q

محمد دنكر

عشرات الوسائل، مئات المنصّات وآلاف من التطبيقات المعنية بالتواصل على مختلف وسائل التواصل الإجتماعي. أينما كنا، فنحن مرتبطون بطريقة او اخرى بالآخرين، قريبين كانوا ام بعيدين، برسالة نصية، بصورة تلقائية التدمير، بمجموعة رسائل صوتية، عبر ساعة ذكية، او شاشة جهاز لوحي، عبر حاسوب فائق التطوّر، او هاتف يحتوي على معظم تفاصيل حياتنا، نحن مرتبطون. ماذا بعد؟ هل نحن حقاً مرتبطون ام مقيّدون؟ هل نحن بحاجة لكل هذا التواصل؟ وهل هو مفيد، ام مبالغ فيه، او مَرضي ربما؟

يقول الطبيب النفسي الأمريكي "سكوت بِك"، صاحب كتاب "الطريق الأقلّ سفراً": "لا يمكنك ابداً أن تُنصت لشخص ما بحق، بينما تقوم بعمل شيء آخر في نفس الوقت".

عشرات التطبيقات للردّ على الرسائل، استقبال الصور، وارسال التعليقات. التنقلّ بينها وحده يشتّت تفكيرنا، هذا إن كنّا فقط منشغلين بهواتفنا الذكية. نقود السيارة، ندردش، نأخذ الصور لرفعها على تطبيق "سناب تشات"، ونتحدّث على الهاتف في آن واحد. أمّا في العمل، فعينٌ على الحاسوب تنتظر بريداً الكترونياً، وأخرى على الهاتف الذكي للردّ على مجموعة من الرسائل، التغريدات، التعليقات، التفضيلات وغيرها. هواتفنا أساسية لإتمام الواجبات اليومية، بسرعتها وعمليتها وسهولتها، تفعّل الإنتاجية وتساهم في تنفيذ المهام من اي مكان متّصل بالإنترنت. هواتفنا أساسية، لا خلاف على ذلك. اذاً أين المشكلة؟.

إذا أردنا حساب الوقت الذي يُنفقه شخص عادي أثناء إتمامه لأعماله اليومية، كإرسال الرسائل الإلكترونية، التواصل مع المدير والزملاء في العمل اثناء الدوام وقراءة المواد المتّصلة بمجال العمل وطبيعته واهتمام الشخص، نجد انّ استخدام الهاتف الذكي لا يجب انّ يتعدى الساعتين يومياً. والحقيقة هي انّ الشخص العادي يقضي ساعاتٍ في التنقّل بين التطبيقات والمواقع. يراقب التعليقات على مواقع مثل "فيسبوك" مثلاً، الأمر الذي يؤثر سلباً على حياته، الجسدية والعقلية. فالتصفّح المستمر والتنقّل الدائم بين تعليق، تطبيق، صورة ومقطع مصوّر، يؤدّي لخلل في التركيز، كما انّه يؤثّر سلباً على عملية النوم، الأمر الذي يخلق عدّة مشاكل أبرزها الأرق والهوس الإفتراضي. هذا الهَوَسْ متنوّع جداً، ومنه: هَوَسْ النشر، هَوَسْ البقاء على إطلاع، هَوَسْ الشهرة والظهور وغيرها.

هَوَسْ النشر

وهو الحاجة الملحّة لرفع اي معلومة خاصة عن الشخص، مهما كانت تافهة او مكرّرة. هنا يفقد المستخدم القدرة على التفريق بين الواقع والعالم الإفتراضي الذي ينشر فيه كل ساعة معلومة جديدة عن ذاته عبر صورة، تغريدة او مقطع مصوّر. فيسعى جاهداً لإختلاق المواقف لنشرها، حتى ان كانت لا تشبهه، او ربما لا تعنيه، المهم ان يحصل على تفاعل من الآخرين وان يحصد الإهتمام الزائف. بعضهم يبالغ في مواقفه، يتطرّف بتعليقاته، غير آبه بهويته، كلّ ما يعنيه مزيد من الإهتمام والملاحظة المتمثّلة بمزيد من التفضيلات، الردود وعدد المتابعين.

هَوَسْ البقاء على إطلاع

وهو الرغبة الملحّة في معرفة كل الأخبار العاجلة والمتفرقات وقراءة كل ما يحلّله الآخرون عن اي خبر. ولكن قد يصل هذا الأمر الى مراقبة كل ما ينشره شخص آخر او مجموعة، كل ما يقوم بتفضيله، صوره وتعليقاته مع الآخرين. هذا الهوس حالة مرضية تتمثّل بالتعلّق بجديد الآخرين، والتطفّل على حياتهم عبر الدخول في أدقّ تفاصيلها.

هَوَسْ الشهرة والظهور

وهو الأكثر شيوعاً في الفترة الأخيرة، خاصة بعد ان اكتسب عدد كبير من الأشخاص العاديين شهرة واسعة من خلال مواقع التواصل الإجتماعي. لذلك، حذا مئات الآلاف حذوهم عبر التصرّف كمشاهير في تعليقاتهم، طريقة صورهم وتعاطيهم مع المتابعين علی مختلف مواقع التواصل. الحالة لا تتوقّف هنا، فقد تسوء لتصل بالكثير منهم الى حدّ شراء المتابعين، وحتى التعليقات. إنّ تبعات هذا الهَوَسْ غالباً ما تُدخل صاحبها في حالات من الإحباط والتعاسة بسبب انفصاله التام عن الواقع، وابتعاده عن فكرة انّه شخص عادي لا يمتّ لتلك الشهرة الزائفة بصلة. وقد تتفاقم لحد انعزاله عن الواقع وعدم خروجه من منزله لأنّه الملاذ الوحيد لقصّة الشهرة الزائفة في خياله.

العقل البشري بطبيعته يميل للتفكير بكل بعيد قبل القريب، ويسرح في فضاء واسع من الأفكار والتخيّلات. وبالتالي، فإنّ إدمان التواصل على التطبيقات وصولاً لمرحلة الهَوَسْ يزيد التفكير العشوائي المبني على التخيّلات، كون تلك الأفكار، بمعظمها إفتراضية غير ملموسة، بالإضافة لتعريض صاحبها للخطر على حياته مباشرةً فيما اذا كان يقود مثلاً اثناء اتصّاله.

من هنا، فإنّ الإتصال المفرط مضرٌ بالصحة، والهوس في التواصل ما هو الا طريقٌ نحو الوحدة. والوحدة أشدّ خطراً على الفرد من الإنعزال عن الواقع.

اضف تعليق