ان مازق التاريخ الذي وقع فيه بعض الروائيين. ويبقى هذا المثال واحدا من امثلة عدة، تتصل بتاريخ العراق القديم والحديث، الذي وقع تحت تاثير السياسة والنزعات العقائدية والجهوية، سواء من خلال الادب والفن او غيرهما من اجناس الكتابة والتدوين، وقد بات هذا واضحا من خلال اكثر من عمل تناول التاريخ من زوايا نظر ثقافية وسياسية متناشزة، كان الضحية فيها المتلقي والتاريخ معا!
في الجلسة التي اقيمت له على هامش معرض بغداد الدولي للكتاب في دورته لهذا العام 2018، تحدث الروائي الجزائري واسيني الاعرج، عن تجربته، واثناء المداخلات، اثيرت موضوعة التاريخ في الرواية، فذكر على سبيل المقاربة، واقعة مهمة تستحق التوقف عندها. اذ قال ان هناك رواية رسمية تتحدث عن احد رموز الثورة الجزائرية، البارزين، ضد الاستعمار الفرنسي، الذي قيل انه استشهد في احدى المعارك اثناء الثورة، وهكذا دخل التاريخ الرسمي للدولة وفي ضمير الشعب، لكن الحقيقة، وكما ينقل الاعرج عن الرئيس الاسبق احمد بن بلا، ان قيادة الثورة قامت بتصفيته، لانه طالب بفصل القيادة السياسية للثورة عن القيادة العسكرية! أي انه لم يستشهد على ايدي الفرنسيين بل على ايدي رفاقه، الذين تخلصوا منه او من طروحاته، ومن ثم سوقوا حكاية المعركة الكبيرة التي خاضها واستشهد فيها!
ويذهب الاعرج الى ان الرواية، عليها ان تنقل الحقيقة، بعيدا عن الخطاب او التاريخ الرسمي، لانها تعيد قراءة التاريخ وتعيد كتابته ايضا، او هكذا اراد القول، وهو هنا يهدف الى تنقية التاريخ من خلال قراءته بعين صافية ولو نسبيا، لكن المشكلة تكمن في العين غير الصافية او التي يراد لها ذلك، لتعيد الكتابة فتقلب الحقائق وتشوه التاريخ بقصد مسبق .. لقد كتبت عن هذه الاشكالية قبل سنوات، ونوهت الى بعض الاعمال الادبية التي تناولت التاريخ تحت ضغط مواقف سياسية، او لاستهداف جهة معينة، متجاوزة الحقيقة الى خلق واقع متخيل، تكون هذه الشخصية او تلك الجهة، محوره، حتى اذا ما وقع العمل الروائي بايدي القراء، لاسيما ممن لايعرفون شيئا عن الحدث المروي، عدّوا ما قرأوه هو التاريخ الحقيقي الذي يجب اعتماده، او الاقرب الى الحقيقة، وهنا يدخل الادب متاهة اللعبة السياسية التي اريد له ان يكون متحررا منها.
لقد جاء عنوان المادة التي كتبتها قبل سنوات .. (الرواية .. الوثيقة الشعبية وسط اعاصير السياسة والايديولوجيات!) وذكرت فيها ان الرواية، دخلت لعبة السياسة، بصفتها واحدة من ادوات الصراع الثقافي، التي بلغت ذروتها اثناء الحرب الباردة بين المعسكرين الراسمالي والاشتراكي، في محاولة كل طرف ادانة الطرف الاخر، والتاثير في الراي العام، الى جانب الفن والميديا طبعا، وقد تبنت مؤسسات ثقافية كبيرة اعمالا ادبية وروجت لها، ليس لقيمتها الفنية الجمالية، وان كانت هذه موجودة، بل لثيمتها المختلفة، ومثال ذلك رواية (دكتور زيفاجو) للروائي الروسي الكبير باسترناك، التي حصلت المخابرات الاميركية على مخطوطتها بطريقة مثيرة، وطبعتها وروجت لها، قبل منح كاتبها جائزة نوبل، كونها انطوت على ثيمة مناوئة لثورة اكتوبر الاشتراكية. والامر كذلك مع اعمال ادبية ومسرحية تتبادل الادانة للطرفين، وفي كل الاحوال، لم يكن باسترناك يقصد بالضرورة ادانة ثورة اكتوبر، لكن الطرف الاخر اراد لها ذلك، مثلما اراد لاعمال اخرى، او وقف خلف ظهورها، من خلال تكليف بعض الكتاب او التلويح لهم بالجوائز التي تمسك السياسة بكواليسها وتوجهها.
