مع نهاية الثمانينيات، انكمشت مجددا الطبقات الوسطى التي كانت النجاحات الاقتصادية والاجتماعية قد رسخت لوجودها وعادت الفجوات الساحقة بين الأغلبيات الفقيرة ومحدودة الدخل وبين الأقليات الغنية. بين 2011 و2012، هزت الانتفاضات الديمقراطية والاحتجاجات الاجتماعية أركان الحكم السلطوي في الجمهوريات العربية تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن....
بقلم: عمرو حمزاوي
مع نهاية الثمانينيات، انكمشت مجددا الطبقات الوسطى التي كانت النجاحات الاقتصادية والاجتماعية قد رسخت لوجودها وعادت الفجوات الساحقة بين الأغلبيات الفقيرة ومحدودة الدخل وبين الأقليات الغنية.
بين 2011 و2012، هزت الانتفاضات الديمقراطية والاحتجاجات الاجتماعية أركان الحكم السلطوي في الجمهوريات العربية تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن. بين 2013 و2018، تراجعت احتجاجات المواطنين المطالبة بالتغيير الديمقراطي وبالقضاء على الفساد وبالتوزيع العادل للثروة في الجمهوريات. في 2019، خرج الناس إلى الساحات العامة في السودان والجزائر والعراق ولبنان منددين بالفقر وبالمعاناة الاقتصادية للأغلبيات وداعين إلى الإزاحة الكاملة لنخب الحكم التي اعتاشت طويلا على الاستبداد والفساد والطائفية. بين 2011 و2019، إذا، طال الحراك الشعبي الجمهوريات العربية في شمال إفريقيا ووادي النيل والهلال الخصيب وجنوب الجزيرة ولم يستثن أيا من تلك الجمهوريات التي تأسست بين أربعينيات وستينيات القرن العشرين.
كانت حركات التحرر الوطني التي اجتاحت العالم العربي في أعقاب الحرب العالمية الأولى (1914-1918) وتمكنت بعد الحرب العالمية الثانية (1939-1945) من إجلاء المستعمر الأوروبي (البريطاني والفرنسي) قد نزعت إلى إعلان الجمهوريات إن لكي تملأ الفراغ السياسي الذي خلفه رحيل الإدارات الاستعمارية كما في سوريا ولبنان والجزائر أو للقضاء على ملكيات حاكمة أخفقت كما في مصر والسودان وتونس والعراق في إنجاز الاستقلال واستساغت الوجود في ظل هيمنة المستعمرين. وبينما قادت نخب مدنية حركات التحرر الوطني وشكلت حكومات ما بعد الاستقلال في بلدان مثل سوريا ولبنان وتونس، همش ضباط الجيوش في مصر والجزائر القوى الحزبية والسياسية التي شاركت في النضال ضد المستعمر وأحكموا قبضتهم العسكرية على الجمهوريات الحديثة.
إلا أن صعود ضباط الجيوش كحكام للجمهوريات امتد إلى أبعد من البلدان التي تصدى بها العسكريون لقيادة حركات التحرر الوطني ليشمل على سبيل المثال سوريا المستقلة عن الاستعمار الفرنسي والتي تكررت بها الانقلابات العسكرية طوال الخمسينيات والستينيات لتطيح بالنخب المدنية، والجمهورية العربية اليمنية التي أسسها في 1962 ضباط في الجيش على أنقاض المملكة المتوكلية وكثرت بها الانقلابات العسكرية خلال عقدي الستينيات والسبعينيات، وليبيا التي أطاح بها انقلاب معمر القذافي في 1969 بحكم الملك محمد إدريس السنوسي وأعلن الجمهورية. فقط في تونس ولبنان، لم يستطع العسكريون مناوءة حكم المدنيين الذي استقر سريعا في الأولى في ظل الزعامة التاريخية للحبيب بورقيبة واستند في الثاني إلى نظام المحاصصة الطائفية الذي ألزم الجيش شيئا من الابتعاد عن السياسة وشيئا من الاحترافية.
غير أن نخب الحكم المدنية والعسكرية تشابهت في إدارتها لشؤون المجتمع والسياسة والاقتصاد في الجمهوريات تعويلا على عقد اجتماعي شعبوي ذي مكونين رئيسيين: من جانب وعد الحكام بالتوزيع العادل للثروة وللموارد العامة على نحو يزيد من نصيب الفئات السكانية الفقيرة ومحدودة الدخل وبإتباع خطط تنموية تحسن مستوياتها المعيشية وتسمح لها عبر وسائط التعليم والتوظيف بالترقي الاجتماعي، ومن جانب آخر التزام هذه الفئات السكانية والتي شكلت الأغلبيات العددية في كافة الجمهوريات بتأييد الحكام كظهير مجتمعي لهم وبالامتناع عن المطالبة ببعض الحقوق والحريات العامة ومن بينها حرية التعبير عن الرأي والحق في الرقابة على الحكام عبر أدوات دولة القانون والتنازل عن الحق في التداول السلمي للسلطة عبر المشاركة في انتخابات دورية وتنافسية ونزيهة.
