والشعور باليباس، حينذاك تغيب كل أشكال الإبداع في المجتمع. فالنص الديني، لا يلغي جهود العقل وإبداعاته ومكتسباته في مقاربة الواقع واكتشاف سننه وقوانينه وجمالياته.
فالخصوصية ليست مقولة للتبرير والجمود، وإنما هي فضاء حضاري وثقافي واجتماعي، يحملنا مسؤولية، ويدفعنا باتجاه الإبداع واجتراح الفرادة الذاتية. كما أن هذا الفضاء لا يتقوقع على ذاته. بل ينفتح ويتواصل مع الآخرين، ويطور من نسيج علاقاته وتفاعله مع الفضاءات والعوالم الأخرى.
من هنا فإن الخصوصية تعني:
1 - الاعتزاز العميق والواعي بالذات الثقافية والحضارية.. الاعتزاز الذي يدفعنا دائماً إلى الاجتهاد والتجديد والتطوير المستمر.
2 - الانفتاح والتفاعل والاستفادة من المكاسب والإنجازات الإنسانية والحضارية.
3 - ردم الهوة والفجوة بين المثل والمبادئ التي تحملها الذات الثقافية وبين الواقع. وتأخذ عملية الردم صوراً وأشكالاً متعددة، إلا أن الجامع المشترك هو السعي الحثيث والعمل المتواصل لتوحيد الواقع مع المثال..
4 - طموح وتطلع رفيع مع جهد وفعل بمستوى الطموح، وعمل يرقي إلى مستوى الأهداف والغايات.
فالخصوصية لا تعني رفع الشعارات الكبيرة المجردة، كما أنها لا تعني الأحلام الملساء والبعيدة عن العمل والكفاح.
فالخصوصية رؤية واضحة، وعزيمة راسخة، وواقع مجتمعي يجسد المبادئ والقيم..
وعلى ضوء هذا الفهم، فإننا نعتقد أن الخصوصية رافعة للتقدم والتطور، وليس كابحة لهما. وأي محاولة لجعل الخصوصية مضادة ومعوقة لمشروع التقدم، فهي تشويه لمعنى الخصوصية، وتستهدف استمرار حالة الجمود والتراجع والتقهقر.
من هنا فإننا ينبغي أن نتعامل مع مفهوم الخصوصية بواقعية وبعيداً عن التهوين أو التهويل. فكل المجتمعات والأمم لها خصوصيات، وهذه الخصوصيات ليست إطاراً للانغلاق والانحباس والانكفاء، بل هي إطار للانطلاق وتفعيل نقاط القوة وتحريك الساحة الاجتماعية باتجاه القضايا المهمة ومشروعات البناء والتطوير.
فخصوصيات المجتمع الياباني لم تمنعه من التفاعل الخلاق مع مكاسب العصر ومنجزات الحضارة، ولم تحل دون المشاركة الفعالة في شؤون الحياة الإنسانية المتعددة.
كما أن الهند، هذا البلد العملاق والمتعدد في كل شيء تقريباً، لم تمنعه خصوصياته الدينية والثقافية والاجتماعية من بناء ديمقراطية عريقة وأوضاع صناعية وتكنولوجية متقدمة. بل إننا نعتقد أن هذه الخصوصيات، تحولت بفعل الوعي والإرادة إلى عامل إثراء وقوة في التجربتين اليابانية والهندية.
وإنه آن الأوان بالنسبة لنا، إلى التعامل مع مفهوم الخصوصية بعيداً عن حالات النرجسية أو محاولات التبرير والتسويغ المعيقة للتطور والتقدم الاقتصادي والاجتماعي والحضاري.
فالأمم الحية تتحول فيها الخصوصيات إلى عامل دعم وإسناد لكل مشروعات البناء والتطوير. كما أن الرؤية الحضارية لمفهوم الخصوصية، هو الذي يساهم بشكل كبير في خلق الفعالية والحيوية في جسم الأمة والمجتمع.
اضف تعليق