ما يؤلم حقا ان اللغة العربية كانت، في العراق تحديدا، حزينة في يوم الاحتفاء بفرحها. فلقد مرّ يومها باهتا على الصعيدين الرسمي والاعلامي. ذلك لأن معظم من في السلطة بين من يشعر بالنقص في علو شأن العلماء والأدباء، وبين جهلة لا يدركون ان جعل العربية لغة رسمية...

في خمسينيات القرن الماضي كانت الجمعية العامة للأمم المتحدة لا تعترف باللغة العربية، بل كانت لا تجيز الترجمة التحريرية الى العربية الا بشرطين: ان تكون الوثائق ذات طبيعة سياسية وقانونية تهم المنطقة العربية، وان تدفع الدول العربية تكاليف الترجمة!.

وبجهود دبلوماسية مميزة للمملكة المغربية، من خلال منصب رئيس المجلس التنفيذي لمنظمة اليونسكو الذي كان يشغله السيد محمد الفاسي، وسفير المغرب لدى الأمم المتحدة في حينه السيد رشيد الحلو، وباسناد من المملكة العربية السعودية وعدد من الدول العربية، وافقت الأمم المتحدة في العام 1973 بقرارها الرقم 3190 باعتماد الثامن عشر من ديسمبر/ كانون الأول يوما عالميا للغة العربية، بجعلها لغة رسمية للجمعية العامة وهيئاتها. واستمر العمل بهذا القرار الى عام 1977 حيث تم ادراج تكاليف الترجمة الى العربية ضمن الأعباء اللغوية للأمم المتحدة، ونالت حظها كلغة اممية الى جانب خمس لغات معتمدة هي: الانجليزية، الفرنسية، الصينية، الاسبانية، والروسية.

وللتاريخ فان اميركا كانت من المعارضين لهذا القرار، مبررة ذلك بان ملوك وأمراء ورؤساء العرب يجيدون التحدث بالأنجليزية!، برغم ان عدد الذين يتحدثون العربية يزيد على (425) مليون نسمة متفوقة على عدد الذين يتحدثون بالروسية او الفرنسية.

لا نريد ان نتحدث هنا عن كامل مزايا اللغة العربية بوصفها من اقدم اللغات السامية، وانها لغة القرآن، والبلاغة والبيان، والاستقامة والترادف والمعاني الجميلة ،وتفوقها على لغات العالم بمفرداتها الحية التي تبلغ فيها (000 303 12)كلمة، فيما عددها باللغة الإنجليزية (000 600) وفي الفرنسية (150000) وفي الروسية (130000)، ولا عن الذين كتبوا فيها من العلماء والمفكرين والأطباء وما كانوا عربا، ولا الشعراء في عالمنا العربي، وابلغ ثلاثة بينهم (احمد شوقي ومعروف الرصافي وجميل صدقي الزهاوي) كانوا من الكرد وليسوا عربا!.

نشير فقط الى ان العربية لها اهمية خاصة لدى المسلمين كونها لغة مقدسة لا تتم الصلاة الا باتقان بعض مفرداتها، فضلا عن انها لغة شعائرية رئيسة لدى عدد من الكنائس المسيحية في الوطن العربي، وان الكثير من اهم الأعمال الدينية والفكرية والعلمية اليهودية في العصور الوسطى قد كتبت بها. وكانت، بعد انتشار الاسلام وتأسيسه دولا، لغة السياسة والعلم والادب لقرون طويلة، وما يزال تأثيرها موجودا في عدد من اللغات لاسيما الفارسية، التركية، الكوردية، الماليزية، البرتغالية، والاسبانية.

وكانت جامعة قرطبة بحضارتها العربية الراقية يقصدها الطلبة من كل بلدان اوروبا. ويذكر ان الشاعر الاسباني لوركا كان قد سئل: هل تعتبر المرحلة العربية بتاريخ اسبانيا..استعمارا؟ اجاب: المرحلة الوحيدة المضيئة في تاريخ اسبانيا هي المرحلة العربية، وما قبلها كان ظلاما. ولقد شاهدت في زيارتي الأخيرة لأسبانيا ان الأسبان نحتوا التماثيل لأطباء ومفكرين وقادة عرب تكريما لهم، ليس لهم ذكر في زماننا هذا مع انهم ونحن.. عربا!.

ما يعنينا هنا هو التنبيه الى خمس قضايا يؤدي اعتمادها الى اتنتشال لغتنا العربية من الهزال:

الأولى:

ان البلدان التي نجحت في تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية، تم لها ذلك باعتماد لغتها القومية، ولك ان تستشهد بكوريا الجنوبية، فضلا عن الصين واليابان. فلقد كانت كوريا من افقر دول العالم فيما تعدّ الآن سابع دولة صناعيا. وفي كتابه (امبراطورية الكلمة.. تاريخ اللغة في العالم) يتوصل نيكولاس الى ان تاريخ العالم وامبراطوريته ما حدثت من خلال مساحة الوطن او اقتصاد الدولة او تعداد الشعب بل من خلال ازدهار اللغة وانحسارها من عصر الى آخر. ولقد اكتشف الأنثروبولوجيون أن اللغة هي المعبر الأول بين حضارة سابقة وحضارة لاحقة، وأكد المؤرخون أن اللغة تمثل هوية الأمة، فيما الذي يجري الآن في العراق ان حضارته قد صابها انقطاع، وأن اللغة العربية تشكو من هزال، وانها تتعرض فيه الى انتكاسة خطيرة بظهور الهويات القاتلة.

