الأدب ليس ترفا أيها السادة. الأدب هو الفاعل الكبير في بناء الإنسان المتحضر كان هكذا، ولابد له أن يظل كذلك دائما وأبدا، فمن دون وجوده شاخصا و(قائدا) لا يمكن تخيل وجود حضارة إنسانية (من بعدُ ومن قبلُ) تحظى بأدنى درجات القبول...
صحيح أن قيمة الأدب تشهد تراجعيا عالميا منذ أمد بعيد. فلم تعد الإنسانية بذلك الشغف، ورهافة الحسّ اللذين جعلا منها تاريخيا كائنا متحدّا حريّةً وجمالًا، ولا أدري إن كانت رواية على غرار قصة العم توم لهيريت بيتشر ستو تستطيع فعل ولو خمسين بالمئة من التأثير الذي أحدثتها تلك الرواية، وجعلت من الناشرين الغربيين يطبعونها طوال عقود أكثر من طباعتهم للكتاب المقدس!
وكذلك لا أعرف المدى الذي يمكن أن يحدثه شاعر مفلق من طراز الجواهري الكبير -على فرض وجوده الآن بيننا - في ضمير العراقيين والعرب...
بالمناسبة كنتُ مدمنًا على سماع الإذاعات أسوة بكثيرين من أبناء جيلي، وكنتُ مولعا بالإصغاء، بل الاستماع، بل الإنصات إلى إذاعة (البي بي سي العربية). وما زلت أذكر حتى الآن مقابلة أجراها أحد مذيعيها الكبار آنذاك مع عملاق الشعر اليمني الراحل عبد الله البردوني. إذا لم تخني الذاكرة كانت مذيعة، وأغلب الظن أنها كانت نجلاء العمري!
المهم أن الشاعر أخذ بالاسترسال في الكلام عن تأثير الشعر في الوجدان العربي، ومن جملة ما قاله مضمونا ، واسمحوا لي أن أضعه بين قوسين: (( كنا ونحن في صنعاء إذا تناهى لأسماعنا أن الجواهري قال قصيدة في بغداد توقعنا أن تعقبها مظاهرة سياسية في شارع الرشيد))!
لم يعد للرواية أو الشعر سحرهما السابق لابد من الإقرار بهذه الحقيقة المرّة، ولكن هل من حقنا أن نتسائل لماذا؟
إنني من المؤمنين بمقولة ((لقد سقطت نظرية السبب الواحد))، وعليه فهناك أكثر من سبب لفقدان الأدب بصورة عامة قدرته على إحداث أثر يُذكر في وجدان عموم الناس، وهو الأمر الذي ينطبق على الشعر الذي هو ((ديوان العرب))، وقد يكون مردّ ذلك (الفقدان) في أحد الأسباب هنا إلى استبدال قصيدة النثر بقصيدة العمود، ونعت من ينتهج نهج العمود بالمتخلف والرجعي، وما إلى ذلك بخلاف شعراء النثر الذين يُنظر لهم غالبا لاسيما في نطاق طيف واسع من النقاد اليساريين يُنظر لهم بوصفهم أئمة إذا لم نقل أنصاف آلهة!
وحتى في داخل الجزء الذي ما يزال يحتفي بالقصيدة العمودية المعاصرة فإن ثمة ملاحظة عامة رصدها مخضرمون من المشتغلين في سلك النقد الأدبي العربي، وتتمثل هذه الملاحظة في غياب أو تغييب القصيدة العمودية السياسة من مشاهد الحفاوة والتكريم. يقول الدكتور إسامة فوزي في هذا الصدد ما مضمونه أن جوائز الشعر الخليجية هي رشاوى لشراء الشعراء، واغتيال للقصيدة السياسية الحرّة...
إن من فوائد الشعر الجمة فضلا عن (تثوير) المظلومين المضطهدين ما له علاقة بتهذيب مشاعر عامة الناس وردّهم إلى فطرتهم السوية، وإلى أخلاقهم الاجتماعية النبيلة، وكذا منعهم من أن يُقدموا على ارتكاب أفعال تتنافى مع الروح الإنسانية كما هو المتعارف عليه في فهم هذه الروح سواء على المستوى العالمي أو المحلي.
لقد قادتني الصدفة الجميلة قبل سنين عدة إلى لقاء باحث عربي مغاربي، ومما لا يزال عالقا في ذاكرتي من ذلك اللقاء ما يتعلق بدراسة خاصة أجريت في بلد ذلك الباحث وكان من نتائجها (الطريفة) أن عددا لا يستهان به من الإرهابيين الذين كانوا يفجرون أنفسهم وسط الأبرياء في بغداد ومحافظات العراق أثناء الحرب الأهلية (2005-2006) كانوا يحملون جنسية بلاده، وفيهم كثيرون من حملة الشهادات الجامعية، ولكن- وهذه المفارقة- لم يكن بينهم ولو واحدا من حملة تخصص الآداب!
إن الشعوب في البلدان المتحضرة تولي العناية نفسها التي توليها للعلم والمعرفة توليها كذلك للأدب والفنون. وهي الرسالة التي يجب أن تصغي وتستمع وتنصت لمضامينها الطبقة السياسية الحاكمة لدينا، هذا الطبقة التي تعرف (تقريبا) كل شيء عن كل شيء إلا السياسة التي تجهلها تماما!
إن المقصود بالسياسة في هذا المقطع ما يتجاوز مفهوم السلطة. إنها الإدارة الحكيمة التي تضع كل شيء في نصابه، وتحدد أهمية الأشياء بناء على مدى تأثيرها الإيجابي العام، وبقدر ما يتعلق الأمر بالواقع العراقي يجب أن ينتبه أهل الحلّ والعقد إلى الموقع الذي ينبغي أن يتسنمه الأدب نثرا وشعرا ضمن سلّم الأولويات، وهو الأمر الذي يقتضي من هؤلاء تخطيطا مدروسا وتنفيذا عاجلا فهل هم قادرون...
الأدب ليس ترفا أيها السادة. الأدب هو الفاعل الكبير في بناء الإنسان المتحضر كان هكذا، ولابد له أن يظل كذلك دائما وأبدا، فمن دون وجوده شاخصا و(قائدا) لا يمكن تخيل وجود حضارة إنسانية (من بعدُ ومن قبلُ) تحظى بأدنى درجات القبول...
الادب العربي
روايات وشعر
اضف تعليق