وأنتج تنزيل ذلك العقد الاجتماعي الشعبوي في الجمهوريات العربية نظما سلطوية استحوذ بها الحكام على صلاحيات مطلقة، وتحللوا هم ومؤسساتهم التنفيذية من مقتضيات الرقابة والمساءلة والمحاسبة، واستتبعوا بها المؤسسات التشريعية والقضائية والدينية، وجردوا التنظيمات الوسيطة كالنقابات العمالية والاتحادات المهنية والأحزاب السياسية (إن سمح للأخيرة بالوجود الشرعي) من الاستقلالية، وخصصوا موازنات هائلة للأجهزة الأمنية لضبط المجتمع إن ظهرت به القلاقل ولتعقب المواطنين إن هم خرجوا على «فريضة طاعة الحكام» أو لم يلزموا الصمت ويمتنعوا عن المعارضة.
صار بقاء الحكام في مناصبهم إما مرهونا بالمصائر الشخصية التي مدت في عمر رئيس وحدت من سنوات حياة آخر أو مرتبطا بحظوظ محاولات الانقلاب عليهم من النجاح أو الفشل. أما المواطنون فانتظرت أغلبياتهم الفقيرة ومحدودة الدخل وفاء الحكام بوعود التوزيع العادل للثروة ورفع المستويات المعيشية وفرص التعليم والتوظيف، وقبلت التضحية ببعض حقوقها وحرياتها العامة في سبيل الترقي الاجتماعي، وابتعدت عن تحدي النظم السلطوية انتظارا لغد أفضل وخوفا من تعقب وقمع محتملين.
استقرت، إذا، النظم السلطوية في الجمهوريات وتحول حكامها عملا إلى «رؤساء مدى الحياة» (معمر القذافي 1969-2011، محمد حسني مبارك 1981-2011، الحبيب بورقيبة 1957-1987، حافظ الأسد 1971-2000)، وصنعت من حولهم هالات القادة الملهمين والأبطال المنقذين، وتركت لهم الأغلبيات العربية شؤون السياسة والاقتصاد دون كثير معارضة. فقط في اللحظات التي شكت بها الأغلبيات بانقلاب الحكام على وعود التوزيع العادل للثروة أو بتملصهم من الالتزام بزيادة نصيب الفئات الفقيرة ومحدودة الدخل من الموارد العامة، فقط في هذه اللحظات خرجت الجماهير إلى الشارع للاحتجاج وطلب التغيير كما في انتفاضات الخبز في مصر 1977، وتونس 1984، والجزائر في 1984و1988.
وبينما لم يشذ عن قاعدة امتناع الأغلبيات عن المعارضة إلا في لحظات شيوع الشك لجهة التزام الحكام بشروط العقد الاجتماعي الشعبوي سوى السودان الذي شهد منذ استقلاله عن مصر وتأسيس جمهوريته في 1956 العديد من الانتفاضات المناهضة للاستبداد والمطالبة بالحكم الديمقراطي، شذ لبنان في سياق التوافقية الطائفية التي استند إليها نظام حكمه شيئا ما عن الطبيعة السلطوية على نحو ضمن لمواطنيه بعضا من الحقوق والحريات العامة المهدرة في الجمهوريات الأخرى (خاصة حرية التعبير عن الرأي والحريات الإعلامية والأكاديمية).
غير أن فاعلية العقد الاجتماعي الشعبوي في تنظيم العلاقة بين الحكام والمواطنين في الجمهوريات العربية بدأت في التراجع مع نهاية ثمانينيات القرن العشرين. فقد أعقب النجاحات الاقتصادية والاجتماعية في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات، وبالعقود الثلاثة انخفضت معدلات الفقر وامتدت خدمات التعليم والتوظيف والرعاية الصحية والتأمينات إلى الأغلبيات وتحسنت مستوياتها المعيشية وفرص ترقيها الاجتماعي، أعقبها تعثر بالغ للخطط التنموية وتبلور تدريجي لغضب المواطنين. ظهرت البطالة الفعلية كأزمة مزمنة مع عجز سوق العمل (بقطاعيها العام والخاص) عن توفير وظائف كافية للناس، وتحولت البطالة المقنعة التي رتبها توجه الحكومات للتوظيف الشامل لخريجي المدارس والجامعات في الدواوين والشركات العامة إلى كارثة مجتمعية مع التدهور المستمر في مداخيل الموظفين (والمقصود هنا هو التدهور النسبي للمداخيل قياسا إلى ارتفاعات أسعار السلع والخدمات) وانهيار جودة مرافق التعليم والصحة.
مع نهاية الثمانينيات، انكمشت مجددا الطبقات الوسطى التي كانت النجاحات الاقتصادية والاجتماعية قد رسخت لوجودها وعادت الفجوات الساحقة بين الأغلبيات الفقيرة ومحدودة الدخل وبين الأقليات الغنية لتصبح الواقع المجتمعي الطاغي إن في الجمهوريات الغنية بالموارد النفطية كالجزائر وليبيا والعراق أو في الجمهوريات التي اعتمدت في تسيير أمورها على شيء من التصنيع والزراعة وعلى مصادر ريعية أخرى (كان أبرزها تحويلات مواطنيها العاملين بالخارج ثم السياحة) كتونس ومصر وسوريا واليمن.
