الصورة الذهنية التي تُجَنّسُ البؤس وتنسبه للعراق، تقابلها صورة تصدّر كل ما هو ايجابي الى خارج العراق، حتى وان التقطت صورة داخل بيتك، تنشرها لاصدقائها وتقول لهم متفاخرا، انظروا وكانها في باريس! في بعض الأحيان نرى مقاطع فيديو تنشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي لعمليات سطو...
في مباراة نادي الزوراء والوصل الاماراتي انتشرت صور رائعة لملعب كربلاء الدولي، الكثير من المدونين كتبوا عليها العبارة الاتية: "ما اجمله من ملعب وكأنه ملعب اوربي؟". او انظر كأنه ملعب "سنتياغو برنابيو" واخر كتب انه اجمل من ملعب "الكامب نو"، اتفق الجميع على ان الملعب جميل ويمثل نقطة تحول في تاريخ المنشآت الرياضية العراقية، لكن كثير من المدونين سحبوا الجنسية العراقية من الملعب، ونسبوها لملاعب اوربية لا ينكر احد جمالها.
التشبيه بالملاعب الاوربية امر جيد كونه يقرب الصورة للمشاهد، ويجعل الفهم سهلاً، فعندما تقول ان ملعب كربلاء يشبه نظيره الأوربي فانت تجعله بمنزلة المنشآت الرياضية الدولية، لكن هناك ما هو ابعد من التشبيه، انها عادة عراقية تسحب الجنسية من الابداع الوطني، وتنسبه للغير وهو ما يحدث دائما وكاننا وطن وجد ليكون راعيا رسميا للبؤس، وطاردا لاي شيء يقربنا من الدولة المدنية الحديثة.
فالصورة الذهنية التي تُجَنّسُ البؤس وتنسبه للعراق، تقابلها صورة تصدّر كل ما هو ايجابي الى خارج العراق، حتى وان التقطت صورة داخل بيتك، تنشرها لاصدقائها وتقول لهم متفاخرا، انظروا وكانها في باريس! في بعض الأحيان نرى مقاطع فيديو تنشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي لعمليات سطو مسلح في احدى الدول (اوربية كانت او أمريكية لاتينية)، نقرأ التعليقات فنجد ان الكثير يشبهها بالعراق، فالجنسية قد منحت لهذا البؤس بكل سهولة مثلما سحبت قبلها من الابداع لملعب كربلاء، او سحبت من جمالية أعياد رأس السنة في بغداد.
هذه التقاليد القاسية بحق الوطن لها جذور ولم تاتي من فراغ، أبرزها ضعف الانتاج الوطني بكل اشكاله، فلا صناعة ولا مشاريع عملاقة، او خفيفة، وان وجدت فقد تستخدم للترويج السياسي، لناخذ على سبيل المثال، مدينة بسماية السكينة، التي روجت لها بعض المؤسسات الإعلامية على انها مشروع لحزب معين، فيما قامت وسائل الاعلام الأخرى بعمل معاكس، وما بين التاييد والمعارضة ضاع المنجز السكني لاهل بغداد ودفن بعيدا عن اعين الناس.
هذا الحديث البائس مرده الى وسائل الاعلام العراقية التي لا تميز بين المعارضة للنظام الحاكم، وبين المسؤولية الاجتماعية التي تروج لصورة العراق كدولة منفصلة عن الطبقة السياسية الحاكمة، وسائل الاعلام تلك ترى ان الضرورة تجبرها على تشويه صورة البلاد من اجل تاليب الرأي العام ضد الفساد، فقد كانت المعارضة بشقيها الإسلامي وغير الإسلامي قد عملت بنفس هذه الطريقة الى ان ساعدت الولايات المتحدة على غزو العراق.
اذا عملنا جردا بسيطا للاحداث في شهر اذار نجده مر بحدثين بارزين متناقضن، بالطبع الحدث الأسوأ هو فاجعة عبارة الموصل التي راح ضحياتها العشرات، وهي تمثل سوء الإدارة وغياب الرقابة المشددة على المنشأت السياحية في عموم العراق، لكن يقابل هذه الفاجعة حدث تاريخي قد يقلب مستقبل الرياضة العراقية عموما، وهو المفاوضات لافتتاح فرع لاكاديمية نادي ريال مدريد الاسباني في بغداد.
ريال مدريد يعد احد اهم اندية العالم ان لم يكن افضلها على الاطلاق، فهو الذي سيطر على البطولات الاوربية، وبطولة الدوري الاسباني، ويسمى بنادي القرن، والحديث عن نيته فاتتاح فرع لاكاديميته الرياضية في العراق يحتاج الى تغطية شاملة وتتوقف كل البرامج الأخرى لافساح المجال لهذا الحدث ليرى الجمهور بكل فرح واعتزاز، لكن ما رأيناه هو العكس تماما، اخذته وسائل الاعلام كانه تصريح لمصدر امني مجهول، عن حادث اعتقال إرهابي في منطقة صحراوية، لا تحليلات ولا برامج حوارية، ولا نقاشات حول مستقبل الرياضة العراقية في ظل هذا التحول التاريخي.
لا نريد التغطية تقتصر على الرياضة، انما على وسائل الاعلام المختصة بالسياسة وكل الموضوعات الاجتماعية وغيرها، فنجاح قطاع الرياض في العراق لا يمكن النظر اليه بمعزل عن الحالة العراقية ككل، فهناك الكثير من الشباب الذي يعتبرون الملاعب هي فسحة الحياة، والاكاديميات الرياضية تستقطب اعدادا هائلة من الشباب وتقدم لهم عروضا مالية جيدة، وبعضهم استطاع اللعب لكبريات الفرق الاوربية، وانتعاش الرياضة العراقية قد يمثل دخلا إضافيا للعراق، ويخفف الأعباء المالية المرتكزة على النفط، ويوظف الكثير من جيوش البطالة.
بالطبع لا احد ينكر الفساد ولا يمكن حجب الواقع، الا ان تجريد العراق من كل شيء جميل فيه مغالطة وحكم جائر يهدد صورة وطن ومستقبله، ويعود الأجيال اللاحقة على انه بلدهم لا يستطيع الإنتاج، ولا يمكنه النهوض، فانت كمعارض عليك ان لا تهدم البناء من اصله، لانك ان فعلت ذلك يصعب عليك إعادة ترميمه اذا استوليت على السلطة في يوم ما.
وما فشل التغطية الإعلامية لافتتاح اكاديمية ريال مدريد في العراق الا استمرار لفشل وسائل الاعلام العراقية في التمييز بين السلطة الحاكمة كحالة خاصة، والوطن كحالة عامة للجميع، وتغييب هذا الحدث والاحداث المشابهة له، يساهم بتجريد البلد من إنجازاته، ويسهل عملية تنميط البؤس واعطائه جنسية عراقية، مقابل تجريد المشاريع الناجحة محليا من هويتها واعطائها جنسية غربية او شرقية.
اضف تعليق