آلام الليبرالية لن تنتهي حتى ولو هزم بوتين. فالصين ستكون في الإنتظار وكذلك إيران وفنزويلا وكوبا والشعبويون في البلدان الغربية. لكن العالم سيكون قد تعلم ما هي قيمة النظام العالمي الحر، وأنه لن يستمر إلا إذا كافح الناس من أجله وأظهروا الدعم المتبادل. وخلص إلى أن الأوكرانيين...
عن الحرب الأوكرانية، كتب المؤرخ الأمريكي فرانسيس فوكوياما في صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية قائلاً، إن الغزو الروسي المرعب لأوكرانيا في 24 فبراير (شباط) هو نقطة تحول حاسمة في تاريخ العالم.
حتى لو استولى بوتين على كييف وطرد الرئيس فولوديمير زيلينسكي، فإنه لن يتمكن على المدى الطويل من اخضاع أمة غاضبة تعد أكثر من 40 مليوناً، بالقوة العسكرية وقال الكثيرون إنها تضع حداً على نحوٍ قاطعٍ لعهد ما بعد الحرب الباردة، وتشكل تراجعاً عن "أوروبا كاملة وحرة" التي اعتقدنا أنها ظهرت بعد 1991، أو في الحقيقة أنها نهاية النهاية للتاريخ.
وكتب إيفان كراستيف، وهو مراقب ذكي للأحداث في صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية مؤخراً: "إننا نعيش كلنا في عالم فلاديمير بوتين الآن"، وهو عالم تتفوق فيه القوة النارية على حكم القانون والحقوق الديموقراطية.
لا شك في أن الهجوم الروسي تترتب عليه مضاعفات تذهب أبعد من حدود أوكرانيا. وكان بوتين واضحاً في أنه يريد إعادة تجميع ما يستطيع من جمهوريات الإتحاد السوفياتي السابقة، ودمج أوكرانيا بروسيا وخلق فضاء من النفوذ يمتد عبر كل دول أوروبا الشرقية التي انضمت إلى الناتو في التسعينات ولاحقاً.
ورغم أنه لا يزال من المبكر معرفة كيف ستتطور هذه الحرب، فإنه من الواضح أن بوتين لن يتمكن من تحقيق أهدافه القصوى. لقد توقع نصراً سريعاً وسهلاً، وبأن الأوكرانيين سيعاملونه كمحرر. لكنه حرك عش الدبابير الغاضب، بعدما أبدى الأوكرانيون بكل فئاتهم درجة غير مسبوقة من الثبات والوحدة الوطنية. وحتى لو استولى بوتين على كييف وطرد الرئيس فولوديمير زيلينسكي، فإنه لن يتمكن على المدى الطويل من اخضاع أمة غاضبة تعد أكثر من 40 مليوناً، بالقوة العسكرية. كما أنه سيكون في مواجهة العالم الحر وحلف الناتو، موحدين ومعبئين على نحوٍ غير مسبوق، بعد فرض عقوبات مكلفة على الاقتصاد الروسي.
وفي الوقت نفسه، أثبتت الأزمة الحالية أنه لا يمكن أخذ النظام العالمي الحر الموجود على أنه أمر مسلم به. إنه أمر يتعين علينا أن نكافح في سبيله بشكل دائم وإلا سيختفي في اللحظة التي نخفف فيها حذرنا.
المشاكل التي تواجه اليوم المجتمعات الحرة لا تبدأ ولا تنتهي مع بوتين، وسنواجه تحديات خطيرة جداً حتى ولو واجه وضعاً حرجاً في أوكرانيا. إن الليبرالية تتعرض لهجوم منذ زمن، من كلا اليمين واليسار. وجاء في استطلاع "مؤسسة فريدوم هاوس" للعام 2022 عن وضع "الحرية في العالم" أن الحرية العالمية هي في تراجع في السنوات الـ16 الأخيرة. وهي تتراجع ليس بسبب صعود قوى استبدادية مثل روسيا والصين، وإنما أيضاً بسبب الاتجاه نحو الشعبوية واللاليبرالية والقومية داخل ديموقراطيات قديمة مثل الولايات المتحدة والهند.
وحذر من أن آلام الليبرالية لن تنتهي حتى ولو هزم بوتين. فالصين ستكون في الإنتظار وكذلك إيران وفنزويلا وكوبا والشعبويون في البلدان الغربية. لكن العالم سيكون قد تعلم ما هي قيمة النظام العالمي الحر، وأنه لن يستمر إلا إذا كافح الناس من أجله وأظهروا الدعم المتبادل. وخلص إلى أن الأوكرانيين، أكثر من أي شعب آخر، "أظهروا ما هي الشجاعة الحقيقية، وأن روح 1989 لا تزال حية في هذه الزاوية من العالم. وبالنسبة للبقية منا، فإننا كنا نغط في سبات وقد إيقاظنا منه".
