لم يصِل معظم الديكتاتوريين في العالم إلى السلطة بالقوة أو بانتفاضة أو انقلاب، فكثر منهم تسلّموا السلطة بالوسائل الديمقراطية كالانتخاب، ومن ثم تحوّلوا إلى ديكتاتوريين حين جمعوا بين أيديهم سلطات كثيرة، تسمح لكل منهم الحكم لمدى العمر والتحكم بمصير بلاده وشعبه وبلاد وشعوب أخرى قريبة أو بعيدة...
بقلم: فيديل سبيتي
هم بحاجة إلى إزالة جميع الحواجز التي تحول دون تحقيق أهدافهم
لامبالاة الشعوب قد تؤدي إلى تحوّل الديمقراطيات إلى ديكتاتوريات
تتحوّل الديمقراطيات إلى ديكتاتوريات عندما تشعر النخب بأن النظام الديمقراطي لم يعُد مفيداً لهم
يجب مقاومة جاذبية "الرجال الأقوياء" الذين يدخلون إلى المسرح السياسي...
لم يصِل معظم الديكتاتوريين في العالم إلى السلطة بالقوة أو بانتفاضة أو انقلاب، فكثر منهم تسلّموا السلطة بالوسائل الديمقراطية كالانتخاب، ومن ثم تحوّلوا إلى ديكتاتوريين حين جمعوا بين أيديهم سلطات كثيرة، تسمح لكل منهم الحكم لمدى العمر والتحكم بمصير بلاده وشعبه وبلاد وشعوب أخرى قريبة أو بعيدة.
الخلاص ولو بالديكتاتورية
يقول الباحث السياسي أليك ميدين في بحث منشور بصحيفة "واشنطن بوست" إن إحدى الطرق لتحوّل الديمقراطية إلى ديكتاتورية تحدث نتيجة للاستقطاب السياسي الحاد بين الأطراف الداخلية التي ترفض الحوار أو التعاون في ما بينها، ما يسمح للجماعات العنيفة أو المتطرفة بالسيطرة على المجال السياسي العام، مستفيدة من ثغرات الديمقراطية التي تنتج في أحيان كثيرة أقليات وأكثريات متقاربة جداً من حيث الحجم التمثيلي.
ويمكن أن تسقط الديمقراطية عندما يشعر فريق مسيطر يملك السلطة والمال بأن خسارة الانتخابات قد تعني أخذ السلطة منه، لذا يسعى هذا الفريق إلى السيطرة على البلاد بالقوة، ومن ثم تحويلها إلى ديكتاتورية. كما يحدث في العراق اليوم حيث ترفض الأطراف السياسية الخاسرة نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة. أو يمكن أن تسقط الديمقراطية بأن يقرر رئيس وصل إلى السلطة بالانتخاب ويملك صلاحيات حل البرلمان والحكومة وغيرها من المؤسسات الحكومية، أن يجمع كامل السلطات بيده تحت شعارات "خلاصية" وشعبوية تقنع الشعب بأنه الرجل المنتظر الآتي لإصلاح كل شيء بنفسه ووحده بما يملكه من أخلاق شخصية، أسوة بما كان قد حدث في تركيا أردوغان وروسيا بوتين، اللذين تمكّنا من جعل نظاميهما رئاسيين بعدما كانا برلمانيين، وجعلا مدة ولايتهما غير محدودة مع سلطات مطلقة لا يحدّها قانون ولا رقابة.
وهناك الطريقة السودانية والليبية، التي تعني أن ينقلب طرف على توافق كان قد تم بين الفرقاء المختلفين حول طريقة الوصول إلى بناء دولة ديمقراطية عبر الانتخابات أولاً ويليها بناء المؤسسات. ولكن أحد هذه الأطراف يتهم الطرف الآخر باتهامات كثيرة من قبيل الخيانة الوطنية أو العمالة للخارج أو العمل لتقويض الهوية الوطنية وغير ذلك من اتهامات شعبوية تسمح بالانقلاب.
