فهل من الأفضل الانضمام إلى شركة مرموقة حيث الكثير من الموظفين اللامعين الذين يشعر المرء بضآلته مقارنة بهم، أم الأفضل أن يقنع بالعمل بشركة مغمورة بعض الشيء حيث يتميز بقدراته مقارنة بالآخرين؟ تمثل الساحرة المستديرة ساحة فضلى لاختبار تلك النظرية، إذ تعتقد جي غونغ، الباحثة...
ديفيد روبسون-صحفي
ليس من المفيد دائما أن تكون برفقة أشخاص موهوبين، بحسب دراسات استندت إلى خبرة عدد من الرياضيين.
قد تظن أن مشاهدة المباريات الحامية هذا الصيف شيء وحياتك المهنية شيء آخر. فما الذي يمكن أن يتعلمه معلم أو محام أو مهندس من صفوة الرياضيين مثل رحيم سترلينغ أو سيمونا هاليب؟
لكن هناك علماء يرون أن الأشخاص العاديين يمكنهم الاستفادة من خبرة كبار الرياضيين، وبالأخص لاعبي كرة القدم، في سعيهم إلى النجاح، وذلك في ظل ما يطلقون عليه نظرية "السمكة الكبيرة في البركة الصغيرة".
باختصار، تتعلق تلك النظرية بقياس إمكانياتنا مقارنة بمن حولنا. فهل من الأفضل الانضمام إلى شركة مرموقة حيث الكثير من الموظفين اللامعين الذين يشعر المرء بضآلته مقارنة بهم، أم الأفضل أن يقنع بالعمل بشركة مغمورة بعض الشيء حيث يتميز بقدراته مقارنة بالآخرين؟
تمثل الساحرة المستديرة ساحة فضلى لاختبار تلك النظرية، إذ تعتقد جي غونغ، الباحثة بالجامعة الوطنية بسنغافورة، أن "كرة القدم هي ساحة مختبر مثالية للتحقق من مصداقية الكثير من الأسئلة المتعلقة بالنجاح العملي". وهي تستند في ذلك إلى دراسة أجرتها مؤخرا على الدوري الإنجليزي الممتاز من خلال "رصد التاريخ الكروي لكل لاعب".
بدأت الأبحاث الأولى في ما يتعلق بتلك النظرية بملاحظة الطلاب في مدارس منتقاة، حيث يلتحقون بشعب مختلفة وفق قدراتهم. ففي المملكة المتحدة يخضع الكثير من التلاميذ لاختبار يعرف باسم "11- بلاس"، الذي يحدد ما إذا كان الطفل سيلتحق بمدرسة مرموقة بناء على قدراته الدراسية.
وقد تظن أن هذا النجاح يبرر دفع الأطفال لمزيد من الجهد للتحصيل الدراسي، ولكن للأسف البشر آفتهم الغيرة وكثيرا ما يعمدون لمقارنة أنفسهم بمن حولهم. وهذا يعني أن الطفل في "صف المتفوقين" - وهو هنا "سمكة صغيرة في بركة كبيرة" - غالبا ما تقل ثقته في قدراته، وذلك مقارنة بشخص بنفس القدرات لكن غير محاط بآخرين ذوي تحصيل فائق - حيث يكون بمثابة سمكة كبيرة في بركة صغيرة.
الثاني سيفعم بالثقة، بينما الأول سيشعر، وهو في صف المتفوقين، بالضآلة، بل وبالغباء، وهو ما يثبط همته ويقلل فرص نجاحه.
اشتهرت الأبحاث المتعلقة بتلك النظرية بفضل ما أورده الكاتب مالكوم غلادويل في كتابه "داود وجالوت". وفي الآونة الأخيرة، وثّق علماء أدلة ملموسة على التبعات طويلة الأجل التي تلحق بالشخص جراء المفاهيم التي تلتصق به.
ويقول بنجامين إلزنر الباحث بجامعة يونيفرستي كوليدج في دبلن بإيرلندا إن "البحوث السابقة لم تتبع المسار الذي اتخذه الأشخاص لاحقا في مجالي الدراسة والعمل".
