ويشير التاريخ والديناميات السياسية الأساسية بأن موقف إيران المتحدّي من المفاوضات سوف يلين قبل مرور فترة طويلة، ومن الممكن تماماً توقع التوصل إلى اتفاق بين الجانبين. ومع ذلك، لن تكون جولة المفاوضات الأمريكية -الإيرانية المقبلة شبيهةً على الإطلاق بالجولة الأولى - ومن المرجح أن يلعب...
دينيس روس

 

لا يزال الاتفاق النووي الإيراني يستقطب الأنظار حتى في آخرته. فالأطراف المؤيدة له تجاهر بأن إيران لن تتفاوض أبداً على أي تعديل له، في حين يجادل معارضوه بأن قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالانسحاب منه سيؤدي إلى إبرام اتفاق أفضل.

ويبدو أن ترامب نفسه يؤمن بإمكانية عقد اتفاق أفضل بعد أن كان قد عرض مؤخراً التحاور مع الجانب الإيراني دون شروط مسبقة. بيد أن المرشد الأعلى علي خامنئي أشار إلى عدم موافقته حين صرّح قائلاً: "أنا أحظّر إجراء أي محادثات مع أمريكا... فأمريكا لا تلتزم بوعودها بتاتاً". وقد جاء هذا الحظر بعد أن كان قائد «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني اللواء محمد علي جعفري قد أصرّ على أن "الشعب الإيراني لن يسمح أبداً لمسؤوليه بالاجتماع والتفاوض مع الشيطان الأكبر، فنحن لسنا كوريا الشمالية".

ويبدو هذا الكلام حاداً، لكنني أعتقد أن مؤيدي ترامب هم بأفضل حال. ويشير التاريخ والديناميات السياسية الأساسية بأن موقف إيران المتحدّي من المفاوضات سوف يلين قبل مرور فترة طويلة، ومن الممكن تماماً توقع التوصل إلى اتفاق بين الجانبين. ومع ذلك، لن تكون جولة المفاوضات الأمريكية -الإيرانية المقبلة شبيهةً على الإطلاق بالجولة الأولى - ومن المرجح أن يلعب فيها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين دوراً أساسياً كصانع سلام.

لكن لندحض أولاً بعض الافتراضات الخاطئة لدى الجانب الأمريكي. فإشارة اللواء جعفري إلى كوريا الشمالية معبّرة، لأن إيران لا تعمل منفردةً من جهة، ولأن ترامب يعتقد على ما يبدو أن أسلوب "الضغط الأقصى" الذي اتبعه قد أفلح مع كوريا الشمالية وقد يفلح مع إيران من جهة أخرى. وبغضّ النظر عمّا إذا كان قد أفلح أم لا، فإن الحالتين مختلفتان تماماً. فحول كوريا الشمالية، كان هناك إجماعٌ دولي قوي على ضرورة وضع حد للبرنامج النووي للنظام - وإدارة ترامب حشدت الدعم اللازم لفرض عقوبات جديدة وأكثر صرامة.

أما حول إيران، فعلى النقيض من ذلك، عمل الرئيس الأمريكي على إفساد توافق الآراء الدولي من خلال الانسحاب من الاتفاق النووي. ومن الصعب وضع أقصى قدر من الضغط عندما تعارض الحكومات الأخرى، لا سيما الحلفاء الأوروبيين للولايات المتحدة، المساعي الأمريكية وتقرّ تشريعات هدفها حماية شركاتها من العقوبات الأمريكية الناجمة عن التعامل مع إيران. وعلى الأقل، لن يكون حلفاء واشنطن والأطراف الأخرى متيقظين لسد الثغرات في نظام العقوبات ومنع الإيرانيين من التهرب من العقوبات - وهي ممارسة صقلوها بمرور الوقت.