أما الطريقة الغرائبية لدمقرطة شكلية لديكتاتوري فهي كتلك التي تجري عند كل انتخابات رئاسية في سوريا، وكما كان يجري في ليبيا القذافي حيث يُعاد انتخاب الرئيس بنسبة عالية جداً من الأصوات قد تصل إلى 99 في المئة، فيكون "الرئيس الأبدي" قد تم تنصيبه شكلياً عبر الوسائل الديمقراطية. والمثال الإيراني مثال ساطع عن الديمقراطية المشوّهة أيضاً، إذ يحق للشعب الإيراني انتخاب ممثله في رئاسة الدولة أو في برلمانها، ولكن من بين مرشحين محددين تختارهم مجموعة من رجال الدين في تجمع إداري سياسي سلطوي وحكومي يحمل اسم "مصلحة تشخيص النظام".
للشعب يد أيضاً
هناك طرق أخرى لانقلاب الديمقراطية نحو الديكتاتورية يقوم بها الشعب نفسه تحت ضغوط جوائح كبرى مثل الانهيار الاقتصادي الكبير أو الهزيمة العسكرية الكبيرة أو تهديد دولة أخرى بالحرب، حينها يسعى الناخبون إلى خيارات متطرفة من خلال اختيار الأحزاب السياسية التي تعد بإنقاذ البلاد بمفردها من مشكلاتها الاقتصادية أو السياسية، وغالباً تقوم هذه الأحزاب بوقف العمل بالنظم الديمقراطية بمجرد وصولها إلى السلطة. كما حصل حين وصل "حزب الاشتراكيين الوطنيين" أو النازيين إلى الحكم في ألمانيا خلال جمهورية فايمار الديمقراطية التي أنشئت بعد الحرب العالمية الأولى. وكان وصول النازيين تعبيراً عن غضب الألمان من الشروط المذلة التي فرضتها الدول المنتصرة على ألمانيا المهزومة، والتي جعلتها في حال شديدة من الفقر والتبعية بسبب العقوبات الضخمة عليها. كانت النازية بمثابة المخلص للشعب الألماني في حينه، فأوصلها إلى السلطة قبل أن تنقض عليها تماماً بقيادة أدولف هتلر عبر مجموعة ضخمة من الوعود الشعبوية والأفكار القومية المتطرفة.
ولا مبالاة الشعب تؤدي لتحوّل الديمقراطيات إلى ديكتاتوريات، عندما يصبح الناخبون غير مبالين سياسياً، فينسحبون من المشاركة في العملية السياسية. هذه مشكلة متنامية في عدد من الديمقراطيات ودلالتها الواضحة انخفاض عدد المقترعين في معظم أنحاء العالم الديمقراطي. ويشعر الناخبون بعدم المبالاة عندما يعتقدون أنهم لن يتمكنوا من إحداث أي فرق في السياسة العامة. وهذا ما يوفر فرصة للقادة السياسيين ذوي "العقلية الاستبدادية" للبدء بتقليص الحقوق السياسية للأقليات السياسية أو العرقية مثلاً أو للأطراف المنافسة والتغييرية، ما يؤدي إلى الانزلاق نحو الديكتاتورية التي تتكرس حين تترافق مع قمع حرية التعبير وتأسيس نظام أمني عسكري واستخباراتي لمراقبة المعارضين ومن ثم معاقبتهم اغتيالاً أو سجناً وتعذيباً.
مصالح النخب
في بعض الحالات، تتحوّل الديمقراطيات إلى ديكتاتوريات عندما تشعر الجماعات "النخبوية" من الأشخاص الذين يشغلون مناصب مهمة في الدولة والقيادة السياسية ورجال الأعمال وأصحاب المصارف، والأعمال التجارية والمالية، أو رجال الدين أو الجيش، بأن النظام الديمقراطي لم يعُد مفيداً لهم ويتعارض مع مصالحهم المالية أو السياسية. فيبحثون عن بدائل غير ديمقراطية تحمي ثرواتهم أو مكانتهم أو نفوذهم السياسي من النخب المنافسة أو من جماعات الضغط الشعبية، وحتى من الناخبين أنفسهم الذين من المفترض أنهم يمثلونهم. فتقوم هذه النخب المستفيدة من الانقلاب على الديمقراطية بتعطيل كل الوسائل التي قد تؤدي إلى تغييرهم وعلى رأسها الانتخابات الديمقراطية، إما عبر إلغائها أو عبر تأجيلها ومن ثم تزويرها، كما تبدو الأمور في لبنان مثلاً على ما يرجح محلّلون سياسيون بالنسبة إلى الانتخابات المقبلة، التي يعتبرها البعض وسيلة أخيرة لتغيير أوضاع البلد مما هي فيه من انهيار، ويعتقد هؤلاء أن الطبقة السياسية الحاكمة لن تسمح بمثل هذه التغييرات، إما بعدم إجراء الانتخابات أو بتزوير نتائجها.
