تحاول السعودية إحالة اختفاء الصحفي خاشقجي الى السر المجهول وعدم المعلوم بالنسبة للدولة السعودية، وهي محاولة تعبر عن النفي المستمر في سياساتها، أو هكذا تريد أن يستوحي المتلقي الدولي تفسيره لحالة اختفاء خاشقجي، وهي لاتهتم بالمتلقي العربي والسعودي لأنه لا يملك القرار ولا يشكل موقعا...
تحاول الدولة السعودية إحالة اختفاء الصحفي جمال خاشقجي الى السر المجهول وعدم المعلوم بالنسبة للدولة السعودية، وهي محاولة تعبر عن النفي المستمر في سياساتها، أو هكذا تريد أن يستوحي المتلقي – الدولي تفسيره لحالة اختفاء خاشقجي، وهي لاتهتم بالمتلقي العربي والسعودي لأنه لا يملك القرار ولا يشكل موقعا مؤثرا في القرار السياسي السعودي، اضافة الى التجاهل العربي على الصعيد الرسمي والشعبي لأزمة خاشقجي، ما عدا دوائر جماعة الاخوان المسلمين الذي يصنف خاشقجي ضمن خاناتها الاعلامية.
ويشكل الاحتماء بالنفي ممارسة مستمرة تلجأ اليها أنظمة الدكتاتورية والاستبداد التي تتكأ دائما على سياسات النفي المستمر لقضايا الوطن والشعب، وهكذا تنفي الدولة السعودية مسؤوليتها عن اختفاء خاشقجي.
لكن محاولات البحث عن السر في اختفائه بالنسبة للمتلقي الدولي -دول كبرى ومؤسسات اعلامية وجهات رسمية وشعبية- عبرت عن التشكيك بالنفي السعودي وهي بانتظار نتائج التحقيق التي تكاد تجزم بمسؤولية الدولة السعودية عن اختفاء خاشقجي.
لكن بالنسبة للمحلل السياسي والمتابع للحدث المتوتر في المنطقة فأن حدث اختفاء خاشقجي يتسبب أو متسبب عن المعارضة السياسية في دول لا تؤمن بمعارضتها على صعيد سياساتها الداخلية والخارجية، ورغم ادعاء الاعلام السعودي بأن خاشقجي لم يكن معارضا سياسيا وانما يحمل رأيا مخالفا للنظام السياسي في الدولة السعودية، لكن مجرد حمل رأي آخر يعد مخالفة سياسية وقانونية تتعلق بطاعة ولي الامر في الذهن السياسي السعودي والخطاب الاعلامي الناطق رسميا باسمه، وبذلك تسجل أولى علامات عدم الرضا السياسي الذي تكون عواقبه معروفة في ظل أنظمة الدكتاتورية والقمع في عالمنا.
وتوقعات العقوبات في دولنا ومجتمعاتنا تقود دائما أصحاب الرأي المخالف سياسيا وثقافيا الى الخوض في المناطق الرمادية التي يتموضع فيها هذا الرأي أو صاحبه بين الجرأة والتردد، وهو ماكان عليه خاشقجي في علاقته بالنظام السعودي بعد استيلاء ولي العهد محمد بن سلمان على السلطة والنفوذ في المملكة وبتأييد ومؤازرة أبيه الملك سلمان، وفي تلك المنطقة الرمادية ظهر خاشقجي على قناة الـ بي بي سي وهو يعوذ بالله أن يكون معارضا للدولة السعودية وكان يتحدث عن سياسات محمد بن سلمان الاصلاحية ويقترح عليه اتمامها وتوسيع شمولها لقضايا حرية الرأي والكف عن حملات الاعتقالات التي نظمها ولي العهد منذ تسلمه مقاليد الأمور في المملكة.
وطبعا كان مضمون مطالبات خاشقجي وانتقاداته هي الحملة الامنية الاقتصادية والسياسية في الدولة السعودية والمنفذة على صعيد الأمن الاقتصادي باعتقال مجموعة كبيرة ومهمة من رجال الاعمال وأصحاب الرأسمال من السعوديين والمقيمين، وقد تزامنت مع احتجاز رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري أو هي جزء منها.
