مازقنا يتمثل في ان واقعنا الثقافي اقرب الى الشللي، ويفتقد لاختلاط اجناسه وتفاعلها الاّ في مناسبات خاصة، وتكون اللقاءات غالبا غير مثمرة، والاّ كيف يمكن فهم وجود هذا الكم الكبير من الاعمال الادبية من دون ان تجد طريقها للسينما او المسرح او الدراما، ولو بنسبة قليلة؟...
حين يدور حديث عن رواية او قصة مصرية، غالبا ما نسمع واحد او أكثر من بين المتحدثين، يقول انه لم يقرأها وانما شاهدها فيلما!، ويذكر اسماء الممثلين البارزين فيه واسم المخرج أحيانا، لا اتحدث هنا عن الوسط الثقافي بل عن الناس العاديين الذين وصلتهم الثقافة المصرية، ليس بجهد مثقفيها او مبدعيها وحدهم، بل بتكامل المؤسسات هناك، وتداخلها مع بعضها البعض، فالاديب المصري يكتب وعينه على السينما او التلفزيون، ولعله يتخيل وجوه الممثلين اثناء الكتابة بين السطور! لان عمله سينتج فيلما او مسلسلا او مسرحية.
وما عليه سوى ان يقدم نصه وسيجد من يتلقّفه منه ومن يسوّقه، ويحتفي به نقديا من خلال الصحافة ووسائل الاعلام، وبذلك فان كل جهد هناك مرصود ومثمّن، هذا التكامل قدم الثقافة المصرية للبلدان العربية والعالم، وعرّف السواد الاعظم من الناس بمبدعيها ومثقفيها، لان الذي لم يقرا الرواية، سيشاهدها عملا فنيا يتابعه في السينما او المسرح، او وهو مسترخ في بيته وبين افراد اسرته من خلال التلفزيون.
والامر لا يختلف مع النتاج السيري والتسجيلي بمختلف اشكاله، فمن لم يقرا كتاب صالح مرسي عن رافت الهجان، مثلا، سيشاهده في مسلسل، وكذلك النتاج التاريخي والديني والسياسي والاجتماعي الذي يجتهد المصريون في تقديمه من خلال الفن، وبواسطة كتاب السيناريو، ليغطوا مشهد الحياة هناك ويجعلوا عجلة الثقافة في دوران مستمر.
لعلي لم اقل شيئا جديدا، فالكل يعرف هذا، الاّ ان الشيء الذي دفعني لهذه المقاربة، هو احساسي باغتراب المثقفين والمبدعين العراقيين عن بعضهم البعض، لدرجة انهم لم يعرفوا قيمة ومقدار جهود زملائهم خارج مشاغلهم الابداعية الخاصة، وهنا لا اعمم بالتأكيد، في الاشهر الاخيرة تلقيت من اصدقاء اساتذة في حقل الاعلام، بعض اصداراتهم في مجال تخصصهم، ووجدت ان من الواجب الاخلاقي قراءتها، اذ اهداني استاذ الاعلام د. كاظم المقدادي ثلاثة كتب، وقبله اهداني الاستاذ زيد الحلي كتابا بعنوان (السنين ان حكت) وايضا تلقيت كتابين من الدكتور طالب سعدون تضمنا اعمدة ومقالات صحفية، (ندّ الرئيس) و( عنوان صحفي يكفي)، وبعد ان قرات هذه الكتب وجدت ان مازقنا الثقافي يكمن في هذا التباعد والانطواء على انفسنا او اجناسنا الابداعية من دون التوسع في معرفة الاجناس الاخرى بشكل مناسب، كمدخل لتكامل ثقافي مطلوب وضروري.
فالعلاقة بين الادباء والسينمائيين، مثلا، تكاد تقتصر على العلاقات الشخصية للبعض، بافتراض ان لدينا سينما! وكذلك المسرح وبقية الاجناس الكتابية التي لا غنى عنها لأي مهتم ومثقف، لان الذي يريد توسعة مداركه لا يمكن له ان يبقى اسير قراءة جنس كتابي معين، كونه سيتصحر ويشعر بالغربة امام سعة المعارف والفنون والعلوم ايضا.
لقد وقفت عند قراءتي للمقدادي على عقل مثقف لم اكن اعرف حجمه الحقيقي من قبل، للاسف، وهذا تقصير مني، ولعله هو ايضا لم يقرأني، والامر كذلك مع الاستاذ الحلي الذي قدم جهدا رائعا في اقتحامه عوالم مثقفين مهمين ومن مختلف الاجناس، ليعطي لمشغله الصحفي سعة يحتاجها، ليكون اكثر التصاقا بقضايا الحياة والثقافة، والامر كذلك مع د. طالب سعدون الذي وجدت في اعمدته ومقالاته ما يستحق ان يطلع عليه المبدع في الادب وغيره، لان العمود الصحفي ومقال الراي باتا من اهم وسائل صنع المزاج العام للشعوب.
مازقنا يتمثل في ان واقعنا الثقافي اقرب الى الشللي، ويفتقد لاختلاط اجناسه وتفاعلها الاّ في مناسبات خاصة، وتكون اللقاءات غالبا غير مثمرة، والاّ كيف يمكن فهم وجود هذا الكم الكبير من الاعمال الادبية من دون ان تجد طريقها للسينما او المسرح او الدراما، ولو بنسبة قليلة؟ مع ملاحظة ان العراق يعاني اصلا من قلة كتاب الدراما وضعف واضح في هذا الجنس الابداعي، ولعل استثمار الاعمال الادبية كمرجعية، سيساعد السيناريست على خلق تصور اشمل واوسع للموضوعة المتناولة.
لا يداخلنا الشك في ان غياب التكامل المؤسسي من خلال ضعف مؤسسة الثقافة بشكل عام، واهمالها من قبل الدولة، لاسيما بعد العام 2003 اسهم في تكريس واقع كان يعاني بشكل ملحوظ مما ذكرنا، لكن المؤكد ليس بالدرجة المؤلمة التي بات عليها الان!
اضف تعليق