يتساءل الكثير عن السر وراء اهتمام الاعلام البريطاني اكثر من نظرائه في اوربا والغرب، في أمر العنف الطائفي، وتسليط الضوء بشكل لافت على نقاط الافتراق والحدود الفاصلة بين المناطق السكنية للمواطنين الشيعة او السنة، في غير بلد بالمنطقة، وتحديداً ايضاً؛ في العراق والبحرين والسعودية...
يتساءل الكثير عن السر وراء اهتمام الاعلام البريطاني اكثر من نظرائه في اوربا والغرب، في أمر العنف الطائفي، وتسليط الضوء بشكل لافت على نقاط الافتراق والحدود الفاصلة بين المناطق السكنية للمواطنين الشيعة او السنة، في غير بلد بالمنطقة، وتحديداً ايضاً؛ في العراق والبحرين والسعودية؛ سواءً جاء هذا العنف من العلاقة المتوترة بين الشعوب وحكامها، او مما جاء بعد ذلك على يد الجماعات التكفيرية التي رفعت الدين شعاراً لممارسة هذا العنف بشكل اكثر دموية؟
المؤسسة الاعلامية البريطانية تميزت عن نظيراتها في اوربا والغرب في تغطيتها المستمرة لما تنجزه هذه الجماعات الارهابية من عمليات وتحركات في المجالات كافة، من تفجير، وقتل جماعي، وتقدم مثير في تقنية الاتصال، واستحصال موارد مالية ضخمة، وتعبئة وانتشار حول العالم، بينما لا نلاحظ هذا الاهتمام البالغ في فرنسا –مثلاً- وقد ازدلف منها المئات من الشباب والشابات من مواطنيها صوب سوريا للقتال في صفوف "داعش".
قمع التطور والتنمية قبل قتل الابرياء
الاعلام من أهم وأبرز أدوات السياسة في العالم، وهي حقيقة لا يختلف عليها اثنان، وكان البريطانيين، ومنذ عهد الاستعمار من السباقين في هذا المضمار الى جانب الفرنسيين، فقد أسسوا الصحف والاذعات باللغات المحلية في الشرق الاوسط لنقل وقائع التحركات العسكرية والتطورات السياسية بالشكل المطلوب الى شعوب المنطقة، كما حصل في ايران والعراق ومصر في نهايات القرن الثامن عشر، وما بعده في مطلع القرن العشرين.
وقد لفت الخبراء والباحثين رؤية استراتيجية خاصة في لندن، تعود الى القرن الثامن عشر، حيث كانت بريطانيا تعد نفسها "الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس"، وحتى تضفي مصداقية على هذه المقولة الدعائية بامتياز، كان عليها اتباع سياسة خاصة بعيدة المدى مع البلدان التي تقع تحت احتلالها ونفوذها، وبالدرجة الاولى؛ تركيا ومصر وايران، ثم البلدان التي لم تكن لتنتظم بعد في إطار دول مستقلة وفي مقدمتها؛ العراق، وتقضي هذه السياسة بالحفاظ على الوضع الراهن لهذه البلدان، وعدم السماح لها بالتقدم سياسياً على وجه التحديد، وفرض وجودها السياسي والعسكري كـ"عامل توازن" بين القوى الصغيرة الموجودة في المنطقة، فالامن والاستقرار، هي من توفره لا الحكومات الحديثة النشوء والضعيفة في هذه البلدان. وأي معاهدة سلام او اندماج، او أي اتفاقية فيما بين هذه الدول يجب ان يمر عبر لندن لتنظر ما اذا كان يتوافق مع استراتيجية الوضع الراهن، أم أن العراقيين أو الايرانيين –مثلاً- يفكرون في إعداد نصوص معاهدات صداقة وسلام بعيدة المدى، واتفاقيات للتبادل التجاري والتعاون الاقتصادي المشترك وغير ذلك؟!
هذه السياسة ربما تكون الوضع النظري لمقولة: "فرّق تسد" التي اتبعها البريطانيون أيام استعمارهم العسكري في الشرق الاوسط، فقد كانوا يعدون انفسهم "الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس"، فلابد من مصداقية لهذه المقولة، وهي عدم السماح لأي قوة اقليمية بالصعود سياسياً ثم اقتصادياً والتحول الى محور قوة فاعلة ومؤثرة على سائر الدول في المنطقة.
الكاتب والباحث اللبناني الدكتور رغيد الصلح، رصد هذا النمط من التعامل السياسي للحكومات البريطانية المتعاقبة، وسلط عليها الضوء بدقة في كتابه المميز: "حربا بريطانيا مع العراق، 1941-1991"، واستنتج منها الاسباب الحقيقية وراء اندفاع العراق لخوض الحرب مع الولايات المتحدة، وبريطانياً ايضاً عام 1991 بعد قرار صدام احتلال الكويت، وكيف عكفت بريطانيا ليل نهار على غلق كل الابواب، وإحباط كل المحاولات الرامية لإنهاء أزمة احتلال الكويت بالطرق السلمية، وهو في ذلك يقدم الخلفيات التاريخية للعلاقات البريطانية –العراقية منذ ايام الاحتلال، ثم تكوين الدولة العراقية، ثم ظهور حركات المعارضة والتمرد في أروقة هذه الدولة التي عملت على إنشائها، وتحديداً فيما يسمى ب"حركة مايس" والانقلاب الذي قاده رشيد عالي الكيلاني والضباط الاربعة عام 1941 على الملك غازي بن فيصل الأول.