وأما على صعيد الأمن السياسي فإن حملة الاعتقالات شملت رجال دين ورموز دينية سنية محسوبة على جماعة الاخوان المسلمين من السعوديين وصنفوا من قادة الأفكار الجهادية في المنطقة، وكان خاشقجي على صلة وثيقة بكلتا المجموعتين المعتقلتين في سجون وفنادق الدولة السعودية مما تسبب في حراجة العلاقة بين خاشقجي والنظام السياسي السعودي، لكنها لم تكن تستدعي كل تلك المجازفة السعودية باحتجاز خاشقجي واخفائه اثناء دخوله الى القنصلية السعودية في اسطنبول او التخطيط لاستدراج خاشقجي الى البلاد لغرض اعتقاله وتصفيته وبأمر مباشر من ولي العهد، كما نقلت الخبر الواشنطن بوست.
لكن الظهور المتكرر لخاشقجي في الاعلام الاميركي وكتابة عمود خاص به في جريدة الواشنطن بوست وانخراطه في عملية المطالبات الغربية بحقوق الانسان التي تشن بين فترة وأخرى تجاه المملكة العربية السعودية، هو ما اثار قلق السلطات السعودية تجاه خاشقجي وعلى راسها ولي العهد الذي انصب اهتمامه السياسي الاخير على تحسين صورة الدولة السعودية امام العالم في مجال حقوق الانسان، وكانت أخر مبادرات خاشقجي في مطالباته وممارساته السياسية هي استكمال الموافقات الرسمية في الولايات المتحدة الاميركية على تشكيل "منظمة الديمقراطية للوطن العربي الآن"، وقد تحدثت قناة الجزيرة عن سعي خاشقجي تصحيح وتكملة مسارات الربيع العربي ذي التوجه الاخواني من خلال هذه المنظمة المدعومة من مؤسسات أميركية تعمل في مجالات نشر الديمقراطية في العالم، وهو ما جعل بقاء خاشقجي في الخارج أو حتى بقائه على قيد الحياة مصدر خطر بالنسبة للدولة السعودية وفق سياسات محمد بن سلمان التي تستند الى تصفية الخصوم وبلا تردد، وقد صنفت خاشقجي على اثر ذلك كخصم يجب تصفيته قبل ان تتسبب الديمقراطية او المطالبة بها في بلد مثل السعودية بتصفية النظام السياسي فيها مثلما حدث مع أنظمة الدول العربية الدكتاتورية التي اجتاحتها حركة الربيع العربي.
ويبدو ان ولي العهد السعودي كان يدرك أو يراهن على قدرته على اجتياز الأزمة ان حدثت بعد تصفية الصحفي السعودي خاشقجي، فالرئيس ترامب يمكن احراز صمته وتجاهله لقضية خاشقجي بواسطة صفقة مال تقدمها السعودية الى ترامب النهم بشدة تجاه المال السعودي، لاسيما وأنه كرر مطالبته للسعودية في الفترة الأخيرة بدفع الأموال مقابل الحماية التي توفرها أميركا للدولة السعودية، وقد تكررت تصريحاته للمرة الرابعة في 11/10 حول هذه المطالب في مقابلة مع قناة نيو فوكس الاميركية، وتزامنت مع أزمة خاشقجي التي بدت محرجة للدولة السعودية، وقد بدا ترامب متأثرا بشكل دبلوماسي وليس سياسيا بقضية اختفاء خاشقجي، وادعى مشاركة أميركيين في التحقيقات التركية لمعرفة مصير خاشقجي، وهو ما نفته وزارة الخارجية التركية.
وتكشف مبادرة محمد بن سلمان باتصاله بكوشنر صهر ترامب واتصاله كذلك بوزير خارجية اميركا بومبيو وفق ما نقلته قناة السي أن أن الاميركية عن اهتمام المملكة السعودية بالموقف الاميركي الذي تعيره أهمية فائقة في محصلات الأزمة التي تمر بها، لا سيما ما يتعلق بالتسليح العسكري للمملكة وضمان الأمن من القلق السياسي الذي ينتابها دائما تجاه الديمقراطية، وهو ما يمكن تأمينه بواسطة ارضاء رغبات ترامب بربح المال السعودي.