بوتين يشن حربا على النظام الليبرالي
ورأى فوكوياما أن الحرب التي يشنّها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أوكرانيا إنما تستهدف النظام الليبرالي العالمي، ولفت " إلى أن القيم الديمقراطية كانت عرضة إلى تهديد في شتى أنحاء العالم قبل أن تجتاح روسيا جارتها الأصغر، وحض على إحياء الروح التي أحاطت بسقوط جدار برلين عام 1989. وكتب مؤلف كتاب "نهاية التاريخ" الصادر عام 1992 احتفالاً بسقوط الاتحاد السوفياتي يقول إن الحرب الروسية على أوكرانيا الذي بدأ في 24 فبراير (شباط) "يعد كنقطة تحول مهمة في تاريخ العالم، فكثر يقولون إنه يشكل نهاية المرحلة التي بدأت مع انتهاء الحرب الباردة، أو تراجع عن "أوروبا الكاملة [غير مقطعة الأوصال] والحرة" التي اعتقدنا أنها نشأت بعد عام 1991، أو حين نهاية (نهاية التاريخ)".
ونبه فوكوياما إلى أن الأزمة الأوكرانية أثبتت وجوب عدم اعتبار النظام الليبرالي العالمي أمراً مسلماً به، "فهو أمر يجب أن نناضل باستمرار في سبيله، وهو ما سنخسره فور تراخينا. والمشاكل التي تواجه اليوم المجتمعات الليبرالية لم تبدأ اليوم، ولن تنتهي مع بوتين، وسنواجه تحديات جدية جداً حتى لو تعثر في أوكرانيا. فالليبرالية تتعرض إلى هجوم منذ بعض الوقت من اليمين ومن اليسار".
وعرف الليبرالية بأنها "مذهب ولد في القرن السابع عشر ويسعى إلى ضبط العنف من خلال خفض الطموحات السياسية. وهو يقر بأن البشر لن يتفقوا على الأشياء الأهم – مثل الديانة الواجب اتباعها – لكن عليهم التسامح مع مواطنيهم الذين يحملون أفكاراً تختلف عن أفكارهم". ويحقق المذهب ذلك "باحترام الحقوق المتساوية والكرامة لدى الأفراد من خلال حكم القانون والحكومات الدستورية التي تراقب موازين القوى في الدول الحديثة. وتشمل الحقوق الحق بالتملك وحرية عالم الأعمال، ولهذا السبب ارتبطت الليبرالية الكلاسيكية بقوة بمستويات عالية من النمو والازدهار الاقتصاديين في العالم الحديث. كذلك ارتبطت الليبرالية الكلاسيكية عادة بالعلوم الطبيعية الحديثة وبالرأي القائل إن العلوم تستطيع مساعدتنا على فهم العالم الخارجي والتحكم به لصالحنا".
وهاجم فوكوياما الرئيس الهندي ناريندرا مودي متهماً إياه بالسعي إلى إقامة دولة هندوسية غير متسامحة، وكذلك الحزب الجمهوري الأميركي قائلاً إن بعض أوساطه تؤيد علناً القومية البيضاء في حين أن آخر رئيس أميركي جاء من صفوفه، دونالد ترمب، رفض قبول نتائج الانتخابات الرئاسية العام الماضي وحاولت عصابة عنيفة مؤيدة له اقتحام الكابيتول ولم يستنكر الجمهوريون عموماً ذلك بل أيدوا ترمب. أما يساراً. أضاف المفكر، فيرفض كثر القيم الليبرالية من منطلق أن استنادها إلى النقاش وبناء التوافقات يبطئ معالجة التفاوتات الاقتصادية والعرقية المترتبة على العولمة، ولا يمتنع بعضهم عن الدعوة إلى لجم حرية التعبير باسم العدالة الاجتماعية.
ويقول: "لا تملك أنظمة روسيا والصين وسوريا وفنزويلا وإيران ونيكاراغوا قواسم مشتركة فيما خلا كره الديمقراطية الليبرالية والرغبة في الحفاظ على سلطتها الاستبدادية. وهي أسست شبكة من الدعم المتبادل سمحت، مثلاً، للنظام الحقير لنيكولاس مادورو في كاركاس بالاستمرار على الرغم من نفيه أكثر من خمس الشعب الفنزويلي إلى خارج البلاد. وفي نواة هذه الشبكة يقبع نظام بوتين الذي وفر السلاح والمستشارين والدعم العسكري والاستخباري لأي نظام يعادي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بغض النظر عن بشاعة تعامل هذا النظام مع شعبه".
وشدد فوكوياما، الذي يصدر له قريباً كتاب بعنوان "الليبرالية وخيباتها"، على أن الحرب الأوكرانية هي شأن يهم العالم بأسره، "فالعدوان الروسي غير المبرر وقصف المدن الأوكرانية المسالمة، مثل كييف وخاركيف، يذكران الناس بأكثر الطرق وضوحاً بنتائج الديكتاتورية اللاليبرالية. وروسيا بوتين لا تبدو اليوم دولة لها مطالب مشروعة حول توسع حلف شمال الأطلسي، بل دولة ملؤها الحقد والانتقام مصممة على قلب النظام الأوروبي الذي نشأ بعد عام 1991 [تاريخ سقوط الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية]، بل هي دولة لها قائد أوحد مهووس بما يعتبره غبن تاريخي سيحاول تصحيحه بغض النظر عن التكلفة التي سيتكبدها شعبه".
