تشارك، للمرّة الأولى، الجامعات العراقيّة والحوزات العلميّة في حراك شعبيّ مناهض للفساد وداع إلى تحقيق العدالة الاجتماعيّة، وهذا مؤشّر خطر بالنّسبة إلى الأحزاب السياسيّة الحاكمة في العراق. في الأوّل من كانون الأوّل الحاليّ، خرج الآلاف من طلاّب الجامعات العراقيّة بمسيرات كبيرة توجّهت إلى ساحات الاحتجاج...
بقلم: مصطفى سعدون
تشارك، للمرّة الأولى، الجامعات العراقيّة والحوزات العلميّة في حراك شعبيّ مناهض للفساد وداع إلى تحقيق العدالة الاجتماعيّة، وهذا مؤشّر خطر بالنّسبة إلى الأحزاب السياسيّة الحاكمة في العراق.
في الأوّل من كانون الأوّل/ديسمبر الحاليّ، خرج الآلاف من طلاّب الجامعات العراقيّة بمسيرات كبيرة توجّهت إلى ساحات الاحتجاج في المحافظات، تضامناً مع الضحايا الذين سقطوا أثناء التظاهر. وأسهمت هذه المشاركة ومشاركات أخرى لطلاّب الجامعات، في إدامة زخم الاحتجاجات.
لم يذهب الكثير من طلاّب الجامعات إلى جامعاتهم، منذ الخامس والعشرين من تشرين الأوّل/أكتوبر، وبقوا في ساحة التحرير ببغداد وبقيّة ساحات الاحتجاجات في المحافظات الأخرى، فهم يعتقدون ضرورة البقاء في الساحات لتحقيق مطالبهم، ثمّ العودة إلى المقاعد الدراسيّة.
هذه هي المرّة الأولى منذ عام 2003، التي تخرج فيها احتجاجات منظّمة من الجامعات العراقيّة وتشارك في إدامة زخم الأعداد ميدانيّاً. ففي أبرز حركتين احتجاجيّتين خلال عاميّ 2011 و2015، لم يكن للجامعات حضور رسميّ أو حتّى مشاركة ولو عن بعد، وكان المحتجّون حينها يوجّهون انتقادات لها.
لم تقتصر المشاركة على طلاّب الجامعات الموجودة في المحافظات المحتجّة، بل شاركت الجامعات في محافظات كركوك ونينوى وصلاح الدين، وحتّى الأنبار، منذ منتصف تشرين الثاني/نوفمبر بوقفات احتجاجيّة، وجازفت جامعة الأنبار بوقفة تضامنيّة بعد تهديدات مبطّنة من قبل السلطات الأمنيّة هناك بعدم الخروج في تظاهرات مؤيّدة، بحسب نشطاء في المجتمع المدنيّ وطلاّب في المحافظة تحدّثوا لـ"المونيتور".
ورغم الإجراءات الصارمة التي اتّخذتها وزارة التعليم العالي والبحث العلميّ لمنع الطلاّب من المشاركة في الاحتجاجات، إلاّ أنّهم واظبوا، وبشكل مستمرّ، على إدامة الزخم، مخاطرين بمستقبلهم التعليميّ الذي قد يخسرونه بعد أن أعلنت الوزارة أنّها "ستقوم بفتح سجلاّت لحضور الطلاّب داخل الأقسام والمحاضرات، وذلك لإخلاء مسؤوليّة الوزارة ومؤسّساتها التعليميّة، ممّا قد يلحق بالطلاّب أثناء تواجدهم في الاعتصامات".
وأشار طالب في كليّة العلوم السياسيّة بجامعة بغداد، رفض ذكر اسمه خوفاً من معاقبته، إلى أنّه "يعتصم في ساحة التحرير ببغداد منذ الخامس والعشرين من تشرين الأوّل/أكتوبر الماضي، ولم يحضر إلى الجامعة سوى أيّام قليلة لا تتجاوز الأسبوع"، وقال لـ"المونيتور": "نحن أمام فرصة لا تعوّض لإنقاذ بلادنا، وتأخّرنا لأشهر في الدراسة لا يعني نهاية الحياة، بل نهاية الحياة هي عندما تتخاذل في المشاركة بالاحتجاجات والتهاون مع المخاطر التي قد تلحق بالبلاد إذا بقينا ساكتين. ربّما أفصل من الدراسة وربّما تتمّ معاقبتي، لكن هذا لا يهمّني، ما يهمني هو أن تنجح ثورتنا".
إنّ طلاّب الدراسات العليا في جامعة بغداد شاركوا أيضاً بالاحتجاجات، الأمر الذي يؤشّر إلى أنّ المشاركة لم تقتصر على طلاّب الدراسات الأوليّة، وهذا يشكّل خطراً بالنّسبة إلى السلطة التي أيقنت خلال السنوات الماضية أنّ الجامعات صارت مؤمّنة من ناحية التفاعل مع القضايا العامّة، خصوصاً أنّ أحزاباً سياسيّة عراقيّة تسيطر على إداراتها وطواقمها الأمنيّة أيضاً.