وقد عقد ترامب مؤتمرا صحفيا في المكتب البيضاوي في 11/10 أكد فيه انه لا يريد ان يتوقف تدفق المال السعودي لاسيما ان هناك صفقة بقيمة 110 مليار دولار لا يريد ترامب أن تذهب الى روسيا او الصين، ورغم انه صرح قبل ذلك لقناة نيو فوكس انه لا يمكن مناقشة مسألة تسليح المملكة السعودية قبل مناقشة ومعرفة مصير خاشقجي، الا انه تراجع عن موقفه هذا وصرح في مؤتمره الصحفي الأخير بأنه غير مستعد لحظر مبيعات الاسلحة الى السعودية بسبب أزمة جمال خاشقجي رغم ما نقلته صحيفة الواشنطن بوست ان الحكومة التركية ابلغت الإدارة الاميركية انها تمتلك تسجيلات سمعية وبصرية تؤكد قتل خاشقجي في القتصلية السعودية، لكن ادارة ترامب ضربت صفحا عن تلك المعلومات ولم تعرها أي أهمية. وكانت تلك اللامبالاة الاميركية تجاه هذه التقارير التركية مبعث اطمئنان للدولة السعودية على نظامها السياسي الدكتاتوري والقمعي.
وكانت تصريحات ترامب الأخيرة في المؤتمر الصحفي في المكتب البيضاوي جاءت في أعقاب اتصالات ولي العهد السعودي بمستشار ترامب وصهره كوشنر ووزير خارجيته بومبو ومناقشة أزمة خاشقجي، وقد نجحت سياسة ابتزاز ترامب للدولة السعودية وكان جزء من سياسة ترامب هذه عدم اتخاذ أي إجراءات حمائية للصحفي خاشقجي مع حصول وكالة الاستخبارات الاميركية وفق قناة الجزيرة على معلومات تفيد بمخطط سعودي مدبر ضد خاشقجي، وكان يهدف ترامب بامتناعه عن حماية خاشقجي الى توريط المملكة السعودية بمثل هذه الحماقة السياسية والحقوقية.
لكن بنفس الوقت فرضت سياسة ترامب هذه اجراءات حمائية للنظام السياسي السعودي وشكلت عنصرا مهما للأمن السياسي السعودي من القلق تجاه حركة وانتشار الديمقراطية في العالم العربي واحتمال عودة الربيع العربي من جديد على يد الجماعات والدول المنافسة والمتحدية للمملكة السعودية والذي كانت تطمح الى اعادته على مايبدو منظمة خاشقجي "منظمة الديقراطية للوطن العربي الآن" وما تثيره كلمة "الآن" من قلق سياسي سعودي حول التسريع بهذا الربيع المدمر للأنظمة والدول بنفس الآن.
لكن السؤال الى أي مدى يستطيع ترامب ان يقوم بهذا الدور في تأمين النظام السياسي السعودي بإزاء الديمقراطية ومواجهة الاحتجاج الاعلامي والصحفي الاميركي على السياسات السعودية وعلى مستوى كبريات الصحف الاميركية لاسيما الواشنطن بوست التي يكتب فيها خاشقجي، وقد تزعمت تلك الصحيفة الحملة المناوئة للمملكة السعودية وسياسات ولي العهد السعودي في مجال حقوق الانسان وحرية التعبير عن الرأي مع ملاحظة العداء المستحكم بين المؤسسات الاعلامية والصحفية الكبرى الاميركية والرئيس ترامب.
وهي ستشكل على المدى البعيد قلقا دائبا للدولة السعودية في مجالات حقوق الانسان وشبح الديمقراطية الذي يبعث على القلق الدائم بالنسبة للأنظمة الدكتاتورية والاستبدادية في المنطقة لا سيما اذا اتصل ذلك التهديد او القلق بالضغط والابتزاز الذي تمارسه الادارة الاميركية بحق دول المنطقة في مجالات حقوق الانسان والديمقراطية، وهو ما بدا واضحا في الابتزاز الذي مارسه ترامب بحق الدولة السعودية بين التصعيد على صعيد المطالبة بالكشف عن مصير خاشقجي وامتلاكه من المعلومات عن مصيره ما لا يعرفه الأخرون او الدفع بالعاجل للولايات المتحدة الأميركية، وهو ما اختارته الدولة السعودية من اجل تأمين القلق السياسي السعودي من الديمقراطية.
ولكن الى أي مدى ستظل الدولة السعودية تدفع للرئيس ترامب من أجل هذا الأمن الزائف؟
اضف تعليق