أشرف الصباغ
أقل ما يمكن أن يقال عن كلمتي ممثلي روسيا والولايات المتحدة في مجلس الأمن، أنها مناظرة من العيار الثقيل، ولكن السؤال الذي لا يزال يطرح نفسه بتلقائية هو، من الذي أفسد الاتفاق الروسي- الأمريكي الذي احتفت به وسائل الإعلام، وتلقاه المحللون والمراقبون بحذر، بينما تعاملت معه غالبية الأطراف الإقليمية بعدوانية شديدة، ولكنها خفية ومقنعة بمصطلحات دبلوماسية؟!
الكل كان ينتظر فشل الاتفاق بين لافروف وكيري، حتى أطراف الأزمة المباشرين، لا لكي يثبتوا حتى صحة مواقفهم المتناقضة، بل لكي يثبتوا أن المصالح الروسية – الأمريكية متناقضة أصلا، وأن هناك طرفا خدع الطرف الآخر، أو انتصر عليه مرحليا، وأن ما يرونه يجب أن يلتزم به هذا الطرف أو ذاك (الروسي أو الأمريكي). ومع كل ذلك، ظلت موسكو حتى اللحظات الأخيرة مؤمنة بالخطوة التي اتخذتها في اتجاه الاتفاق مع واشنطن على النهج التدريجي لتسوية الأزمة السورية.
مرة أخرى نضع رؤيتين متناقضتين من الأوساط السياسية والفكرية والعسكرية الروسية:
رئيس معهد الدين والسياسة في روسيا البروفيسور ألكسندر إيغناتينكو قال لصحيفة "موسكوفسكي كومسوموليتس" الروسية إن "الاتهامات المتبادلة بين موسكو وواشنطن مستمرة بشأن الأوضاع السورية. ومع ذلك يبقى التعاون بين روسيا والولايات المتحدة أمرا ضروريا في سوريا. والوثائق التي وقعها لافروف وكيري هي شهادة واقعية لهذا التعاون، على الرغم من أنه لم يتطور كما كان مطلوبا. والمشكلة تتمثل في أن قوتين عظميين - روسيا والولايات المتحدة – بدأتا محاولة تسوية الأزمة السورية، من دون أن تأخذا بالاعتبار أن مفتعليها عدد من الدول ذات مصالح ذاتية في سوريا. وهذه الدول هي المملكة السعودية وقطر وتركيا، وحتى إيران. ومراكز القوى هذه ليس من مصلحتها تسوية الأزمة وفق الصورة التي اتفق عليها الوزيران لافروف وكيري".
أما وجهة النظر الأخرى، فهي للخبير العسكري الروسي، رئيس إدارة التعاون العسكري الدولي بوزارة الدفاع الروسية سابقا، الجنرال المتقاعد ليونيد إيفاشوف، الذي عبر عن اعتقاده باستحالة توصل موسكو وواشنطن إلى حل وسط حول التسوية في سوريا، مؤكدا أن أهداف الدولتين هناك متناقضة.
إيفاشوف قال لوكالة أنباء "إنترفاكس" الروسية يوم 25 سبتمبر/أيلول الحالي "إن إيجاد أي حل وسط هنا أمر مستحيل، فالمطلوب هو الفوز العسكري وحده، ويتعين على روسيا أن تدرك أن الحل الوسط مستحيل، لأن الأهداف متناقضة تماما... ليس من مصلحة روسيا إطلاق عملية التسوية السياسية في سوريا بناء على الشروط الغربية، لأنها تقتضي برحيل الرئيس السوري بشار الأسد ومواصلة العملية التخريبية في سوريا، وتدمير نظامها السياسي واقتصادها ومجتمعها. هذا لا يناسب روسيا. أما الأمريكيون فلا تناسبهم خطتنا للتسوية السياسية أي بقاء الأسد والحفاظ على النظام القائم... إن التسوية السياسية في سوريا تستدعي إطلاق روسيا عملا مشتركا مع الصين ودول الشرق الأوسط. يجب أن نبدأ العمل مع الصين وأن نتعاون بشكل مكثف مع إيران، إضافة إلى إشراك مصر وسائر دول الشرق الأوسط، لخلق مجموعة بديلة من الدول المهتمة بالتسوية السياسية".
بين هاتين الرؤيتين، وبدون تبني أي منهما، تتحرك السياسة الخارجية الروسية على حد الموسى لكي تحافظ على توازن الرؤى إزاء أزمة أعلنت روسيا أنها ملتزمة، كقوة كبرى، بالتعامل معها، انطلاقا من مواقف ومصالح محددة. وبالتالي، فموسكو الرسمية تعلم جيدا أنها لا تتحرك وحدها في ساحة الأزمة السورية، وتدرك أيضا أن واشنطن كذلك لا تتحرك وحدها. وبالتالي، افترضت موسكو أن تتصرف واشنطن وفقا لثوابت معينة وحدود دنيا وقصوى تدرك أهميتها القوى الكبرى التي تعرف حدود مصالحها ومصالح الأطراف الأخرى. هنا أيضا يمكن أن نضيف القوى الإقليمية التي لم تكن راضية عن هذا الاتفاق. وهو الأمر الذي حذَّرت منه موسكو. ولكن يبدو أن واشنطن كانت ترغب بأن يتنفس حلفاؤها في الداخل السوري قليلا، ويحصلون على هدنة لترتيب الصفوف. ومن جهة أخرى، كانت تلتف على الاتفاق مع الجانب الروسي لكي تثبت لحلفائها الإقليميين أنها ملتزمة بخطوط معينة تم الاتفاق عليها ضمنيا أثناء تأسيس التحالف الدولي بقيادة واشنطن.
