q

عبدالله ناصر العتيبي- صحيفة الحياة

 

الأوساط الرياضية في السعودية مشغولة هذه الأيام بحكاية التعصب، فالكل يظهر معاناته ويرمي أحجار اللوم على عشرات الأسباب. الكل بلا استثناء. عشرون مليون مواطن جميعهم يشكون من التعصب، كلهم قلقون من استفحاله، كلهم يبحثون عن أسباب علاجه، ولا تدري، وأنت تستمع إلى البرامج الاجتماعية والرياضية الكثيرة النابذة للتعصب والهدير الشعبي الرافض له، من الملوم؟ ومن أية نافذة بالضبط تتسرب إلينا رائحته؟ تتساءل: ما دام الجميع يحارب التعصب، فكيف له أن يكون حاضراً في وجدان طبقات المجتمع كافة بهذا الشكل؟

هل نحن متعصبون رياضياً من غير أن نشعر؟ هل نحب فرقنا الرياضية المفضلة في شكل مرضي؟ هل نحن واقعون في هذه المصيدة من غير أن نعي ذلك؟ ولنوسع الدائرة قليلاً، لماذا تذهب المجاميع السعودية إلى تبني مواقف أقصى اليمين وأقصى اليسار في المسائل التي لا تحتمل سوى التموضع في الوسط، ثم تعود لتبكي على الوسطية التي ضيعتها؟ لماذا نرى يومياً الاحتراب والاقتتال والصدامات العنيفة على فكرة معينة، مجرد فكرة، تحتمل الصحة وتحتمل الخطأ، وقد تحتمل الصحة والخطأ في الوقت نفسه، وقد لا تحتمل أياً منهما، وإنما هي غشاء شفاف قابل لتمرير النسبيات والمختلفات والمتشابهات؟

شهدنا خلال الأيام القليلة الماضية عشرات القضايا الفكرية والاجتماعية والرياضية والدينية المختلف عليها. وفي كل مرة، كان الاستقطاب لهذه القضايا شديداً، والاقتتال في أمرها على أشده، والتعصب فيها واضحاً وجلياً. ولعل أكبر هذه القضايا ضجة إعلامية وأكثرها انتشاراً بين أوساط المجتمع، قضية ظهور الشيخ أحمد الغامدي (كاشفاً وجهه) وزوجته كاشفة وجهها في قناة «أم بي سي»، فما بين رافض معنف مهدد بالتعذيب والتأديب، ومؤيد منتمٍ إلى وجهة النظر الواحدة من الخلاف رافضاً ما سواها، ضاعت الوسطية في القضية، الأمر الذي بعث من جديد نابذي التعصب والتطرف من غيبوبتهم ودعاهم إلى الشكوى والترحم على أساليب الخلاف الناعمة والمهذبة؟

الحقيقة أننا جميعاً متعصبون، لكن لأننا نتحدث بالنبرة ودرجة علو الصوت نفسهما، فلا تبدو لنا المشكلة ظاهرة في مادتها، وإنما نعرفها بنتائجها. كلنا نركض بالسرعة الرهيبة نفسها، وبالتالي لا يتبين لنا من هو الأبطأ فينا ومن هو الأسرع، لكننا جميعاً نشعر بالتعب.

كلنا متعصبون متطرفون، وعلينا البحث في الأسباب والقضاء عليها، بدل صرف الوقت والجهد في معالجة النتائج.

أهم هذه الأسباب في تقديري هو الدعوة غير المنضبطة للانتماء إلى القضايا الكبرى: الوطن، الأمة، التاريخ والجغرافيا. أصبحنا كلنا نسخاً من بعضنا، نتبنى الأفكار نفسها والهويات الكبيرة وننقسم حولها. الشمالي تبعاً لهذا الانتماء مسؤول عن كل ما يحدث في السعودية، ومطلوب منه دائماً أن يأخذ موقفاً معيناً لأية قضية أو حدث يحصل في منطقته وخارجها. هو مشغول دائماً بالقضايا الوطنية والكبيرة، ومسؤول عن الدفاع عنها يميناً أو يساراً، لأنه ببساطة يفتقد القضايا المحلية الخاصة بوجوده المكاني، التي تشغله وتملأ همه الإقليمي اليومي. الجنوبي يفعل الشيء نفسه. الغربي والشرقي كذلك.

والمشكلة المقلقة في هذا الأمر أن القضايا الصغيرة أيضاً صارت تكبر وتتوسع وتصبح قضايا شمولية جامعة بسبب تدافع الجميع من الهويات والثقافات كافة لتبنّيها ونحت المواقف حولها.

أصبحنا بلا قضايا إقليمية ننتمي إليها، وبالتالي افتقدنا الخلافات الصغيرة في القضايا الصغيرة. افتقدنا الخلافات التي يمكن اعتبارها حقل تجارب لصناعة مواقف كبيرة غير متطرفة وغير متعصبة. كنا طوال العقود الماضية ندعو إلى الوطنية الكبرى، وإلى الهوية الكبرى، ونتحدث عن الوطن التاريخ والأرض حتى صرنا كلنا وطنيين أصحاب سحنة واحدة نتقدم سوياً ونتأخر سوياً. لم يعلمنا أحد أن الوطن هو في الحقيقة المنطقة الصغيرة الآمنة والتعليم الجيد لأبنائي والتطبيب المتاح لأبي وأمي وزوجتي وأبنائي، والتفاصيل الدقيقة والمشاكل الصغيرة التي تساعد في الحياة. لم يعلمنا أحد أن ننتمي إلى الهوية الفرعية التي تشكل مع بقية هويات البلد وطناً كبيراً.

وطني هو «اللحظة الآمنة» في محيط صغير ممتلئ بتفاصيل صغيرة أعيشها من الألف إلى الياء. وطني بوصفي شمالياً هو نادي العروبة، ويأتي ثانياً النصر أو الهلال أو الاتحاد. وطني بوصفي جنوبياً هو نادي ضمك ويأتي الأهلي والشباب ثانياً. وطني بوصفي شرقياً مشكلة الطرق في الدمام، وتأتي مشكلة مداخن تحلية جدة في عاشر اهتماماتي.

وطني هو المذهب الديني الذي أعيش تحت ظله في إقليمي والذي ليس بالضرورة أن يكون مشابهاً للمذهب الذي يعيش تحت ظله شريكي في الوطن على بعد مئات أو آلاف الكيلومترات. مذهبي ومذهب شريكي في الأرض مكملان لعقيدة الوطن. وبالتالي فاختلافي معه ليس مرده إلى أنني أخطّئه، بل ذلك راجع إلى إيماني فقط بأنني أحمل رأياً أكثر صحة من الرأي الذي يحمله.

الانتماء إلى الهويات الفرعية أمر إيجابي لصناعة وطن متنوع ومتعدد الثقافات والأفكار والرؤى. وهو في النهاية طريق ناعم للوصول إلى الوطن الكبير، وفوق هذا كله جدار حماية ضد التعصب والتطرف تحت مظلة الشمولية.

نحن متعصبون لأننا شموليون، ومتى ما صنعنا مظلتنا الكبيرة من مظلاتنا الصغيرة، ستتغير حياتنا نحو الأحسن والأهدأ والأقل استقطاباً وتطرفاً.

* كاتب وصحافي سعودي

اضف تعليق