هناك الكثير من الكتاب وظفوا سيَرهم بصورة ناجحة في سردهم، كما نلاحظ في تجربة همنغوي عندما كتب روايته (وداعا للسلاح)، أو في كتابات ماركيز الذي استثمر الحكايات والأساطير التي حكتها له جدته وتفاصيل القرية التي عاش فيها طفولته، الخلاصة لا يمكن الخلاص من السيرة الذاتية إلا إذا تحول الكاتب إلى صانع خيال من طراز خاص...
عندما قرأت السيرة الذاتية للأديب الروسي الشهير (أنطوان تشيخوف)، وجدتُ الكثير من قصصه وسرده وحتى المسرحيات التي كتبها تحمل الكثير مما عاشه في حياته، وحين كتب مسرحيته الأولى وتم عرضها في مدينته آنذاك، واجهت فشلا ذريعا وعزوفا جماعيا من الناس، وجرّب حظه في مسرحية ثانية ولاقت الفشل نفسه، لكنه في مسرحية بستان الكرز حقق نجاحا صاعقا ومفاجئا حيث أقبل عليها الناس إقبالا كثيفا، مما أعاد له ثقته بنفسه وقلمه، وجعله يتساءل مع نفسه لماذا فشلت مسرحياتي الأولى ونجحت بستان الكرز؟
هذا السؤال وجهه انطوان تشيخوف إلى أحد أصدقائه من النقاد وأراد أن يعرف سبب نجاح مسرحيته هذا النجاح الهائل، فأجابه صديقه الناقد (إن الناس حين يأتون إلى قاعة المسرح فإنه يريدون أن يشاهدون حياتهم!، وحين استوضح منه أكثر، قال يريد الناس أن يشاهدوا المسرحيات التي تتعامل مع واقعهم وتقدم حلولا لمشكلاتهم، وللمصاعب التي تقف في وجوههم).
هذا الكلام يذكرنا بأهمية ما تقدمه الرواية والقصة للناس، فهم يقبلون على قراءة القصص والروايات التي تعالج لهم واقعهم وتسعى لمساعدتهم على إيجاد الحلول لمشكلاتهم، من هنا فإن الرواية لابد أن تقدم تجربة نابضة بالمواقف الحياتية المختلفة الملموسة، أما حين تكون ضربا من الخيال أو من التهويمات العجيبة والهذيان المنفلت، أو توغل في عالم طوباوي غرائبي، فماذا يحصل الناس في هذه الحالة من الرواية أو القصة؟
ما هي مكانة القارئ في الرواية؟
نعم هناك نظريات ومدارس نقدية مختلفة، يكتب الكتاب أعمالهم في ضوئها، وبحسب انتمائهم الفكري لها، وهم أحرار في ذلك، ولكن أين مكان القارئ من هذا الكلام، وما الذي سيحصلون عليه في نهاية مشوار القراءة، وإذا كان هناك قراء يطيب لهم الخيال والجنوح بعيدا عن أرض الواقع، فهناك أيضا وهم الأكثرية يريدون رؤية حياتهم في الرواية أو القصة التي يصرفون عليها وقتا ومالا لقراءتها؟
أحد الأدباء يعمل في مجال الصحافة أجرى استطلاعا حول كتابة السيرة الذاتية في القصة والرواية، وقد وجّه لي سؤالا محددا، هل تكتب سيرتك وأحداث حياتك في قصصك و رواياتك، أم تعتمد على الخيال في كتاباتك؟
وجاءت إجابتي في شقّين أو جوابين، الجواب الأول سوف أستخلصه من تجربتي الشخصية في كتابة السرد رواية أو قصة، فعلى مدى أربعين سنة مع الكتابة، وحصيلة أربع روايات وست مجاميع قصصية مطبوعة، أقول أن كل ما كتبته سوف تجد فيه شيئا من سيرتي وحياتي بدءًا من الطفولة وحتى الآن، وقد تكون نسبة وجود السيرة في النص متباينة قلة أو زيادة، لكن لابد من وجود شيء في حياتي في جميع ما كتبته.
توظيف السيرة الذاتية في الكتابة
الجواب الثاني مستخلص من قراءاتي ومتابعاتي لما يكتبه الكتاب العراقيون أو العرب أو العالميون، فهناك من تجد سيرته لها دخل فيما يكتب، وهناك لا يدنو من سيرته، وتكاد تكون كتاباته كلها خليط من الخيال ومما يأخذه من حياة الآخرين، النموذج الواضح لهذا النوع من السرد روايات غيوم ميسو وهو كاتب فرنسي معاصر بلغت مبيعات كتبه ارقاما كبيرة، ففي روايته المترجمة حديثاً إلى العربية بعنوان "حياة الكاتب السرية" (دار نوفل، ترجمة رانيا الغزال، 2020) يقول ميسو بشيء من التهكم الجميل ملخصاً عمل الكاتب "حياة الكاتب هي الشيء الأقل روعة في العالم. أنت تعيش كالأحياء الأموات. وحيداً ومنقطعاً عن العالم. تبقى في ثوب النوم طوال النهار وتؤذي عينيك مسمراً أمام الشاشة وأنت تتناول البيتزا الباردة وتتحدث إلى شخصيات خيالية ستفقدك صوابك في نهاية المطاف. تمضي لياليك وأنت تعصر أفكارك لتكتب جملة لن يلحظها ثلاثة أرباع قرائك القلائل. هذه هي خلاصة أن تكون كاتباً".
هذا يعني أنك تبذل المزيد من التخيّل وصناعة الأحداث، بعيدا عن سيرتك الذاتية الجاهزة، أما حاجة الإنسان لسيرته الذاتية في الكتابة فأراها كبيرة ومهمة بالنسبة لي، فلا يوجد عمل لي كتبته دون أن أزج نفسي فيه، وفي معظم الأحيان يحدث ذلك بطريقة إجبارية، أي أنني لا أستطيع أن أتخلص من نفسي وأنا أكتب روايتي أو قصتي. ومن الأفضل أن يدرج الكاتب المواقف المفيدة التي عاشها كي يقدمها للقراء كتجارب جيدة يمكن أن تساعدهم على تصحيح وتطوير حياتهم نحو الأفضل.
هناك الكثير من الكتاب وظفوا سيَرهم بصورة ناجحة في سردهم، كما نلاحظ في تجربة همنغوي عندما كتب روايته (وداعا للسلاح)، أو في كتابات ماركيز الذي استثمر الحكايات والأساطير التي حكتها له جدته وتفاصيل القرية التي عاش فيها طفولته، الخلاصة لا يمكن الخلاص من السيرة الذاتية إلا إذا تحول الكاتب إلى صانع خيال من طراز خاص.
اضف تعليق