كل ذلك دفع مندوب روسيا الدائم في الأمم المتحدة فيتالي تشوركين إلى التصريح علنا بأن "روسيا استجابت مرارا لطلبات الولايات المتحدة بإعلان هدن تتراوح مدتها من 48 إلى 72 ساعة، لكن ذلك كان يؤدي دائما إلى إعادة تموضع المسلحين وحصولهم على تعزيزات. ثم تم طرح طلب آخر هو تخلي الحكومة السورية عن طلعات طائراتها الحربية لمدة 3 ثم 7 أيام... لا يمكن أن تستمر هذه الحيل التكتيكية بلا نهاية.. إننا لن نوافق بعد الآن على أي خطوات أحادية الجانب".
أما مندوبة الولايات المتحدة الدائمة لدى الأمم المتحدة سامانثا باور، فقد اتهمت روسيا بأنها "تسيء استخدام مقعدها الدائم في مجلس الأمن الدولي، وحق الفيتو.. وأن موسكو تعمل على إطالة أمد النزاع في سوريا، عن طريق القصف، وخاصة في حلب.. وهي قادرة على تخفيف المعاناة هناك، إلا أنها تفعل عكس ذلك.. وأنها ترتكب ممارسات وحشية، لأنها لا تحارب الإرهاب في سوريا، وعليها أن تتحمل مسؤولية أفعالها".
هذه الاتهامات الخطيرة بحاجة إلى تفكيك منهجي لكي نستشرف ماذا تريد أن تفعل واشنطن في القريب العاجل،ـ وخاصة في ظل الدعوات المتعددة من جانب دول غربية وعربية بإقامة منطقة حظر طيران، ما سيؤدي بدورة إلى إقامة مناطق عازلة في سوريا. من الواضح أن واشنطن تدفع روسيا إلى استخدام حق الفيتو. وفي الوقت نفسه تستبق الأمور وتبتز روسيا بإساءة "استخدام مقعدها في مجلس الأمن"! أما إطالة أمد الصراع في سوريا، فمن الواضح أن روسيا ليس لها علاقة بذلك، لأن كل المؤشرات تؤكد على أن واشنطن وحلفاءها من جهة، وبعض الأطراف الإقليمية غير المرحبة بالخطوات السياسية الروسية من جهة أخرى، هم الذين يعملون على إطالة أمد الصراع والحرب في سوريا لأهداف أبعد بكثير من معادلة الأزمة السورية.
فيتالي تشوركين أعلن مجددا عن موقف روسيا، مشيرا إلى أن "الحديث عن إحياء الهدنة في سوريا يجب أن يدور على أساس متعدد الأطراف حصرا، عندما لا نضطر إلى إثبات شيء لأحد ما من جانب واحد، إنما عليهم إقناعنا بأن لديهم رغبة صريحة في فصل المعارضين، المتعاونين مع التحالف الأمريكي، عن جبهة النصرة، ثم القضاء على النصرة وجعل المعارضين جزء من العملية السياسية". وذهب تشوركين إلى التأكيد على أنه "إذا لم يحدث ذلك فسيثير الأمر شبهات لدى موسكو بأن كل هذه التحركات هي من أجل إنقاذ جبهة النصرة من الضربة. وبالتالي، فالحل يكمن في عمل مشترك نزيه يلتزم فيه الجميع باتفاقات الهدنة، بدلا من طرح مطالب من جانب واحد.. إن تطبيق الاتفاق الروسي الأمريكي يفتح طريقا للحل السياسي في سوريا... وإن لهذا الاتفاق أعداء كثيرين كانوا يسعون لتقويضه منذ البداية، وهناك انطباع أن موقفهم غير البناء هو الذي تغلّب".
أما السيدة باور، فقد اتهمت موسكو ودمشق بشن هجوم واسع النطاق على حلب الشرقية. وقالت إن بلادها "ستجتهد" لإعادة نظام وقف إطلاق النار في سوريا بكل ما لديها من "الأساليب".. وأن "الأسد لا يؤمن إلا بالحل العسكري في بلاده".
لم تعد هناك خلافات كبيرة بين المراقبين على أن هناك محورين تتحرك عليها السياسات الدولية والإقليمية في سوريا: الأول، هو "سياسة عض الأصابع". والثاني، هو "سياسة فرض الأمر الواقع". وبين هذين المحورين تتحرك أطراف وقوى معينة، بما فيها أطراف الصراع المباشرة لتلعب أدوارا تثبت من خلالها أن "الحسم العسكري" هو أساس التسوية السياسية.
اضف تعليق