عندما قال رئيس الوزراء حيدر العبادي، غداة تشكيله الحكومة، انه سيحارب الفساد بجدية، وسيبدأ بالرؤوس الكبيرة، وضع المراقبون هذا الإعلان موضع المتابعة الجدية، والترقب، وذهب الكثير منهم الى الشك في تحقيق نجاح مبكر يساوي التعويل على الكلام، على الرغم من انهم متفقون حيال سلامة النيات التي تحدث العبادي من داخلها، فالنيات والرغبات والمشاعر لا تكفي في مثل هذه المعركة الشرسة إذ تقف وراءها، من الجانب الآخر، مافيات وبالوعات من المصالح والكواليس والوكالات، وحيتان بجلود قابلة للتبدل، بل وبحصانات وقائية تتخذ من دوائر الدولة مصدات لها.
ولم يأخذ المحللون ما ذكره رئيس الوزراء عن انقلاب معادلة الحرب على الفساد لصالح الدولة مأخذ جد، وبخاصة اشارته الى ان الفاسدين بدأوا الآن "يخافون" بعد ان كانوا "يخيفون" في السابق، إذ اعتبروها بمثابة تنظير استباقي، او رسالة تهديدية الى الرؤوس الكبيرة، أو قراءة من زاوية بعض النجاحات في تغيير الملاكات العسكرية والكشف عن ملفات محدودة حول الاسماء الموهومة في قوام افراد المؤسسة العسكرية، الامر الذي خف ايقاعه، وتراجع زخمه، بل ان الكثير من المعلقين تساءلوا عن حق "كيف يمكن للفاسدين ان يحاربوا الفساد" وذلك عندما ظهرت المعلومات المقلقة عن فساد خطير يضرب شبكة المفتشين العامين، او بعض خطوط النزاهة والقضاء والسلطات التنفيذية ومجالس المحافظات، وما يقال عن جيل جديد مُحَسّن من الـ"الحيتان" الذين يجيدون اللعب في ساحة الاستثمارات والعقود والتهريب وغسيل الاموال، وبعضهم مَن يسعى، بالعلن، الى مرضاة الله.
طبعا لكل مرحلة حيتانها، او، لها ابطال يتطبعون بطباع "فخذ" شرس من قبيلة الحيتان، ويقول عالم الحيوان المعروف كمال الدين الدميري عن تلك الطباع انها من بعض طباع الضباع التي "لا يهمها الجود ومكارم الاخلاق" بل يهمها "عظمَ فريسة تُرك ليتعفن ويفسد" ويخص نوعا من الحيتان (نعنيه هنا) بالقول "انه دابة عظيمة تمنع المراكب الكبار عن السير" وعلى ذلك نصح الجاحظ بتجنب الحيتان الشرهة التي تعودت اكل العنبر "وهو نوع من السمك اللؤلؤي" وكأنه ينصحنا ايضا ان لا نثق باغواء جلد الحوت الذي يتسم بالنعومة والانزلاق، واحسب ان الحوت الذي قطع رجل بطل رواية هيرمان ملفيل الشهيرة (موبي ديك) ينتسب الى هذا النوع الغادر من الحيتان.
ولا تختلف حيتاننا، في طبعتها وطباعها عن تلك الحيتان التي "تتنفس من منخرتها الموجودة في اعلى الرأس" وتتخاطب في ما بينها بواسطة الصفير، والنحيب، والصراخ، من على الشاشات الملونة، ولدى الصيادين وروّاد البحار قصص مروعة عن تلك الحيتان الغادرة، لكني لا اعرف مدى صحة القول بان هذه الحيتان لا تقرب من أي مركب يقل امرأة حائض، وأشك بالرواية القائلة بان الحيتان لم تكن لتهاجم البواخر الامريكية التي كانت في القرن الثامن عشر تقل نساء سجينات يجري نقلهن الى جزر نائية لزجهن في اعمال السخرة الهمجية.
حيثما يعشعش الفساد، ويتمكن، تتشكل مافيات تقوم بحماية خطوط التهريب وتنظيم اعمال الاختطاف والقتل وتهديد وإغواء المسؤولين وإرشاء القضاة والمحققين ورجال الشرطة. القاضي الايطالي الشهير والمتخصص في ملف المافيات الصقلية "جيوفاني فالكوني" كان يقول في نهاية كل قضية من قضايا المافيا "لا يمكن القضاء على المافيات بجهاز تنفيذي فاسد" وعندما اغتيل العام 1992 وجدوا بين اوراقه تقريرا كان يعد الى تقديمه للمحكمة العليا يشير الى دخول منظمات ارهابية جهادية دولية على خط المافيات الايطالية، وانه لولا فساد الادارات المحلية لما استطاع الارهاب والمافيا بناء عقد الشراكة الاجرامي بينهما.. وكأنه يتحدث عما يحصل في العراق.
"مراقبة الالم من وراء الزجاج شئ مضحك، كالاطرش الذي يسمع الموسيقى"
محمد الماغوط
اضف تعليق