إن رفقتي مع الكتاب، دعتني إلى مائدة (غذاء فكري) مفتوحة دونما مقابل، فهذا الغذاء أحصلُ عليه مجانا، لكنه عاد لي بفوائد لا يمكن حصرها، لاسيما أن علاقتي مع الكتب قادتني إلى القراءة التي أصبحتْ طقساً يوميا وديدناً لا يمكن الفكاك منه ولا الاستغناء عنه مطلقاً...
قريتنا الهادئة المسماة (أم البط) تغفو على كتف نهر متهادي، توجد فيها مدرسة ابتدائية واحدة ليست بعيدة عن بيتنا المبني من البردي وسعف النخيل، كان بيتنا هادئاً صغيراً يتكوّن من كوخِ واحد وفناء واسع، يتوسط أكواخ القرية المتشابهة بصفات كثيرة، أولها البساطة المفرطة، وثانيها الفقر بأبهى حالاتهِ.
قد يسألني أحدهم، وهل هناك فقرٌ بهيّ، فأقول له دونما تردد، نعم هناك فقر مضيء يجمع الناس حول بعضهم، ويدفعهم لإبداء المساعدة المتبادَلة فيما بينهم، ويصنع لهم أجواءً من المحبة والتقارب، يعجز عن صنعها الغنى والثراء والتعقيد المعيشي بين الأسر الميسورة.
أمسكتْ أمي الفلاحة بيدي، وقادتني إلى مدرسة القرية بعد أنْ بلغتُ من العمر ستُّ سنوات، ومع صِغَر سنّي، كنت أشعر بكف أمي وهي ترتجف، كأنها مذعورة من شيء ما، الأمر الذي نقلَ لي خوفها الغامض، تذكّرتُ حين حاولتْ أمي أن تلقي مهمة (تسجيلي في المدرسة الابتدائية) على أبي، لكنّ الأخير تهرّبَ بحجة الذهاب إلى الحقل وحصد القمح، وصلنا إلى باب المدرسة، شعرتُ بازدياد ارتعاش كفّ أمي، كأننا دخلنا إلى قلعة مخيفة ومجهولة.
لا زلتُ أتذكر تفاصيل غرفة مدير المدرسة، وشكلهُ وهو يجلس على كرسي، لا تحتوي عليه بيوت القرية كلها بما فيها بيتنا، شكل غريب لم نعرفه أو نرهُ من قبل، ولم نعرف اسمه حتى، أما الطاولة المصنوعة من الخشب اللامع، فقد بدتْ مثل كائن خرافي يطّلع عليه بصري لأول مرة، أشياء غرفة المدير كلها غريبة علينا، الشيء الوحيد الذي لم يُصبنا بالارتباك في هذه الغرفة هو المدير، رغم أنّ ملبسهُ كان غريبا علينا أيضا.
عادة ما يرتدي الفلاحون الدشداشة واليشماغ، أما القميص والسروال والجاكيت فلم تتعرف عليها عيوننا سابقا، وأغرب شيء أقلقني في ذلك العمر المبكّر، مجموعة الكتب الموضوعة على رفوف مكتبة صغيرة خلف المدير أصابتني بالذهول، فكان منظر الكتاب صادما لي، لأول مرة أراه ولا أعرفُ فحواه، ألوان أغلفة الكتب، هي وحدها خفَّفت من سطوة الخوف والارتعاش الذي انتقل من كف أمي إلى جسدي كله.
كنت أشعر بكف أمي فوق شعر رأسي، أصابعها ترتعش بشدة فوق جمجمتي، ولا زلت أتذكر حتى هذه اللحظة حين أخطأتُ باسمي حين سألني المدير (ما أسمك)، فقد أعطيته الاسم الصحيح الأول لي، ونسيتُ اسمَ أبي، الغريب حين حاول المدير أن يعرف اسم أبي من أمي، هي الأخرى لم تتذكر اسمهُ بسبب الارتباك.
طلب منا المدير الخروج إلى فناء المدرسة وحين نتذكر الاسم نعود لنخبره به، سحبتني أمي بكفّها خارج غرفة المدير، كانت خطواتها متعثّرة، لكنها قبل أن تتجاوز الباب إلى الفناء، تذكّرت الاسم، فعادت وأخبرت المدير به!!
هذا المشهد حدثَ في أول مرة أنتمي فيها إلى القراءة، وإلى الكتب، وإلى المدرسة، فبعد هذه البداية الملْتبسة في رؤيتي للكتاب بغرفة مدير مدرستي الابتدائية، رسخَ شكل الكتاب في رأسي، ومع مرور السنوات، تزايدَ تعلّقي بالكتاب، وخرجتُ من إطار الحب المدرسي للقراءة، إلى علاقة جيدة مع الكتب الخارجية، ولعل انتقالنا من الريف إلى المدينة أتاح لي التعرف على المكتبات العامة والخاصة بصورة جيدة.
في مدرسة الخزرجية الابتدائية، وهي مدْرستي الثانية بعد مدرسة القرية، كانت هناك مكتبة صغيرة في غرفة معاون المدير، وكان الأخير يشجعنا باستعارة كتب الصغار والفتيان، وحين بلغتُ الصف الخامس الابتدائي (عمري 11 سنة)، كتبتُ بيتا شعريا عموديّ الشكل، حدث هذا لأول مرة معي، قلّدتُ فيه ما قرأت من أشعار بسيطة، الآن لا أتذكر كلمات ذلك البيت الشعري الأول، لكنني أتذكّر شكله المكوَّن من (صدرٍ و عجز)، حملتُ الورقة وهرعتُ بها إلى أخي الأكبر عبد الرزاق، وأخبرته على الفور بأنني كتبتُ هذا البيت الشعري، فأخذ مني الورقة وتطلّع مليّا في ما كتبتُ، ثم تبسّمَ بفرح وربتَ على كتفي وقال لي استمر فأنت شاعر.