وهناك الانتفاضة أو الانقلاب كوسيلة لتغيير النظام من ديمقراطي إلى استبدادي. في حالة الانتفاضة، يحشد جزء كبير من الشعب نفسه ضد السلطة الحاكمة ويطيح بها، لكن في كثير من الأحيان يجري إنهاء نتائج الانقلاب الشعبي بواسطة انقلاب مضاد يقوم به جهاز قوي كالجيش أو جهاز الاستخبارات، وهذا ما جرى في الجزائر وفي ليبيا ومصر وتونس والسودان حالياً. وهذا ما حدث في تشيلي عام 1973 حين قام الجنرال أوغستو بينوشيه ومحافظون آخرون في مناصب رفيعة المستوى داخل الجيش، بانقلاب لطرد الرئيس المنتخب أليندي بالقوة من السلطة. ثم أقام بينوشيه سلطاته الديكتاتورية الكاملة على تشيلي. وعلى مدار 17 عاماً، حكم بينوشيه ومجلسه العسكري بقبضة من حديد وأوقفوا جميع الانتخابات وأخفوا وقتلوا الآلاف من المعارضين السياسيين للنظام. ويُعتبر نظام بينوشيه العسكري على تشيلي أحد أكثر الديكتاتوريات وحشية في أواخر القرن العشرين.
الديكتاتورية في الولايات المتحدة
وعلى هذا المنوال ذاته، كان يمكن للولايات المتحدة نفسها أن تقع تحت سلطة الديكتاتورية العسكرية في خضم الكساد الكبير في عشرينيات القرن الماضي. فبسبب هذا الكساد، اختار الناخبون الأميركيون بغالبية ساحقة فرانكلين روزفلت لرئاسة الولايات المتحدة. شرع روزفلت بتنفيذ مشروع سياسي مثير للجدل لمحاولة إخراج الولايات المتحدة من الكساد الكبير، وعُرف المشروع باسم "الصفقة الجديدة". واجه روزفلت وصفقته الجديدة معارضة شديدة من قبل رجال الأعمال والممولين الذين نظروا إلى إصلاحات روزفلت الاقتصادية على أنها شكل من أشكال الاشتراكية. لذا وضعت دائرة من رجال الأعمال والممولين خطة لإطاحة رئيس الولايات المتحدة بالقوة وبمساعدة الجيش. فتواصلوا مع اللواء في مشاة البحرية سميدلي بتلر للحصول على الدعم العسكري في الانتفاضة المخطط لها. لحسن الحظ رفض الجنرال المشاركة في المؤامرة وأبلغ الكونغرس بها. ولولا التقدير الواعي للجنرال بتلر كان من الممكن أن تصبح الولايات المتحدة أيضاً ديكتاتورية عسكرية في الثلاثينيات.
وبرأي الباحث عمر حمزاوي أنه لمنع الديمقراطية من التحول إلى ديكتاتورية يجب مقاومة جاذبية "الرجال الأقوياء" الذين يدخلون إلى المسرح السياسي، مدّعين أنهم من خارج المؤسسة السياسية، وأنهم آتون لتخليص الأمة من السياسيين الفاسدين الذين يديرونها. وهذا التحشيد الشعبوي يترافق غالباً مع تصعيد للشعور القومي العنصري وبتوجيه خطاب متشدّد تجاه الأقليات والمهاجرين والمعارضة السياسية والقادة الآخرين. ويدّعي هؤلاء الرجال الأقوياء أنه من أجل القيام بمهمتهم المتمثلة في "إنقاذ" البلاد، فإنهم "بحاجة إلى إزالة جميع الحواجز التي تحول دون تحقيق أهدافهم الخلاصية الآتية لإنقاذ الأمة".
اضف تعليق