بعد العام 2003 كتبت اعمال ادبية عراقية كثيرة، كانت القصدية السياسية فيها واضحة، سواء تحت ضغط الموجه العقائدي او غيره، وهذا امر طبيعي وشائع، لكن الابرز فيها، تلك التي تناولت مسالة الاقليات في العراق، وتحديدا اليهودية، اذ صدرت اكثر من رواية تناولت قصة التهجير الذي تعرض له اليهود مطلع خمسينيات القرن الماضي .. المشكلة في هذه الاعمال انها اعتمدت على روايات مختلقة، جانبت الحقيقة في هذه المسالة الحساسة، ولم يتحرّ الروائيون العراقيون، ممن كتبوا عن تلك الحقبة حقيقة ماجرى، ليعرضوا وجهة نظر دقيقة ، وانما انجروا وراء رواية سياسية زائفة اختزلت هذا الحدث المثير بادانة مسبقة للشعب العراقي الذي صوّر بانه قام بنهب اموال اليهود وممتلكاتهم ومن ثم طردهم وتهجيرهم ظلما! متناسين ان ماحصل كان مخطط له في الخارج، وجاء في سياق لعبة اكبر، وقفت وراءها منظمة الهجرة اليهودية، بهدف استقدام اكبر عدد من اليهود في البلدان العربية وغيرها للدولة الجديدة (اسرائيل) التي قامت قبل بضعة اعوام من تاريخ التهجير، وتعاني من نقص سكاني، بينما في المقابل حصل تهجير من نوع آخر، اذ افرغت مناطق عربية في فلسطين من سكانها، استعدادا لاستقبال الوافدين الجدد، او الذين سيفدون، وفقا للمخطط الذي تم تنفيذه بدقة وذكاء .. ولكي ياتي العمل الادبي منسجما مع الحقيقة ومنصفا، ولو بشكل نسبي، كان من المفترض ان يرصد هذا الحدث المفصلي بعين صافية، وتعاد قراءته بعيدا عن الروايات الرسمية او المغرضة، لينتصر الروائي للبعد الانساني المهدور في هذه اللعبة، والتي كان ضحيتها اناس ابرياء من العرب واليهود معا.
فهل وقع هؤلاء في مطب التاريخ؟ نستطيع القول نعم، لانهم لم يقرأوا الحدث بعلمية وشمولية، وانما اجتزأوا منه ما اريد لهم ان يكتبوه، وهو ادانة الشعب العراقي، بزعم كشف الحقيقة او قولها بقلم الاديب المؤرخ، الذي يكتب بلسان الناس وليس باللسان الرسمي لسلطة ما! اي ان التضليل اصبح مركبا ومعقدا، ولااقصد هنا اتهام احد او ادانته، لان هذا ليس من واجباتي، بل اردت ان تكون لي مداخلة يستوعبها الحوار حين يكون محوره قضية راي عام ..
استطيع القول، ان هذا هو مازق التاريخ الذي وقع فيه بعض الروائيين. ويبقى هذا المثال واحدا من امثلة عدة، تتصل بتاريخ العراق القديم والحديث، الذي وقع تحت تاثير السياسة والنزعات العقائدية والجهوية، سواء من خلال الادب والفن او غيرهما من اجناس الكتابة والتدوين، وقد بات هذا واضحا من خلال اكثر من عمل تناول التاريخ من زوايا نظر ثقافية وسياسية متناشزة، كان الضحية فيها المتلقي والتاريخ معا!
اضف تعليق