كلمة أخي عبد الرزاق التشجيعية لي، حوّلت الغموض والالتباس في علاقتي مع الكتب، إلى علاقة واضحة لا يشوها خوف أو تردّد، أتذكر في اليوم التالي ذهبت إلى إحدى المكتبات واشتريتُ كتباً متنوعة، لم استشر عنها أحداً، عنوان الكتاب كان دافعي الأول لشرائه، حتى أنني لم أكن أفرّق بين كُتب الشعر والقصة والرواية، العنوان هو الكفيل باقتنائي لهذا الكتاب أو ذاك، في المتوسطة صارت القراءة خارج المناهج الدراسية زاداً منتظما لي، أتناوله بنهم.
من الكتب التي وقعت بيدي وأنا في الثالث المتوسط، رواية فتيان بعنوان (العودة) لكاتب فلسطيني لا أتذكر اسمه، لكنني أتذكر بطل الرواية (فؤاد)، المناضل الفلسطيني الذي ترتبط قضية تحرير أرضه بقصة حب عميقة ومدهشة، كانت هذه الرواية الأولى التي أقرأها بجلسة واحدة استمرت أكثر من ثلاث ساعات.
لازلت أتذوق بهجة قراءة رواية (فؤاد)، وأتذكر شخصيته المؤثّرة حتى اللحظة، وأذكر أنني حين غصتُ في عالم القراءة انفصلتُ بشكل كامل عن عالمي الواقعي، وحدثتْ تلك الفجوة الوجودية التي تكلَّمتْ عنها سوزان بيرنار (تعرفتُ عليها لاحقاً) في كتابها (قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا)، حيث لم يعد لي شعور بما حولي.
ومع مرور الشهور والسنوات، تطورّت علاقتي مع الكتب، ورافقني سلوك دائم مقرون بشعور لا أعرف تفسيره حتى هذه اللحظة، السلوك الذي لازمني مثل ظلّي هو حملي للكتاب أينما حللتُ وذهبتُ، لم يكنْ الكتاب يفارقني.
فحتى لو كان مقصدي إحدى الساحات أو الملاعب الرياضية كي أتمرن، أو إحدى دور السينما، أو أحد المسارح، أو حديقة عامة للتنزّه، أو أي مكان آخر، فالكتاب لابد أن يكون برفقتي، أحمله بيدي، فأشعر بحالة من الصداقة أو الرفقة الباعثة على الاطمئنان والاستئناس والمحبة.
ولاحقاً حتى أصدقائي الذين كانوا يتساءلون كثيرا عن أسباب حمْلي الكتاب بصورة دائمة، اعتادوا هذا السلوك مني، وكفّوا عن الأسئلة، بل من المفارقات أنهم راحوا يستغربون عدم حملي للكتاب في أي مكان يروْنني فيه!!
السؤال الذي ورد في ذهني الآن، وقد يرد في أذهانكم، هل هناك كُتب بعينها هي التي تقترن بتجوالي ومرافقتي دون غيرها؟، الجواب، نعم هناك كتب أثيرة على نفسي وقريبة منها، كانت ترافقني أينما حططْتُ رحالي، والسبب أنني أحاول استثمار وقتي في كل لحظة لمواصلة القراءة.
فحين أذهب لأحد المطاعم لتناول وجبتي، سوف يكون هناك وقت بين طلبي للطعام وبين المجيء به من قبل النادل، في هذا الوقت القصير نسبيا أقرأ في كتابي المرافق لي، وينسحب هذا على جميع الأوقات القصيرة التي قد تذهب هدراً دون أن نتنبَّه لها.
وهكذا تطورت علاقتي بالكتب، وتحولت من حالة الالتباس والتعقيد والاستغراب والتردّد، إلى رفقة لا فكاك منها، وأروع ما في هذه العلاقة أنها فتحت لي نوافذ لا تحصى نحو المعرفة، لاسيما في مجال السرد الروائي والقصصي، الذي أتاح لي بدوره الإطلاع على أحداث عالمية مختلفة، لم أطّلع عليها في كتب التاريخ لأنني قارئ مقلّ لها.
لكنني اطلعتُ مثلا على الكثير من تفاصيل الأحداث والحروب العالمية من خلال رواية (وداعا للسلاح) لأرنست همنغواي، أو رواية (الساعة الخامسة والعشرون) لقسطنطين فيرجيل جورجيو، أو رواية (عناقيد الغضب) لـ جون شتاينبك التي تدور أحداثها عن الحرب الأهلية الأمريكية، وهكذا الأمر مع عشرات الروايات والمجاميع القصصية الأخرى التي أفصحت لي عن عوالم وتواريخ وأحداث، منحتني فرصا رائعة للإطلاع على ثقافات أمم أخرى.
وأخيرا فإن رفقتي مع الكتاب، دعتني إلى مائدة (غذاء فكري) مفتوحة دونما مقابل، فهذا الغذاء أحصلُ عليه مجانا، لكنه عاد لي بفوائد لا يمكن حصرها، لاسيما أن علاقتي مع الكتب قادتني إلى القراءة التي أصبحتْ طقساً يوميا وديدناً لا يمكن الفكاك منه ولا الاستغناء عنه مطلقاً.
اضف تعليق