ويستلهم إلزنر ما جاء في كتاب غلادويل للعمل على سد فجوة في فهمنا لتلك الظاهرة، إذ يبين أن ترتيب الطالب مقارنة بأقرانه في المدرسة الثانوية يؤشر على المسار الذي سيتخذه مستقبلا على صعيد مواصلة الدراسة والالتحاق بالجامعة من عدمه، ومن ثم ما سيكون عليه مشواره العملي.
فبالنظر إلى طفلين على نفس درجة الذكاء؛ أحدهما يبدو متوسطا أو أقل بين أقرانه بصف المتفوقين بالمدرسة؛ والآخر يحصل على درجات أعلى بكثير من محيطة بالفصل الأقل، يرجح بحث إلزنر أن الثاني سيواصل الدراسة ليحقق مراتب أعلى من الأول.
ومن خلال استبيانات مكثفة، خلص فريق إلزنر إلى أن المسار اللاحق ارتبط مباشرة بالتوقعات التي فرضها وضع الفرد ببيئته الدراسية؛ فـ"الذين تدنى ترتيبهم وسط أقرانهم لم يروا في أنفسهم إمكانية النجاح بمواصلة الدراسة والتقدم على صعيد العمل، ومن ثم ربما آثروا ترك الجامعة من الأساس".
وينطبق ذلك على أنشطة أخرى أيضا، إذ كشفت دراسات إلزنر أن الطلاب المتدني ترتيبهم في الصف رُجِح أكثر إقبالهم على التدخين واحتساء المشروبات الكحولية وممارسة الجنس دون استخدام الواقي الذكري، فضلا عن معاشرة المتمردين. في الوقت نفسه، فإن الطلاب في صف آخر أدنى في مستوى التنافسية رُجِح ألا ينخرطوا في مثل تلك الأنشطة التي تنطوي على مخاطر عالية.
ويقول إلزنر "حينما يرى المرء في نفسه أنه أفضل يسعى ألا تؤخر الأنشطة الضارة تقدمه، أما إن اعتقد أنه خائب لا محالة فلا ضير من ضرر على ضرر".
ورغم أن دراسة غونغ للدوري الإنجليزي لكرة القدم هي بين أول الدراسات التي تتطرق إلى نظرية "السمك والبركة" في مجال الرياضة، إلا أن الاعتقاد موجود منذ فترة طويلة بأثر تلك النظرية على النجاح الرياضي.
ومن ذلك دراسة أمريكية كندية رصدت البيئات التي نشأ فيها 2240 من الرياضيين المحترفين بالدوري الوطني للهوكي والرابطة الوطنية لكرة السلة والدوري الأول للبيسبول ورابطة محترفي الغولف.
وتوصلت الدراسة في كل الحالات إلى أن اللاعبين المحترفين في الأغلب نشأوا في بلدات صغيرة، حيث فرصتهم أفضل في التميز والوصول إلى قمة فريق صغير، عنها في المدن الكبرى.
ونحو نصف سكان الولايات المتحدة نشأوا في مدن يقل تعدادها عن نصف مليون نسمة ومع ذلك وجد الباحثون أن المدن الصغيرة قدمت نسبة 87 في المئة من لاعبي الدوري الوطني للهوكي، وكانت النسب مشابهة بالنسبة لدوري البيسبول ورابطة الغولف، أي كان تمثيل البيئات الأصغر أكبر بكثير من حجمها الفعلي على الخارطة - أما الوضع بالنسبة لرابطة كرة السلة فكان مقاربا بعض الشيء وليس بالكثير - بنسبة 71 في المئة للاعبين من المدن الصغيرة، وهي النسبة الأكثر من 20 في المئة من حجم التمثيل السكاني المقابل.
وهناك ما يدلل على أن لاعبي التنس المميزين هم أيضا في الغالب من مناطق سكانية أقل كثافة (ومثالان على ذلك هما رافاييل نادال وهو من بلدة ماناكور التي لا يتعدى سكانها 40 ألفا - وسلون ستيفنز الذي نشأ في مدينة فريزنو بكاليفورنيا حيث يقل عدد السكان عن نصف مليون).
