أفضل صحفي هذه الأيام هو المواطن النشط عبر مواقع التواصل الاجتماعي والذي يفتقد للعمل الاحترافي فيقوم بما يمليه عليه ضميره مع الكثير من الانفعال، فيما تقوم الظروف الجوية بالتنقيب عن الأخطاء الحكومية وفضحها صيفا وشتاء، ففي موسم الامطار تفيض المناطق السكنية ليتحرك الراي العام، وفي الصيف تنهار شبكة الكهرباء لتنطلق التظاهرات الاحتجاجية، اليست وظيفة الاعلام هي الكشف عن الاخطاء؟ وهذا ما يقوم به المناخ بعد ان خرج الاعلام العراقي عن الخدمة...
لا يزال الغضب الشعبي في المحافظات الجنوبية العراقية فوق مستوى الغليان، اذ حافظت التظاهرات على زخمها لأكثر من أسبوعين وهي في ازدياد من حيث عدد المشاركين او نطاقها الجغرافي، فقد توسعت من البصرة والناصرية حتى وصلت الى بغداد على بعد عشرات الأمتار من مدينة المجمعات الحكومية في المنطقة الخضراء المحصنة، كما حافظت التظاهرات على مستوى كبير من السلمية رغم العنف الذي استخدمته قوات الامن.
عدد كبير من المواطنين خرج معبرا عن استيائه، من الوضع المأساوي الذي يعيشه نتيجة ثلاثة ملفات اساسية، أولها الكهرباء التي لا يمكن الشعور بها الا خلال ساعات لا تزيد عن 12 ساعة، اذ لا يمكن اعتبار الخط الوطني الذي يأتي متقطعا كل ساعتين او ثلاث خلال اشد أيام السنة حرارة_لا يمكن_اعتباره كهرباء تستحق الذكر في بلد يعيش على خزان من النفط والثروات الطبيعية الهائلة، وللمفارقة ان المحافظات الجنوبية التي تظاهرت مطالبة بالكهرباء تعاني من امراض سرطانية وجلدية نتيجة دخان النفط المحترق على مقربة من المناطق السكنية.
الملف الثاني هو الخدمات التي تنكشف خلال هطول الامطار حيث تغرق الكثير من المناطق السكانية لمدة أيام او أسابيع لغياب البنية التحتية السليمة، كما تعاني المدن الجنوبية من غياب المياه الصالحة للشرب وارتفاع نسبة الملوحة في الأنهر التي بدأت تجف بشكل مخيف وهذا ما تكشفه درجات الحرارة العالية أيضا وليس الصحافة؟
والملف الثالث هو ازدياد اعداد الجيوش الكبيرة من الشباب العاطل عن العمل، وهي نتيجة طبيعية لغياب المشاريع الحكومية في الكهرباء والماء والبنى التحتية، او المشاريع الاستثمارية الكبيرة، والتي من شأنها استقطاب اعداد الخريجين سنويا.
المتهم الأول بالنسبة للمتظاهرين هو الحكومة لأنها لم تفعل جزءا بسيطا مما تقوله في خطاباتها طوال عقد ونصف من الزمن، لذلك فهي المستهدف باعتبارها الجهة التنفيذية الأولى في البلد المسؤولة عن ملف الكهرباء والخدمات وتوفير فرص العمل للعاطلين عن العمل، وهو الراي الذي يتفق عليه غالبية الشعب العراقي بمختلف طبقاته، وحتى الصحافة العربية والدولية لها نفس الرأي.
لكن هناك من يتهم المؤسسات الوسيطة بالتخلي عن دورها لمصلحة الحكومات المتعاقبة من اجل الحصول على بعض المكاسب المالية والركون الى راحة الرواتب العالية والامتيازات التي توازي امتيازات الأحزاب والمسؤولين الكبار، وهذه المؤسسات هي الجهات النقابية والهيئات المستقلة التي يجب ان تأخذ دور الرقيب وليس المدافع عن الحكومة طوال السنوات الماضية، اذ غابت نقابة المحامين عن تفسير النصوص القانونية او تقديم شكاوى على المسؤولين الذي يقررون امتيازات كبيرة لأنفسهم، كما غاب دور الهيئات الاقتصادية التي يفترض ان تحاول تفسير مخاطر السياسات الاقتصادية الترقيعية للحكومة، وتبقى وسائل الاعلام والادعاء العام يتحملون الوزر الأكبر في هذا المأزق الكبير الذي وصل اليه العراق.