وقال إن حلف شمال الأطلسي صار أقوى بعد الأزمة. فعلى سبيل المثل فنلندا والسويد تدرسان الالتحاق به، وضاعفت ألمانيا، صديقة روسيا الأقرب في أوروبا سابقاً، ميزانيتها الدفاعية، وأبدت استعدادها لمد أوكرانيا بالأسلحة. وأضاف: "من الصعب أن نرى بوتين يحقق أهدافه الأسمى المتمثلة في إنشاء روسيا الكبرى، لكن لا تزال الطريق أمامنا طويلة ومرهقة. فبوتين سيستعمل كل قوته العسكرية في أوكرانيا، والمدافعون الأوكرانيون بدأوا ينهكون وبدأت الأغذية والذخائر لديهم تنفد. وستيسابق كل من روسيا وحلف شمال الأطلسي على تعزيز الجيش الروسي والمقاومة الأوكرانية". وإذ لم يستبعد خطر وقوع مواجهة عسكرية بين روسيا وحلف شمال الأطلسي، أكد أن "الأوكرانيين هم من سيقاتلون بالنيابة عنا جميعاً".
روسيا تتجه نحو هزيمة كاملة
وتوقع فوكوياما توجه روسيا نحو "هزيمة كاملة" في أوكرانيا. ولفت إلى أن التخطيط الروسي كان غير كفوء ومستنداً إلى افتراض معيوب مفاده أن الأوكرانيين ينظرون بإيجابية إلى روسيا وأن الجيش الأوكراني سينهار فوراً بعد الاجتياح. ورأى أنّ الجنود الروس كانوا يرتدون الزي الرسمي الخاص باستعراض النصر في كييف بدلاً من الذخيرة الإضافية والحصص الغذائية.
عند هذه النقطة، التزم بوتين بنشر الجزء الأكبر من كامل جيشه في هذه العملية، حيث لم يعد يتمتع بالمقدرة على استدعاء أعداد كبيرة من الاحتياط كما أن القوات الروسية عالقة خارج مدن أوكرانية عدة حيث تواجه مشاكل ضخمة في الإمدادات وهجمات أوكرانية مستمرة.
وكتب فوكوياما في مجلة "أميركان بوربوز" أنّ انهيار مواقع الجيش الروسي قد يكون مفاجئاً وكارثياً عوضاً عن الانهيار البطيء من خلال حرب استنزاف. سيصل الجيش الروسي على أرض الميدان إلى نقطة لا يمكنه تلقي الإمدادات ولا الانسحاب، وستتبخر المعنويات. وهذا صحيح على الأقل في الشمال. أداء الروس أفضل في الجنوب، لكنه سيصعب الحفاظ على هذه المواقع إذا انهار الشمال.
ولم يرَ الكاتب وجود حل ديبلوماسي للحرب قبل الانهيار. ليس هنالك حل وسط يحظى بقبول الطرفين يمكن تصوره، بالنظر إلى الخسائر المتكبدة لغاية اليوم. وأثبت مجلس الأمن مجدداً أنه بلا جدوى.
أشاد فوكوياما بقرارات إدارة بايدن عدم تأسيس منطقة حظر جوي فوق أوكرانيا وعدم المساعدة في إرسال مقاتلات "ميغ" البولندية. إن إلحاق الأوكرانيين الهزيمة بالروس هو أفضل بكثير، بما يحرم موسكو من عذر أنّ حلف شمال الأطلسي هاجمها. بالتحديد، لن تضيف مقاتلات "ميغ" البولندية الكثير من الإمكانات لصالح الأوكرانيين.
فمواصلة توفير صواريخ "جافلين" و"ستينغرز" ومسيّرات "بيرقدار" والإمدادات الطبية ومعدات الاتصالات وتقاسم المعلومات الاستخبارية أهم بكثير. وافترض فوكوياما أن الناتو يعطي توجيهات استخبارية إلى القوات الأوكرانية من خارج الحدود.
الكلفة التي تدفعها أوكرانيا هائلة لكن الضرر الأكبر تسببه الصواريخ والمدفعية التي لا تستطيع مقاتلات "ميغ" أو منطقة حظر الطيران فعل الشيء الكثير حيالها. وتابع فوكاياما أنّ الأمر الوحيد الذي سيوقف المذبحة هو هزيمة الجيش الروسي على الأرض.
توقع الكاتب نفسه ألا يستطيع بوتين النجاة من هزيمة جيشه. هو يحظى بالدعم لأنه يُنظر إليه على أنه رجل قوي. ولهذا السبب، يتساءل عما سيتمكن بوتين من تقديمه إذا أظهر أنه غير كفوء ومجرد من قوته الإكراهية.
ورأى فوكوياما أنّ الهزيمة الروسية ستجعل "ولادة جديدة للحرية" أمراً ممكناً كما ستنتشل الغربيين من حالة الحزن من تراجع الديموقراطية على المستوى العالمي. "ستستمر روحية 1989 بفضل مجموعة من الأوكرانيين الشجعان".
اضف تعليق