q

علي حسون

 

مرت أربعة أيام على دخول القوات التركية مدينة جرابلس، بغطاء من قوات التحالف الأمريكي، وبمواكبة من مئات المسلحين المحسوبين على أنقرة بغية تحقيق هدفين رئيسيين معلَنين، وهما قطع الطريق أمام الأكراد ووقف اندفاعتهم الكبيرة باتجاه غرب الفرات، منعاً لإقامة كيان كردي على طول الحدود الجنوبية لتركيا. وطرد "داعش" من آخر معاقله على الحدود التركية.

سرعان ما حقق الأتراك هدفهم الثاني الاستعراضي عبر إعطاء الأوامر لـ"داعش" بالانسحاب إلى الباب والرقة، ليتفرغوا لمعركتهم الرئيسة كما يبدو وهي طرد الأكراد إلى الضفة الشرقية للفرات، حيث يواصل الجيش التركي تعزيز قواته بالقرب من مدينة جرابلس، وحشد لهذه الغاية 50 دبابة و350 عنصراً من قواته، إضافة إلى مئات المقاتلين من الفصائل "العثمانية" (حركة نور الدين زنكي، والسلطان مراد الرابع، وصقور الجبل، وفيلق الشام).

والأحد 28- آب/أغسطس 2016، أخذت الأمور تنحو منحى التصعيد، حيث أدى القصف التركي على قريتين جنوب جرابلس إلى وقوع قتلى وجرحى في صفوف المدنيين.

وذكرت مصادر لـRT أن عشرات القتلى والجرحى سقطوا نتيجة استهداف الطيران التركي لقريتي بئر كوسا والريصات جنوب جرابلس بـ13 كم.

واستمرت الاشتباكات في الريف الجنوبي لمدينة جرابلس بريف حلب الشمالي الشرقي، حتى ساعات الفجر الأولى بين مقاتلي مجلسي جرابلس ومنبج العسكريين التابعين لقوات سوريا الديمقراطية من جهة، والقوات التركية ومقاتلي الفصائل المدعومة منها من جهة أخرى.

وتركزت الاشتباكات أمس في قرية العمارنة الواقعة نحو 8 كلم إلى الجنوب من مدينة جرابلس، وقتل على إثرها مقاتلون من مجلس جرابلس العسكري وأصيب آخرون، فيما تمكن مقاتلو المجلسين العسكريين، من تدمير دبابات وآليات تركية، وقتل جندي تركي، وإصابة ثلاثة آخرين.

من الواضح أن الصدام العسكري التركي - الكردي انتقل الآن إلى الأراضي السورية، مدعوماً هذه المرة بقوات من الفصائل المسلحة، ورضى أمريكي نقله جون بايدن إلى أنقرة في زيارته الأخيرة .

هذا التدخل العسكري التركي المباشر، الذي تأخر بنظر أنقرة خمس سنوات، كان من المفترض أن يكون ضد الجيش السوري كما طالبت تركيا مراراً طيلة السنوات الماضية، وكان يجب أن يكون لحماية حلفائها في حلب على سبيل المثال، ولكنه جاء لمواجهة الأكراد، وإجهاض أي إمكانية لإقامة دولة لهم.

متابعون لمجريات الأحداث يتحدثون عن سعي تركي لإقامة منطقة عازلة، ولكن بموافقة السلطات السورية والروسية معاً، ومباركة ايرانية، لإعادة ترحيل مهاجرين سوريين يقيمون على الأراضي التركية ، وإقامة سد بشري عربي في مواجهة التمدد الكردي، وجعل مهمة الفصائل المؤازرة والموالية لتركيا إسقاط مشروع "الدولة الكردية"، كأولوية اليوم.

إذاً، الأولويات تغيرت، وخريطة التحالفات تغيرت أيضاً، وفقا لمصالح الأطراف الموجودة على الأرض، أو في السماء، وكل الدلائل تشير إلى أن أعداء الأمس يمكن أن يتحولوا إلى أصدقاء اليوم!

دمشق تراقب هذه التطورات، وعينها على مسارها ونتائجها، هي أدانت التدخل التركي في جرابلس واعتبرت عملية "درع الفرات" انتهاكاً للسيادة السورية، ولكن هناك من يرى هذا "الدرع" ثمرة لاتفاق تركي سوري، بوساطة إيرانية، ومباركة روسية!

السفير السوري السابق في السعودية مهدي دخل الله لم يصل إلى مثل هذه القناعة، هو يعتقد أنه حتى الآن لا يمكن إعطاء تقييمات صحيحة، ولكن "التحليل المنطقي يقول إن روسيا كانت تستطيع منع الدخول التركي المباشر إلى سوريا، وكذلك سوريا التي تنسق معها موسكو في كل كبيرة وصغيرة".

دخل الله يعتقد أيضاً أن تركيا قبل الانقلاب هي غيرها بعد الإنقلاب، والتطورات تضغط على الحكومة التركية باتجاه التخلي عن سياساتها القديمة. ولذلك تحاول تركيا أن تبني سياساتها اليوم بالاتفاق مع روسيا وإيران.

ولكن ألا تخشى دمشق من انقلاب أردوغان على أي تفاهمات قد تكون حصلت مع الروس والإيرانيين بعد عودة الدفء إلى علاقته مع واشنطن؛ ليفرض عبر الأمر الواقع منطقة آمنة لطالما حلم وطالب بها؟ يجيب وزير الإعلام الأسبق: "لن يكون هناك منطقة آمنة بالشروط التركية، كما أن جرابلس هي خارج سيطرة الدولة أصلاً بسبب وجود الإرهابيين فيها"، والأهم بحسب دخل الله: "تركيا لا يمكن أن تفعل شيئاً لا توافق عليه روسيا".

وفق هذه الرؤية، هناك اطمئنان سوري للضمانات الروسية، فالمايسترو الروسي يضبط الإيقاع في الشمال، وهو ليس بعيداً عما يجري في جرابلس حتى لو اكتفى بالصمت والمراقبة.

وحدهم الأكراد من سيدفعون ثمن اصطفافاتهم ، فلا هم استطاعوا كسب الأمريكي إلى صفهم، فخذلهم عند أول اختبار مع عدوهم التاريخي، ولا هم حافظوا على علاقة "المساكنة" وتبادل المنافع مع الدولة السورية، إذ يؤكد كثيرون أنهم طعنوا الجيش السوري في الحسكة من دون حسابٍ للعواقب.

قالها مهدي دخل الله: "الأكراد الأتراك أخطأوا في افتعالهم المواجهة مع الجيش السوري، سيدفعون ثمن هذه الخطيئة".

أما صالح مسلم، قائد حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، فقد أعلن المواجهة مع أنقرة، مؤكداً "تركيا ستغرق في المستنقع السوري، وسنحاربها كقوة احتلال"، رافضاً دعوات حلفائه الأمريكان بالانسحاب من مدينة منبج وغيرها من البلدات السورية الى شرق الفرات.

الأمر المؤكد أن التدخل العسكري التركي المباشر في سوريا بدأ، وهو مرشح للتوسع، والصدام مع الأكراد انطلقت رصاصته الأولى، فهل وقعت حكومة أردوغان في مصيدة كردية ثانية في سورية، إضافة لمصيدة حزب العمال الكردستاني في شرقها، أم أن الأكراد هم من وقعوا في مصيدة تطلعاتهم غير المنطقية ولعبهم مع الكبار ؟

لاأجوبة شافية ، لكن المؤشرات توحي بأننا أمام فصل جديد من فصول الأزمة السورية التي كلما تمددت، ازدادت تعقيداً ومعاندةً للحلول.

اضف تعليق