علماً أن هذه الاستراتيجية طبقها البريطانيون من قبل في علاقاتها مع دول العالم منذ القرن التاسع عشر، وماتزال بهدف الحفاظ على مكانتها في التأثير على سياسات الانظمة الحاكمة، من خلال وجودها المميز بين دول مأزومة سياسياً واقتصادياً، ثم أمنياً في التطور الجديد الحاصل في العالم بأسره، فقد كانت تسعى دائماً لأن تفقد الدول أمنها واستقرارها بشكل غير مباشر من خلال التأثير على القرارات والسياسات المتبعة لدى الحكومات في مختلف بلدان العالم وهي تتحرك لعقد اتفاقيات سلام او تقارب فيما بينها.
وفي آخر إثارة إعلامية من الإعلام البريطاني ما أوردته صحيفة "صاندي تايمز" نقلاً عن مصادر "استخبارية" بريطانية كشفت عن وجود "خلايا التماسيح" يقودها تنظيم داعش للقيام بهجمات محتملة في اوربا، وحسب الصحيفة فان هذه المعلومات حصلت عليها من قرص مدمج وجد في مواقع داعش بسوريا، وفيه معلومات مثيرة عن خطط التنظيم –كما تقول الصحيفة- لنقل الصراع الى اوربا! كما لو أن الارهاب لأول مرة يتجه الى اوربا بعد كل ما حصل في السنوات الماضية.
وتحدثت الصحيفة عن تفاصيل تعدها مثيرة عن منفذ احدى التفجيرات في سيرلانكا داخل كنيسة، وقد تعرفت المخابرات البريطانية على هويته، وتقول ان السلطات هناك كانت تتعقبه وتراقب سلوكه المتطرف منذ تخرجه من الجامعة عام 2008!
اجراءات لتغيير الوضع الراهين السيئ
اذا كان الوضع الأمني يلقي بظلاله الكثيفة على مجمل الحياة العامة لأي بلد، وينعكس حتى على لقمة عيش الناس، فضلاً عن الوضع الاقتصادي والسياسي، فان الحكومات مدعوة بشدّة للتفكير في الخروج من مستنقع الازمات التي يراد لها البقاء فيه، من خلال معالجة جذور هذه الازمات ومصدر نشوئها، ولطالما كتب العلماء ودعوا في مؤلفاتهم واحاديثهم في فترات ماضية الى تجاوز الفروقات المذهبية والاختلافات في وجهات النظر والتطلع الى المصير المشترك. وهو ما اشار اليه مؤلف الكتاب المشار اليه بان "سياسة التوازن قد تختل، الوضع الراهن قد يتبدل لسبيين: الاول اذا اتجهت الدول المعنية الى تصفية الخلافات وتهدئة النزاعات بحيث تُلغى، او تقلل الحاجة الى تدخل قوة التوازن الخارجية المهيمنة"، أما السبب الثاني الذي يشير اليه فهو: "اكتساب دولة، او عدد من هذه الدول، درجة من القوة تجعلها قادرة على فرض قانونها على الآخرين"، هذا فضلاً عن الاستفادة القصوى من القدرات والامكانيات الذاتية؛ من موقع جغرافي مميز، وموارد طبيعية، ويد عاملة، وقوة بشرية، بل حتى عمق ديني وحضاري كالذي يحظى به العراق.
وربما من أهم الاجراءات على هذا الطريق؛ صياغة منهج إعلامي جديد بطرح ذكي ورسالة ايجابية وبناءة تسلط الضوء على التفاؤل والأمل والبناء والابداع، قبل البحث عن مثيرات الفتن؛ من نزاعات مسلحة، سواءً بدوافعها التكفيرية، او حتى الاجتماعية، او التهويل من وجود الجماعات المسلحة او ما يحلو للبعض تكراره بـ "الخلايا النائمة" الذي يوحي للمواطن وهو داخل بيته أنه معرض في كل لحظة لاستيقاظ خلية ارهابية ما، ربما تكون بالقرب منه وتنقضّ عليه! إنما المفترض التأكيد على القدرات الموجودة، الى جانب الرصيد المعنوي الهائل الذي تجسد في وثبة الشباب العراقي وتشيكل الحشد الشعبي لمواجهة عناصر داعش ووقف تمدده باتجاه الوسط والجنوب عام 2014، ثم الاستعداد لتحرير جميع المدن والقرى التي احتلها التنظيم ليتم القضاء عليه بالكامل ميدانياً.
اضف تعليق