وربما هناك عوامل كثيرة في نجاح المدن الأصغر في تقديم المواهب، فربما أفسحت مجالا أرحب لممارسة الرياضة بأمان منذ الطفولة مقارنة بالمدن الضخمة حيث الجريمة منتشرة. ومع ذلك لا يمكن إهمال عنصر السمك والبركة والأفق الذي يتيحه التميز كلاعب أفضل في فريق أصغر.
النتائج الأقوى في الساحة الرياضية هي تلك التي أمدتنا بها دراسة غونغ لكرة القدم الإنجليزية، إذ قارنت دراستها الفِرق التي بالكاد احتفظت بموقعها بالدوري الممتاز بتلك التي تقهقرت لتصنيف أقل - أي وجد لاعبوها أنفسهم من بركة أكبر إلى بركة أصغر.
ربما ظننتَ أن الفرق المتقهقرة سيعاني أفرادها الإحباط وعدم الثقة تماما كطالب لم ينجح في اختبار "11- بلاس" للالتحاق بمدرسة المتفوقين؛ غير أن دراسة غونغ وجدت غير ذلك. فرغم خسارة الفريق المتقهقر لبعض أفضل لاعبيه (وأغلاهم)، أتيح وقت أكثر للعب بنسب 12 في المئة للاعبين الباقين، وبالتالي كانت فرصتهم أكبر في المران وتحسين القدرات.
تقول غونغ "في السابق كانوا في صفوف الاحتياطي، أما الآن فقد وجدوا أنفسهم في المقدمة". ومثلت الخبرة الجديدة نفعا على المدى الأبعد بالنسبة لمشوارهم الكروي. "فبعد خمس إلى سبع سنوات من تراجعهم، جاءتهم الفرصة للعب في أندية أفضل وبمكافآت مالية ضخمة".
تؤكد غونغ أن تلك الفائدة عادت بالأساس على اللاعبين الأصغر سنا (ممن تراوحت أعمارهم بين 18 و24 عاما).
وتدلل على ذلك بمثال آندي كارول الذي بدأ مشواره الكروي كمهاجم بفريق نيوكاسل يونايتد عام 2006، "فقد لعب أكثر ما لعب كبديل - كان بالأساس لاعبا احتياطيا. ثم تقهقر الفريق، وتركه المهاجمون الأبرز، فترقى كارول وهو في العشرين من عمره".
وبحلول عام 2011 انتقل كارول إلى ليفربول وبات يحصل على 35 مليون جنيه إسترليني - وأصبح أغلى لاعب في أوانه.
مع الأسف يصعب جدا في الوقت الراهن تتبع خبرة الأفراد بأغلب المهن بهذا القدر من التفصيل، وبالتالي لا تتوافر أدلة كثيرة على انطباق تلك الآليات في مجالات أخرى غير الرياضة. تقول غونغ "لا تقدم المهن الأخرى البيانات الكافية لتوثيق هذا النمط".
لكن فريقها البحثي يعتقد بشدة أن نظرية السمك والبركة تنطبق على قطاعات أخرى شتى، خاصة القطاعات ذات التنافس الشرس، كالمحاماة والاستشارات الإدارية، حيث لا تتوقف المنافسة مع الأقران لإبراز من يتصدر المشهد.
وتقول غونغ "نعتقد أن هذه النظرية تنطبق في المهن التي يتم فيها التركيز على الصدارة، وحيث الفرصة محدودة للبروز في العمل. ففي مجال الاستشارات الإدارية عادة ما تُمنح التكليفات الأفضل للمستشار الأنجح، ولو انتهى بك الحال في مؤسسة كبرى وأنت متواضع القدرة فلن تجد الفرصة لمخالطة كبار العملاء".
وكما تبين دراسة غونغ للاعبي الدوري الممتاز، فتجربة السمكة ذات أهمية خاصة لمن هم في بداية مشوارهم - كالمتخرجين حديثا.
فالعمل كمتدرب في شركة مرموقة قد يبدو بداية لا غنى عنها، ولكن في الواقع ربما كان أقل فائدة مع الوقت عما لو أتقن المرء عمله ببطء؛ كأن يبدأ بالسباحة الضحلة قبل الدخول إلى العمق، واللعب مع الكبار.
اضف تعليق