الصدمة الأكبر بالنّسبة إلى الأحزاب الحاكمة في العراق، خصوصاً الشيعيّة منها، هي مشاركة طلاّب الحوزة العلميّة في محافظتيّ النّجف وكربلاء في الاحتجاجات وفي تقديم الدعم إلى المعتصمين مثلما حدث بمحافظة المثنى في الثاني من كانون الأوّل/ديسمبر الحاليّ، والأبعد من ذلك، يؤكّد أساتذة الحوزة دعمهم الصريح والواضح للاحتجاجات.
وفي الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر، خرج المئات من طلاّب الحوزة في محافظة كربلاء بتظاهرة تدعم مطالب المحتجّين في المحافظة والمحافظات الأخرى، وعلى الأغلب أنّ هؤلاء الطلاّب هم من مُقلّدي المرجع الدينيّ الشيعيّ الأعلى السيّد علي السيستاني، الذي بدا دعمه الواضح والصريح للاحتجاجات في العراق.
وقبلهم في الثامن والعشرين من تشرين الأوّل/أكتوبر، شارك طلاّب الحوزة العلميّة في محافظة النّجف، حيث المقرّ الأساسيّ للحوزات الشيعيّة في العالم، بتظاهرة مماثلة لتلك التي خرجت في كربلاء. وكان طلاّب الحوزة يرفعون شعارات ولافتات تؤيّد الاحتجاجات في العراق وتدعم مطالب المحتجّين.
والحوزة العلميّة، هي مراكز دراسات لطلاّب العلوم الدينيّة من أتباع المذهب الشيعيّ في العالم، وتعدّ النّجف المعقل الأساسيّ لهؤلاء الطلاّب الذين لا تقتصر جنسيّاتهم على العراقيّة فحسب، بل يأتون من أنحاء العالم كافّة.
وقال رجل الدين الشيعيّ رئيس مجلس إدارة مؤسّسة "النبأ للثقافة والإعلام" الشيخ مرتضى معاش، خلال مقابلة مع "المونيتور": "إنّ احتجاجات تشرين الأوّل/أكتوبر مثّلت حركة شعبيّة شبابيّة تهدف إلى رفع الظلم والحيف الذي شمل كلّ الشعب العراقيّ. ولذلك، كانت تلزم الوظيفة الشرعيّة المرجعيّات الدينيّة والمؤسّسات الدينيّة ورجال الدين الوقوف بجانب المظلومين والدفاع عن حقوقهم المشروعة وكرامتهم الإنسانيّة".
أضاف: "حثّت المرجعيّات الدينيّة، وخصوصاً مرجعيّة السيستاني، على بناء دولة مواطنة تقوم على أسس حريّة التعبير وشرعيّة الحكومة من خلال شرعيّة رضا الشعب، وصناديق الانتخاب النزيهة، وقوانين تخدم المواطن، والاستقلال السياسيّ والاكتفاء الذاتيّ، لكن هناك من السياسيّين والجماعات من انقلب على الشرعيّة الشعبيّة من خلال التلاعب بالعمليّة الانتخابيّة والاستئثار بالسلطة والامتيازات واستغلال النفوذ وتعميق التبعيّة".
وفي السابع والعشرين من تشرين الأوّل/أكتوبر، أعلنت الحوزة العلميّة في محافظة النّجف، تعطيل دوامها، وقالت: "إنّ الحوزة بمراجعها العظام وأساتذتها الكرام وطلاّبها الفضلاء وتضامناً مع المتظاهرين من شباب العراق ووفاء لدماء الشهداء الأبرياء ودعماً للمطالب المشروعة، تقرّر تعطيل جميع الدروس في الأيّام القادمة".
وبشأن تعطيل الدوام في الحوزات، أشار مرتضى معاش إلى أنّ "تعطيل الدروس في الحوزات كان موقفاً واضحاً في شرعيّة الاحتجاجات وإدانة الفساد والاستبداد، وتضامناً مع الشباب في المطالبة بحريّتهم وكرامتهم وبناء وطن نزيه".
تواجه الأحزاب السياسيّة في العراق غضباً شعبيّاً ومؤسساتيّاً، فمشاركة طلاّب الجامعات والحوزة العلميّة في الاحتجاجات، تعني أنّ المؤسّستين اصطفّتا مع الشعب، رغم محاولات تلك الأحزاب طيلة السنوات الماضية تحييدهما عن القضايا العامّة، خصوصاً تلك المتعلّقة بالحريّات والعدالة الاجتماعيّة.
اضف تعليق