وعمقت من العثرات التنموية والتراجع الاقتصادي والأزمات المجتمعية ومن غضب المواطنين مجموعة إضافية من العوامل اختلف مداها من بلد إلى آخر كالفساد المستشري في الدواوين الحكومية والشركات العامة والقطاع الخاص، وتركز الثروة في أيادي نخب الحكم (العسكرية والمدنية على حد السواء) وحلفائها من نخب المؤسسات الاقتصادية والمالية، ومحدودية فاعلية إجراءات الرقابة والمساءلة والمحاسبة المنوط بها تعقب الفاسدين وحماية الموارد العامة من نهب المتنفذين.
مع نهاية الثمانينيات أيضا تصاعدت ضغوط المؤسسات النقدية العالمية والدولة الغربية المانحة على الجمهوريات العربية لإبعاد أياديها عن الاقتصاد، وتصفية الشركات العامة، وإطلاق قوى السوق، والتخلي عن التعليم المجاني والتوظيف الشامل والرعاية الصحية المدعومة والإبقاء على الإيجارات السكنية منخفضة القيمة والتسعير الجبري للسلع الاستهلاكية الأساسية وغيرها من السياسات التي نفذتها الجمهوريات بهدف إعادة توزيع الثورة وزيادة نصيب الأغلبيات. وأدى انهيار الاتحاد السوفييتي والمعسكر الاشتراكي بين 1989 و1991، وكلاهما قدم دعما اقتصاديا وماليا مؤثرا للعرب، إلى المزيد من ضغوط صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والمانحين الغربيين لكي تعتمد حزمة التوصيات هذه والتي صار يطلق عليها برامج الإصلاح الهيكلي من الجمهوريات العربية قبل أن تقدم مساعدات أو منح أو قروض. قبل بعض الحكام توصيات الغربيين وتحايل البعض الآخر عليها، إلا أن خليط العثرات التنموية والتراجع الاقتصادي والأزمات المجتمعية مع ما طبق من برامج الإصلاح الهيكلي أسقط العقد الاجتماعي الشعبوي الذي كان الخيط الناظم لعلاقة الحكام والمواطنين.
بين تسعينيات القرن العشرين والربيع الديمقراطي 2011-2012، تكررت انتفاضات الخبز والاحتجاجات الاجتماعية والحراك المعارض في الجمهوريات العربية وعبرت مشتركة عن أمرين متداخلين:
1) غضب الأغلبيات وتحللها التدريجي من التزامها بموجب العقد الاجتماعي الشعبوي بتأييد الحكام السلطويين كظهير مجتمعي وترك شؤون السياسة والاقتصاد لهم وانتقالها إلى المطالبة بالحقوق والحريات العامة المهدرة وبشيء من الانفتاح السياسي،
2) سعي الأغلبيات إلى الضغط على الحكام لتجديد التزامهم بالتوزيع العادل للثروة وبالسياسات الاقتصادية والاجتماعية المحابية للفئات الفقيرة ومحدودة الدخل ولقبول التفاوض حول شروط عقد اجتماعي بديل. بين تسعينيات القرن العشرين وانتفاضات 2011-2012، واجهت نخب الحكم السلطوية حراك الأغلبيات تارة بالقمع (كما في الجزائر باستثناء تجربة الانفتاح السياسي والانتخابات التنافسية التي ألغيت نتائجها 1988-1991 وفي سوريا باستثناء لحظة ربيع دمشق 2000-2001) وأخرى بالانفراجات الديمقراطية الجزئية (كما في استقرار التعدديات الحزبية المقيدة والانتخابات الدورية محدودة التنافسية في تونس ومصر واليمن منذ التسعينيات)، تارة بتقديم التنازلات الاقتصادية والاجتماعية للأغلبيات وأخرى بالتشبث بسياسات الإصلاح الهيكلي والتعويل إن على سطوة الطوائف كما في لبنان أو على القبضة الحديدية للأجهزة الأمنية كما في بقية الجمهوريات دون استثناء.
هي، إذا، حالة من الصراع المستمر بين نخب الحكم والأغلبيات تلك التي صاغت واقع الجمهوريات العربية منذ أن سقط العقد الاجتماعي الشعبوي وشرع الطرفان في البحث عن بدائل لتنظيم العلاقة بينهما. ولم تكن انتفاضات 2011-2012 وليست احتجاجات 2019 سوى ترجمة مباشرة للفشل المتواصل للحكام والأغلبيات في التوافق حول شروط وأثمان عقد اجتماعي جديد قد يبيح للجمهوريات من جهة التحلل من مسؤولياتها الأبوية تجاه الفئات الفقيرة ومحدودة الدخل ويحرر المواطنين من جهة أخرى من واجبات طاعة الحكام ويخضع هؤلاء لإجراءات الرقابة والمساءلة والمحاسبة.
اضف تعليق