بالنسبة لوسائل الاعلام، يمكن اثارة استفهام كبير عن مدى قيامها بدورها المنشود؟ وهل هي مارست دورها كسلطة رابعة رقيبة على كل السلطات الأخرى في البلد؟ وهل قامت بوظيفة كشف الأخطاء ام انها استخذت دور المتستر على ما يجري من كوارث أوصلت الناس الى حافة الانفجار؟
بجردة حساب خلال أسبوعين من التظاهرات، كان دور الاعلام العراقي غائب تماما، وكشف عن ذوبان هذه السلطة الرابعة في قاع السلطات الأخرى، واخذت موقع المدافع عن السياسات الحكومية وأعضاء البرلمان الجشعين.
من شدة تعلق الاعلام العراقي بالسلطة بمختلف أركانها، أصبح دوره غير موجود اطلاقا، ولو كان موجودا لسمعنا تفاعلا حكوميا مع ما تنشره هذه المؤسسات الإعلامية، وحتى حينما احست الدولة بخطر التظاهرات لم تتهم وسائل الاعلام ولم تقول ان الفضائية الفلانية كانت غير منصفة في تغطيتها بل ذهبت الى مواقع التواصل الاجتماعي لانها تمثل السلطة الرابعة الحقيقية هذا اليوم اما الفضائيات والاذاعات والصحف فرغم هذا الانحياز الشديد في تغطيتها تعتبرها الحكومة تقوم بعمل رائع! فهي منحازة للحكومة.
غياب الاعلام العراقي عن الساحة العراقية طوال السنوات الماضية وحتى خلال تغطية التظاهرات الأخيرة يرجع في الأصل الى سبب جوهري، وهو سلبه من حريته، فالصحفي العراقي اليوم يعمل في مؤسسات حزبية لا تعطيه أي نسبة من الحرية الا فيما يتعلق بمصالح الحزب الذي يمولها، فيما تقوم الحكومة بعمل كل الحجج القانونية لقمع الحريات الإعلامية فضلا عن عدم توفير الضمانات في الحصول على المعلومات من مختلف الدوائر الحكومية ما دفع الصحفيين الى ترك الميدان والانكفاء خلف شاشات حواسيبهم والتقاط المعلومات الشحيحة من وسائل الاعلام العربية والغربية التي يقدم لها المسؤول العراقي كل التسهيلات اللازمة.
في ظل هذه البيئة المعقدة كان الثقل الأكبر يقع على عاتق نقابة الصحفيين العراقيين، والتي يفترض ان تقوم بالدفاع عن الحريات الصحفية لما لهذه الممارسة من أهمية في خدمة الوطن عبر كشف الأخطاء التي تقوم بها بعض الإدارات الصغيرة وعكس صورة الواقع الاجتماعي والاقتصادي امام المسؤول لتسهم في عملية اتخاذ القرارات الصائبة، الا ان النقابة رأت من الضروري الصعود في مركب السلطات الرسمية وكأن حب الوطن لا يأتي الا حينما تصفق للحاكم.
رضيت نقابة الصحفيين ببعض قطع الأراضي (وهو من حق الصحفي)، مع مرتبات دائمة فيها معاشات تقاعدية، فابتعلت الطعم وجعلت الساحة الإعلامية العراقية فريسة لكل من يريد نشر الشائعات، فاصبح البحث عن معلومة صحيحة بالعراق امرا غاية في الصعوبة، وهنا انتشرت حالة من الشك والارتياب من كل شيء يتحرك، فالمواطن لا يصدق قرارات الحكومة، والحكومة لا ترى في نقد المواطن الا خدمة لمؤامرة خارجية تستهدف اسقاط العملية السياسية.
أفضل صحفي هذه الأيام هو المواطن النشط عبر مواقع التواصل الاجتماعي والذي يفتقد للعمل الاحترافي فيقوم بما يمليه عليه ضميره مع الكثير من الانفعال، فيما تقوم الظروف الجوية بالتنقيب عن الأخطاء الحكومية وفضحها صيفا وشتاء، ففي موسم الامطار تفيض المناطق السكنية ليتحرك الراي العام، وفي الصيف تنهار شبكة الكهرباء لتنطلق التظاهرات الاحتجاجية، اليست وظيفة الاعلام هي الكشف عن الاخطاء؟ وهذا ما يقوم به المناخ بعد ان خرج الاعلام العراقي عن الخدمة.
اضف تعليق