ليس جميع الشعوب مؤهلة لصناعة الأمثال، فهي حصيلة تجارب تاريخية، والتي لا تملك تاريخا ليس بمقدورها صوغ أمثال تمتاز بعمرها الطويل، وتجاوزها للأزمنة والأمكنة، ذلك ان عراقة الأمثال وأصالتها تجردها من سياقاتها المكانية والزمانية، ما يجعلها صالحة لكل البشرية، فلم نسمع يوما بمثل عميق من المجتمعات حديثة التكوين...
ثمة أمثال عند سماعها كمن يشرب ماء باردا في يوم قائظ، لعمق معناها ومتانة صياغتها. ومع ان الأمثال باللغة الفصيحة لا تختلف عن الأمثال باللهجة العامية من حيث متانة سباكتها وأصالة معانيها، لكني شغوف بالأمثال العامية أكثر، ولا أعرف بالضبط سببا لذلك، فشعوري بجمال الأمثال العامية يفوق الفصيحة، أحسها بشكل مختلف. وكأنها تخاطب وجداني أكثر مما تخاطب عقلي، بينما هي مبنية على المنطق وليس على العواطف. ومع ذلك تهتز دواخلي راقصة.
غالبية الأمثال لا يُعرف لها تاريخ محدد، لا ندري متى انطلقت، او قصتها ودواعيها، كما لا يُعرف من ألفها او من أطلقها، فاذا أردت أن تدرس تاريخ الأمثال كما درس ميشيل فوكو تاريخ الجنون مثلا، فذلك أمر عسير او مستحيل، وقد يغلب الظن والتأويل أكثر من الحقائق اليقينية على من يرغب باقتحام هذا المجال.
ولذلك ذهب غالبية المهتمين الى جمع الأمثال وتفسير معانيها والحالات التي تضرب فيها، فلو أردنا على سبيل المثال التعرف الى تاريخ نشوء مثلنا الشعبي الذي يقول (تسايرة المطي للكيف) أجلكم الله، فذلك ضرب من الخيال، ويراد (بالتسيارة) الذهاب الى مكان معين للتعلل والتسلية وقضاء الوقت، و(المطي) هو الحمار، اما الكيف فهو الفرح كالأعراس او الأماكن التي تقام فيها حفلات وغيرها. ويضرب على الشخص الذي يدخل مجالا لا يفهم منه شيئا، فتخيلوا ماذا يفعل الحمار بحضوره الى حفلة، ما الذي يفهمه منها، وما جدوى وجوده بين المحتفلين؟، ولكم تحديد الحالات الواقعية التي يضرب فيها هذا المثل، وأعفوني من هذه المهمة، فأحيانا يأخذني الحماس أكثر من اللازم، وأخشى من نفسي.
ليس جميع الشعوب مؤهلة لصناعة الأمثال، فهي حصيلة تجارب تاريخية، والتي لا تملك تاريخا ليس بمقدورها صوغ أمثال تمتاز بعمرها الطويل، وتجاوزها للأزمنة والأمكنة، ذلك ان عراقة الأمثال وأصالتها تجردها من سياقاتها المكانية والزمانية، ما يجعلها صالحة لكل البشرية، فلم نسمع يوما بمثل عميق من المجتمعات حديثة التكوين، كعمق الأمثلة الصينية او العراقية او المصرية، كم هم جميل المثل الصينية الذي ورد في (تايتل) مسلسل (حافات المياه) الذي يقول (لا تحتقر الأفعى لأنها بلا قرون)، او المثل المصري (شياخذ الريح من البلاط)، او العراقي (ودع البزون شحمه). لا يمكن مقارنة مجتمع يمتد تاريخه لسبعة آلاف سنة بآخر عمره ثلاثمائة سنة.
التجارب التاريخية مراجل تتفاعل فيها جميع عناصر الثقافة، والحصيلة أمثال عميقة شذبها الزمن لغويا، ليكون لفظها كاسيا لمعناها من دون زيادة، وبهذا تشبه لغة الأمثال اللهجة العامية من حيث ان كلماتها على قدر معانيها، ليس فيها انشاء او جمل فضفاضة. صناعة الأمثال ابداع نوعي لافت، وأول ميزات هذا الابداع التكثيف على مستوى المعنى واللفظ، يختصر لك الكثير من الكلام الذي يجب قوله في حالة معينة، وقد قالت العرب قديما (خير الكلام ما قل ودل) وأكثر النصوص التي ينطبق عليها هذا القول هي الأمثال.
اضف تعليق