وبذلك، تذهب خطة الضغط الأقصى في مهب الريح. وفي الواقع، مع ارتفاع أسعار النفط، من المحتمل أن تتمكن إيران من استعادة خسائر الإيرادات التي قد تتكبدها حين تطبّق الإدارة الأمريكية الجولة الثانية من العقوبات في الرابع من تشرين الثاني/نوفمبر - تلك العقوبات التي تقتضي من الدول خفض مشترياتها النفطية من إيران أو المخاطرة بعدم القدرة على ممارسة أعمال تجارية مع الولايات المتحدة.

ولكن قبل التسليم ببساطة بالفكرة بأن إيران لا تحتاج إلى التفاوض على تعديل الاتفاق النووي - ولن تُقدِم على ذلك - حريٌّ بنا الأخذ بالنقاط التالية. أولاً، على الرغم من لوائح الحظر الجديدة التي تبناها الاتحاد الأوروبي، تقوم المصارف والشركات الأوروبية بالانسحاب من إيران. وعندما تواجه خيار ممارسة الأعمال التجارية مع الولايات المتحدة أو إيران، ليس هناك خيار آخر. وبالفعل، انسحبت شركات كبرى في قطاعات الطاقة والسيارات والشحن أمثال "توتال" و"بيجو" و"ميرسك"، بالإضافة إلى عدة مصارف، منها البنك الألماني "دويتشه بنك". وستتصرف البنوك والشركات المتعددة الجنسيات بما يخدم مصالحها، لا بما تمليه عليها حكوماتها.

ثانياً، كان الاقتصاد الإيراني يترنح، حتى قبل إعادة فرض الجولة الأولى من العقوبات في 6 آب/أغسطس. فالعملة الإيرانية خسرت نصف قيمتها منذ شهر نيسان/أبريل، مما يعني أن قيمة الحسابات في المصارف الإيرانية أصبحت تساوي نصف ما كانت عليه آنذاك، والشعب الإيراني مستاءٌ بطبيعة الحال. ويعبّر عن عدم رضاه منذ كانون الأول/ديسمبر الماضي - أي قبل فترة طويلة من انسحاب ترامب من الاتفاق النووي - في تظاهرات واسعة النطاق ضد مغامرات النظام الخارجية وسوء إدارته وفساده المنتشر. وتتزايد الإضرابات، مع قيام البائعين في بازار طهران بالتوقف عن العمل في 25 حزيران/يونيو. كما أضرب سائقو الشاحنات عن العمل في جميع أنحاء البلاد خلال تموز/يوليو، وفي الآونة الأخيرة، تم استدعاء شرطة مكافحة الشغب ردّاً على الإضرابات التي وقعت في مشهد وأصفهان ورشت وأهواز وخرج، علماً بأن جميع هذه المدن - باستثناء أهواز - هي مدن محافِظة وعادة ما تكون داعمة للنظام الإيراني. ولكنها لم تعد كذلك، فالمتظاهرون الغاضبون يحملون لافتاتٍ تقول "الموت لفلسطين" و"لا لغزة، لا للبنان" و"الموت للديكتاتور". فهم يريدون أن تُنفَق الأموال لتلبيةً احتياجاتهم، لا أن تُصرَف المليارات لإنقاذ الرئيس السوري بشار الأسد أو لدعم «حزب الله» أو حركة «حماس». ولا بد أن هذا الأمر يسبب القلق لنظامٍ يعتمد استقراره على الخوف ونوعٍ من الشرعية الشعبية الظاهرية.

ثالثاً، عندما يشعر النظام بالضغط حقاً، يأتي ردّه التاريخي بتغيير سلوكه. فالمرشد الأعلى الأول في الجمهورية الإسلامية آية الله روح الله الخميني ادّعى بأن إيران ستحارب العراق بقدر ما يلزم لهزيمته، ولكنه مع ذلك أنهى الحرب في آب/أغسطس 1988 عندما دمّرت القوات الأمريكية في الخليج سفن بحرية ومنصات نفطية إيرانية، وأسقطت خطأً طائرة مدنية إيرانية - ظاهرياً لدعم صدام حسين. وفي تسعينيات القرن المنصرم، توقفت إيران عن قتل معارضيها في أوروبا عندما هددتها ألمانيا بفرض عقوبات. وبعد أن هزمت الولايات المتحدة جيش صدام حسين عام 2003، وحيث خشيت إيران أن تكون هي القادمة، طرح النظام الإيراني عروضاً مكثفة للحد من برنامجه النووي ودعمه لكل من «حزب الله» و«حماس». ثم بعد أن كان الجانب الإيراني قد صرّح بأنه لن يتفاوض مطلقاً بشأن برنامجه النووي طالما أنه يخضع للعقوبات - وقيام إدارة أوباما بمضاعفة العقوبات - قام الإيرانيون بالتفاوض.

ويوحي كل ذلك بأنه مع تعثر الاقتصاد وازدياد الضغوط في إيران، سيبحث النظام عن مخرج وسيكون مستعداً للحوار في الوقت المناسب. في المقابل، سيشعر الإيرانيون ببعض الرفاهية مع بلوغ سعر برميل النفط ما يزيد عن 70 دولاراً خصوصاً وأن ميزانيتهم كانت قائمة على 55 دولاراً للبرميل الواحد. بالإضافة إلى ذلك، سيتريّث القادة الإيرانيين بانتظار معرفة مقدار تراجع مشتريات النفط الإيراني من قبل المشترين الأوروبيين وما إذا كان سيحل محلهم آخرون.

ومع ذلك، فمن المرجح أن تبحث إيران عن وسيلة للحوار - ليس بشكل مباشر، لأن ذلك سيبدو وكأنه استسلام. وبدلاً من ذلك، من المحتمل أن يقترب قادة إيران من الروس في أوائل العام المقبل. فهم يلاحظون كيفية ارتباط ترامب ببوتين، ومع اهتمام بوتين بإبراز النفوذ الروسي على الساحة العالمية، سيضطلع بسرورٍ بدور الوسيط بين الولايات المتحدة وإيران. (على الأقل لأن بوتين سيكون متلهفاً على الأرجح بأن تتضمن تلك المحادثات مناقشات حول مستقبل سوريا).

بإمكان المرء أن يتصوّر بوتين - ربما في اجتماعه المرتقب مع ترامب في أوائل عام 2019 - يقدّم اقتراحاً بتوسيع قيود الاتفاق النووي على أجهزة الطرد المركزي الإيرانية والمواد المخصّبة عبر تمديد فترتها لمدة 10 إلى 15 عاماً مقابل إلغاء الولايات المتحدة جميع عقوباتها. بمعنى آخر، تقوم الولايات المتحدة بإسقاط كافة عقوباتها الحالية - النووية وغير النووية - مقابل تمديد القيود على برنامج التخصيب الإيراني من عام 2030 حتى عام 2045، وبالتالي لن يكون هناك أي غموض بشأن قدرة إيران على التعامل مع المصارف الأمريكية.

من الناحية النظرية، لا يرقى هذا الاقتراح إلى مستوى موقف إدارة ترامب الذي عبّر عنه وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو في مطالبه الإثني عشر من الإيرانيين - وهي مطالب لا تقتصر على إنهاء برنامج التخصيب النووي، بل أيضاً على وضع حد للتهديدات الإيرانية وأعمالها المخلة بالاستقرار في المنطقة. ولكن إذا عرض بوتين مثل هذا الاقتراح وطرَحه على ترامب على انفراد، فمن الصعب الاعتقاد بأن الرئيس الأمريكي سيرفضه ببساطة، فثمة احتمال كبير بأن يرى فيه باباً - أو حتى "عرضاً لا يضاهى" أو صفةً مفرطة أخرى.

حريٌّ بكل مَن يكون متأكد من أن الإيرانيين لن يتفاوضوا على أي تعديلات على الاتفاق النووي ألا يكون على يقين من ذلك. فالضغوط الداخلية والاستعداد الروسي للاضطلاع بدور الوساطة قد يشكلان منفذاً للإيرانيين. والتاريخ يوحي بأنهم سيوافقون على ذلك.

* دينيس روس هو مستشار وزميل "ويليام ديفيدسون" المتميز في معهد واشنطن والمقال نشر في فورين بوليسي

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق