يَدفعُ لبنانُ ثمنَ تأخّرِ وِلادةِ النظامِ العالميِّ الجديد، وتَعثُّرِ ولادةِ النظامِ الإقليميِّ الجديد. الدولُ الكبرى تَسأل عن مدى ضرورةِ الدفاعِ عن وِحدةِ بلدٍ متهالِكٍ، وأصبحَ مُتعِبًا لها. والدولُ الإقليميّةُ تسأل عن مدى حاجةِ لبنان إلى وِحدتِه المركزيّةِ مع تنامي مناطقِ الحكمِ الذاتيِّ في الشرقِ الأوسط...
وِحدةُ "لبنان الكبير" صارت مثلَ أموالِ المودِعين: موجودةٌ بالاسمِ مفقودةٌ بالفِعل. وأمْسَت أيضًا مثلَ العُملةِ الوطنيّةِ: نَتداولُ بها لكنّها فَقدَت قيمتَها الشرائيّة. لقد تَعرَّض لبنانُ الكبيرُ إلى "هيركات" من دونِ قانون، وفَــتَــكَ به الانقسامُ في ظلِّ غِيابِ المناعةِ الجَماعيّةِ بين مكوّناتِه.
علاوةً على مسؤوليّةِ الطبقةِ السياسيّةِ، يَدفعُ لبنانُ ثمنَ تأخّرِ وِلادةِ النظامِ العالميِّ الجديد، وتَعثُّرِ ولادةِ النظامِ الإقليميِّ الجديد. الدولُ الكبرى تَسأل عن مدى ضرورةِ الدفاعِ عن وِحدةِ بلدٍ متهالِكٍ، وأصبحَ مُتعِبًا لها. والدولُ الإقليميّةُ تسأل عن مدى حاجةِ لبنان إلى وِحدتِه المركزيّةِ مع تنامي مناطقِ الحكمِ الذاتيِّ في الشرقِ الأوسط، وبات محرِجًا لها. ويَلتقي التساؤلان العالميُّ والإقليميُّ مع تساؤلِ اللبنانيّين عن مدى إمكانيّةِ العيشِ المشترَكِ في دولةٍ مركزيّةٍ على الورقِ مقسَّمةٍ على الأرض. وكان يَنقُصُ هذه التساؤلاتِ إعلانُ البنكِ الدولي "أنَّ لبنانَ غارقٌ في انهيارٍ اقتصاديٍّ قد يَضَعه ضِمنَ أسوأِ عَشرِ أزَماتٍ عالميّةٍ منذ منتصفِ القرنِ التاسع عشر" (01 حزيران 2021) .
البعضُ يَعتبرُ أنَّ أيّامَ دولةِ "لبنان الكبير" أصبحَت معدودة. وعلى أهلِ المريض أن يَستفيدوا من فترةِ الاحتضار الطويلِ ليُنظِّموا حَصْرَ الإرثِ ويُحضِّروا شكلَ الدولةِ البديلة. لكنَّ أيَّ دولةٍ بديلةٍ لن تكونَ أفضلَ من لبنان الكبير. هل يَتَّفِقُ أهلُ المريض على البديلِ وهُم الّذين اخْتلفوا على الأصيل؟ وهل يَتفاهمون على حَصْرِ الإرْثِ وقد تَقاتلوا على الإرْث؟ وهل يَستطيعون العيشَ في لبنانَ الصغيرِ وقد ضاقَت بهم مساحةُ لبنان الكبير؟ المسألةُ هي مساحةُ الحضارةِ لا مساحةُ الأرض. كِيانُ لبنان هو كيانُ الحرّية، والأحرارُ في لبنان متعدِّدو الطوائف. أوسعُ مساحةٍ، مهما ضَاقَت، هي مساحةُ الحرّية. وأضْيقُ مساحةٍ، مهما اتّسَعَت، هي مساحةُ الاستبْداد.
من هنا أَنَّ لبنانَ ليس مُعرَّضَا للتقسيم بل للاختِصار، ولا للتمييزِ الطائفيِّ بل للتمييزِ الحضاريّ. نحن أمامَ تجربةٍ تُشبِهُ أسطورةَ الملِكة أليسار الفينيقيّة التي غادرت مدينةَ صُور في القرنِ الثامن ق.م. وبَنت مملكةَ قَرطاجة انطلاقًا من مساحةِ جِلدِ ثورٍ لتَبقى حرّة.
الذين يَتمسّكون بشكلِ دولةِ لبنانِ الحاليِّ مَدعوُّون إلى إعطاءِ براهينَ على نجاحِ هذه التجربةِ الفَذَّةِ وعلى قدرتِها على الاستمرار. التعلّقُ بلبنانَ الحاليِّ من دونِ إعادةِ هندستِه مثلُ التَغنّي "برِزْق الجِدّ". والّذين يَرون البقاءَ في لبنانَ الكبير مستحيلًا لأنّه صارَ شَكلًا بدونِ مضمون، لم يُقدِّموا صيغةً مقبولةً سوى اللامركزيّةِ الموسَّعة، لكنّها لا تَفي بالغرَضِ ما لم تَقترِن بالحِياد. صحيحٌ أنَّ لبنانَ الكبير لم يَعُد ذاتَه، لكنَّ لبنانَ الصغيرَ اليوم أمْسى أصغرَ من لبنانَ الصغيرِ بالأمس. اخْترَقتهُ مُنَمْنَمات. ما عادت المشكلةُ أن تَنفصِلَ الأطرافُ عن جبلِ لبنان، بل أن تحاولَ الأطرافُ ضَمَّ الجبل، أي قَلبَ لبنان. الجبلُ صارَ نُقطةَ ضُعفِ وِحدةِ لبنان بعدما كان نُقطةَ قوّتِه. إنقاذُ الجبل يَستحقُّ وِقْفةً.
ما يُبرِّرُ الدفاعَ عن لبنانَ الكبير موحَّدًا هو أن يبقى وَجهُه الحضاريُّ سِـمَـــتَـه، ويَظلَّ الحضاريّون فيه روَّادًا وفاعِلين وأساسيّين، ويدومَ الجبلُ التاريخيُّ مِـحورَ الكيانِ اللبنانيِّ مهما كان شكلُ الدولة. الواقعُ الحاليُّ يَدُلُّ على العكس. لقد أمْسى لبنانُ نقيضَ الغايةِ الحضاريّةِ التي من أجلِها ناضَلت الكنيسةُ المارونيّةُ لتأسيسِه سنةَ 1920. الأطرافُ تَتحكّمُ بمصيرِه خارجَ شرعيّتِه ودستورِه. صار لبنانُ الكبيرُ غَطاءً شرعيًّا لكلِّ ما هو غيرِ شرعيٍّ.
مثلما نواجِهُ الحالةَ الانقلابيّةَ لإنقاذِ كيانِ لبنان، لن نَدَعَ بالمقابل الحنينَ يَغلُبُ المصيرَ ويُعطِّلُ الرؤيةَ الجديدة. قيمةُ التعدُّديّةِ في دولةٍ واحدةٍ هي في وِحدةِ ولائِها للدولةِ لا في ولاءاتِـها لدولٍ أجنبيّة. وإلّا لا لزومَ للحياةِ في مجتمعٍ تعدُّديّــتُـه الحضاريّةُ تُفرِزُ دويلات. قيمةُ التعدُّديةِ الحضاريّةِ أنْ تُبرزَ تلاقي الحضاراتِ لا صراعاتِها. وإذا كان التلاقي عاملَ اتّحادِ الأمّة والصراعُ عاملَ انقسامِها، فنزعةُ الصراعِ هي الغالِبةُ منذ مئةِ عامّ. لم يَستقِرّ اللبنانيّون على خِيارِ لبنان بالمطلَق. هناك فئاتٌ لبنانيّةٌ رَهنَت خِيارَها الوطنيَّ بمشاريعِها المذهبيّةِ، وضَربَت أسُسَ الكيانِ اللبنانيِّ حتّى تَفرِضَ على اللبنانيّين الخضوعَ للوِحدةِ حسبَ شروطِها أو البحثَ عن أشكالٍ دستوريّةٍ أخرى. رَفَضنا هذا الخِيارَ لأن مشاريعَ تلك الفئاتِ لا تَصلُحُ للقرنِ الحادي والعشرين، ومفيدٌ لها أنْ تُغيّرَ ما فيها عِوضَ أن تُغيِّرَ لبنان.