الثانية:

صحيح ان الذين جاءوا الى الحكم احالوا الوطن الى خراب وحياة المواطن الى شقاء، لكننا ما كنّا نتصور ان اساءاتهم ستنال من لغتنا الجميلة. فكثير من المسؤولين السياسيين والنواب يرتكبون اخطاءا لغوية مخجلة حين يتحدثون، ويخطئون ليس فقط في اسم كان وخبر ان ورفع المجرور والمضاف اليه، بل حتى في املاء كلمات بسيطة.. ولك ان تطلع على فضائحهم اللغوية عبر الفيسبوك، فاحدهم بمنصب مدير عام يكتب شكرا بالنون هكذا (شكرن) وآخر يكتب لكن هكذا (لاكن)!.

والأساءة الاوسع انتشارا والأكثر خطرا ان فضائياتهم التي تجاوزت الخمسين، ترتكب اخطاءا فاحشة بحق اللغة. فمعظم العاملين فيها من المذيعين والمذيعات يرفعون المفعول وينصبون الفاعل والمجرور!.. وتلك فاحشة ما حدثت في تاريخ المؤسسات الاعلامية العراقية. ففي السبعينيات، اعلنت مؤسسة الاذاعة والتلفزيون عن حاجتها الى مذيعين ومذيعات.. تقدم في حينها اكثر من (1200) من حملة البكلوريوس.. خضعوا الى اختبار من لجنة ضمت مديرها العام ومدير اذاعة صوت العرب (سعد لبيب) وكبير المذيعين سعاد الهرمزي واكاديمين، اجتاز الاختبار عشرة فقط!. وقد تلقينا نحن العشرة تدريبا بدورة اذاعية في اللغة والصوت والالقاء والدراما وتحرير الخبر لثلاثة اشهر! سمح لنا بعدها دخول الاستديو، لا كما يجري الآن.. ياتون بهم (بهنّ) من البيت الى الاستديو!.

الثالثة:

ان العرب عموما يتباهون بالتحدث بلغة اجنبية لاسيما الانجليزية، وشاعت في الامارات بشكل خاص (وانتبهت لها مؤخرا) ظاهرة اساءت جدا الى اللغة العربية هي ان من يتحدث بها يعدّ متخلفا وان عليك التحدث بالانجليزية حتى مع العاملين في (المولات) مع انهم عربا!. وتشيع الآن في العراق ظاهرة التدريس باللغة الأنجليزية من رياض الأطفال.. وهذا جيد ومطلوب ان كان الهدف تعلمها بوصفها لغة ثانية، فيما الواضح هو تفضيلها على اللغة العربية.

الرابعة:

ان العراقيين في بلدان المهجر الذين تجاوز عددهم السبعة ملايين، لا يتحدث معظمهم مع اطفالهم بلغتهم العربية حتى لو كانوا على مائدة الطعام!.. مع انهم يتلقون تعليمهم بلغة البلد الذي هم فيه، وان المطلوب من العائلة العراقية في المهجر ان تعمل على تنمية الشعور بالانتماء للوطن من خلال التحدث معهم باللغة العربية، وتذكيرهم بانها ما عادت (مخجلة) بعد ان اصبحت سادس لغة يعترف بها العالم. والتوصية ذاتها مطلوبة من الاسرة العراقية في الداخل.. بضرورة تشجيع اطفالهم على تعلم اللغة العربية الفصيحة.

الخامسة:

ان جيل (الانترنت) من الأطفال والمراهقين والشباب، تولعوا بمفردات اللغات الاجنبية وتولد لديهم نفور من اللغة العربية، وشاعت بينهم مفردات من قبيل (كنسلها، دلّتها، سيفها..)..بعكس جيل السبعينيات الذين تربوا على برامج تلفزيونية تحبب لهم لغتهم مثل (لغتنا الجميلة) و(لغة الحروف.. جعفر السعدي بدور استاذ القواعد ومعه سهى سالم بدور الآنسة قواعد، ومحمد حسين عبد الرحيم الذي يحلم بأنه رأى قوري فترد عليه الآنسة قواعد: ليس في لغتنا قوري بل ابريق الشاي)، وبرنامج المناهل.. الذي يبدأ بأغنية (هذي لغتي.. فوق الشفة كالأغنية...المنـــــاهــل).. وأخرى يتذكرها ابناء ذلك الجيل وما تزال مطبوعة في ذاكرتي كوني كنت مشرفا على برامج الأطفال.

ما يؤلم حقا ان اللغة العربية كانت، في العراق تحديدا، حزينة في يوم الاحتفاء بفرحها. فلقد مرّ يومها باهتا على الصعيدين الرسمي والاعلامي. ذلك لأن معظم من في السلطة بين من يشعر بالنقص في علو شأن العلماء والأدباء، وبين جهلة لا يدركون ان جعل العربية لغة رسمية أمميا الى جانب خمس لغات عالمية فقط، يعدّ اعترافا بحيويتها وتطورها واعترافا بمساهمتها في تطوير الحضارة الانسانية عبر غزير عطاءات مفكريها وعلمائها واطبائها وادبائها، ولا يعنيهم تكريم علماء اللغة العربية في يومها، وليس في حساباتهم ولا يخطر على بالهم ما تفعله دول تحترم مفكريها. فالصين مثلا اعتمدت العشرين من نيسان يوم اللغة الصينية تخليدا لذكرى سانغ جيه مؤسس الأبجدية، وروسيا اعتمدت السادس من حزيران يوم اللغة الروسية تكريما لميلاد شاعرها الكساندر بوشكين، وبريطانيا اعتمدت الثالث والعشرين من نيسان تخليدا لوفاة ويليام شكسبير. والكارثة تكمن في ان ثقافة القبح التي اشاعها الاسلام السياسي قد شوهت كل جميل في الوطن.. حتى وجه لغتنا الجميلة!.

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق