لا نحتاج الى التفتيش في كتب الاعلام لنعرف كيف يتم تغطية كارثة اسماك بابل، ولسنا بحاجة الى مراجعة مؤلفات إدارة وسائل الاعلام للازمات، كل ما تحتاجه وسائل الاعلام هو نسيان كل ملفات تقاسم الوزارات والابتعاد قليلا عن اخبار المنطقة الخضراء، والتركيز على كارثة الأسماك عبر...
طوال اليوم والاسبوع والشهر والسنة، تتعامل وسائل الاعلام مع نوعين من الاخبار، "احداث جارية معروفة" و"احداث مفاجئة"، معالجة الأولى تتم بطريقة شبه معروفة للقائم بالاتصال وللجمهور أيضا، فهي تنطلق من سياسية إعلامية محددة تعد تقريرا في هذه المدينة وخبرا عن الأخرى مع تنويعها باخبار عن الحكومة والأنشطة العامة، اما في الثانية اي "الاحداث المفاجئة" فغالبا ما تصيب هذه الاحداث الجمهور بحالة من الخوف لقلة المعلومات عنها وتاثيرها المباشر على عموم افراد المجتمع، لذلك تقوم وسائل الاعلام بتغطية متواصلة تركز على الحدث نفسه تحيط بكل صغيرة او كبيرة، فيما تقل او حتى تنعدم تغطية الاخبار الروتينية القادمة من المناطق الأخرى خارج منطقة الحدث.
هكذا تعمل وسائل الاعلام المحترفة او هكذا تتم إدارة العمل الإعلامي لاحداث التاثير والتحكم في الحراك الاجتماعي والسياسي، ففي بعض الأحيان تصاب بحالة من الركود نتيجة غياب الاحداث المفاجئة، او الازمات الكبيرة، ويتعكر مزاج الجمهور الذي يقلل من أهمية وسائل الاعلام في تلك الفترات، لكن قيمة وسيلة الاعلام تتضح عندما تندلع الازمات فهي قد تتحكم في مسار الازمة وتؤثر فيها لتدفع الى ترجيح طرف على الاخر.
شهر تشرين الأول الماضي كان تأريخيا بالنسبة لوسائل الاعلام، فقد سجل كيف استطاعت إدارة ازمة على مستوى العالم، وهي قضية مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في قنضيلة بلاده في تركيا يوم الثاني من نفس الشهر.
سكب الاعلام التركي والقطري كل ما يملك من معلومات في قدر واحد، عنوانه "خاشقجي" لمدة شهر واحد كان الخبر الأول، تتصفح المواقع الالكترونية فتجد جميع اخبار الصفحة الرئيسية (السلايد) تتحدث عن خاشقجي، وفي تفاصيل الاخبار تتحدث عن خاشقجي، بالنهاية حدث الأثر وتحقق هدف التغطية المكثفة، قلبت مسار الاحداث برمته، فمن انكار تام من قبل السعودية في البداية بالتورط في مقتل الصحفي، الى تلميح بإمكانية وقوع جريمة الى الاعتراف الكلي في الجريمة، والقي 18 شخصا بالسجن.
لا تزال ترددات ازمة خاشقجي متواصلة، وان خفت وتيرتها، الا انها اثبتت ان أي تغطية إعلامية فاعلة في زمن الفيضان المعلوماتي يحتاج الى فيضان معلوماتي هائل، وبدون هذا النوع من التغطيات لا يمكن لاي قضية ان يكون لها صدى يؤثر على الحكومات التي بدأت تدخل الى عالم مواقع التواصل الاجتماعي وتدغدغ مشاعر الجمهور وتتواصل معهم مباشرة لشن حرب مضادة على وسائل الاعلام.
تغطية ازمة مقتل خاشقجي يجب ان تكون دليلا إعلاميا لادارة الازمات، وفي العراق لدينا متسع منها، يوم الأربعاء الماضي بدأت فصول لكارثة اقتصادية وبيئية كبرى، توقعنا ان نعطي درسا في الاعلام المحترف، بعد النقد القاسي الموجه لتغطية قضية خاشقجي، والاتهامات التي وجهت لكل من تحدث فيها بحجة انه يتناسى قضايا وطنه، وها هو الوطن يتعرض للكارثة، نفوق أطنان من الأسماك في نهر الفرات بمحافظة بابل، المئات من أصحاب اقفاص تربية الأسماك لم يصدقوا ما حدث لحد الان فبعضهم صرف مليارات الدنانير بانتظار موسم جني الأرباح، ونهر الفرات تحول الى مقبرة متنقلة لحمل جثث الأسماك المتحللة، ونفس المياه الملوثة يتم ضخها للبيوت لتستخدم في الاستخدام المنزلي (لغسل الاواني والاستحمام) وبالنسبة للكثير من الفئات المحرومة فهي مياه للشرب ايضا.
انها كارثة بالمعنى الحرفي للكلمة، وحدث مفاجئ يصرخ باعلى صوته، يا وسائل الاعلام اغيثي من لا غياث له، الفساد ينخر البلد، اقتصاد البلد برمته مستهدف، والمياه مهددة بتلوث من بغداد الى البصرة، والاوبئة تترصد لاجتياح ما تبقى من أناس اصحاء، ووزارات تصدر بيانات متناقضة، فعلى سبيل المثال قالت وزارة الزراعة انها حققت الاكتفاء الذاتي من تربية الأسماك بعد استخدامها الطرق الحديثة والرقابة على مربيها، كان ذلك مطلع شهر تشرين الأول الماضي، وبعد الكارثة تنصلت عن كل شيء واتهمت أصحاب الأسماك بعدم الالتزام بالضوابط والتعليمات الصادرة منها.
لا نحتاج الى التفتيش في كتب الاعلام لنعرف كيف يتم تغطية كارثة اسماك بابل، ولسنا بحاجة الى مراجعة مؤلفات إدارة وسائل الاعلام للازمات، كل ما تحتاجه وسائل الاعلام هو نسيان كل ملفات تقاسم الوزارات والابتعاد قليلا عن اخبار المنطقة الخضراء، والتركيز على كارثة الأسماك عبر فيضان معلوماتي هائل يضغط على الجهات المختصة، سيحدث الأثر، وستتحرك الحكومة، وستجبر على كشف ولو جزء من ملابسات الحادث أولاً، كما ستتخذ اجراءات للحد من الاثار البيئية الناتجة عن بقاء جثث الأسماك فوق مياه نهر الفرات.
اضف تعليق