جَـمَعنا إمبراطوريّاتِ الشرقِ وفتوحاتِه، شعوبَه وهوّياتِه وأديانَه، صَحاراه وبِحارَه وجبالَه، كُتبَه وآدابَه وأشعارَه، وصنَعنا لبنانَ الكبير. أردْناه عِطرَ الشرق، فلَمْ نُوفَّق. رأينا مَن بقيَ في زمنِ الفتوحات، ومَن بقي في زمنِ الإمبراطوريّات، ومن بقي في زمنِ الأكثريّاتِ والأقلّيات، ومن بَقي في زمنِ نشوءِ الأديان. أنّى للبنانَ أن يَنجَحَ بمساحتِه الصغيرةِ في احتضانِ هذه الشعوبِ والأديانِ والأعراقِ، فيما الشرقُ بمساحتِه الشاسِعةِ فَشِلَ طوالَ ألفي سنة؟ إنَّ تَرنُّحَ الصيغةِ اللبنانيّةِ فَتحَ شهيّةَ أقلّياتِ الشرقِ وأكثريّاتِه لأنَّ لبنان كان المثَلَ والمثال. في 06 تموز 1860 بَعثَ وزيرُ خارجيّةِ فرنسا، إدوار ــ أنطوان توفنال (Thouvenel) رسالةً إلى البابِ العاليّ العثمانيِّ يَذكرُ فيها "أنَّ أمنَ الشرقِ من أمنِ لبنان" ويدعوه إلى عدمِ عرقلةِ قيامِ نظامِ المتصرفيّة.
الحقيقةُ أنَّ تجربةَ التعايشِ بين القوميّاتِ والإتنيّاتِ والأديانِ والحضاراتِ تتراجعُ في مُجملِ دولِ العالم. من أوروبا إلى أميركا ومن آسيا إلى أفريقيا. وها هي تَسقُط خصوصًا في الدولِ التي نَما فيها التطرّفُ الدينيُّ والعِرقيُّ كإسرائيل والعراقِ وسوريا والبحرين وروسيا وسائرِ دولِ العالم العربي. حتّى أنَّ المستشارةَ الألمانيّة، أنغيلا ميركِل، قالت في 17/10/2010 أمامَ شبيبةِ الحزبِ الديمقراطيِّ المسيحيّ في بوتْسدام: "إنَّ النَموذجَ الألمانيَّ المتعدِّدَ الثقافةِ حيث تتعايش أنماطُ حياةٍ متنوِّعةٌ فَشِلَ تمامًا".
كُثرٌ أثاروا هذا الموضوع: الكاتبُ الهِنديُّ بانكاج ميشرى (Pankaj Mishra) في كتابِه "مَغيب الغرب" اقترحَ "العودةَ إلى التنظيماتِ الكونفدراليّةِ التي اتّبعَها العثمانيّون في تفويضِ السلطةِ إلى المناطقِ وضمانِ حقوقِ الأقليّات". وعالِـمُ الإنسانيّات، الأميركي كليفورد جيرتز (Clifford Geertz)، دعا إلى "استباقِ انفجارِ الأنظمةِ الديمقراطيّةِ المركزيّةِ بتكوين وَحداتٍ متجانِسةٍ تلتقي في ما بينَها لتحافظَ على وِحدةِ الأمّة".
لبنان اليومَ مدعوٌّ إلى الحفاظِ على وجودِه بإدارةِ الاختلاف، والتعدّديةِ، والفوارِقِ، والتحوّلاتِ، والتفاصيلِ، وأنماطِ الحياةِ. والرهانُ أن نَبنيَ من الشظايا المتفرِّقةِ دولةً واحدةً بـحُلَّةٍ جديدةٍ تَحمي الحضارة. نحتاجُ إلى رجلِ دولةٍ يُجيد الرسمَ على التضاريس.
اضف تعليق