هناك أدلة متزايدة على أنه لم يوجد في أي وقت من الأوقات شيء اسمه مؤامرة \"حصان طروادة\" في برمنغهام. فبعد ظهور العديد من التفنيدات القوية، وكشف
أقدمت صحيفتا "ذا صان" و"ديلي تلغراف" على التراجع عن ادعاءات سابقة بوجود مؤامرة لأسلمة المدارس في أولدهام، وهي بلدة واقعة في منطقة مانشستر شمال غرب إنجلترا. أما صحيفة "صانداي تايمز"، التي فجرت هذه القصة في البداية، فلم تعلن عن تراجعها لحد الآن، ولو بأي شكل من الأشكال. وقد ساهمت هذه القصص، التي انتشرت في شهر شباط/ فبراير من سنة 2017، في تعزيز النظرية السوداوية حول سعي الإسلاميين للسيطرة على المدارس البريطانية، متجاوزين مدارس برمنغهام نحو شمال غرب البلاد.
في تقرير لموقع ميدل ايست أي البريطاني كتبه الصحفي المخضرم بيتر أوبورن، يقول انه من المثير للانتباه أن هذه الاعتذارات جاءت في الأسبوع الذي تصدرت فيه سعيدة وارثي، التي استقالت من حكومة ديفيد كاميرون في آب/ أغسطس من سنة 2014 بسبب تجاهل الحكومة البريطانية لقطاع غزة، الجهود المبذولة لمواجهة ثقافة التقارير الصحفية الخاطئة حول المسلمين.
ويقول كاتب التقرير الذي ترجمه موقع "نون بوست"، انه خلال حديثها أمام لجنة الشؤون الداخلية في مجلس العموم البريطاني، اشتكت سعيدة وارثي من أنه لا أحد من السياسيين المعروفين في البلاد ألقى خطابا حول الأحكام المسبقة ضد المسلمين، منذ أن بادرت هي بهذه الخطوة سنة 2011. كما عرضت أيضا سلسلة من الأمثلة حول نقل الصحف لتقارير خاطئة حول المسلمين.
في هذا الصدد، وجهت وارثي نقدا لاذعا لهؤلاء، حيث ذكرت على سبيل المثال القصة التي نشرتها صحيفة "تايمز" في الصيف الماضي حول تبني أبوين مسلمين لطفل مسيحي. كما أكدت وارثي أن مثل هذه القصص "تسمم النقاش العام حول الجالية المسلمة، وتؤثر على طريقة تعامل السياسيين مع الإسلام". ومن المهم الإشارة إلى وجود نقطة أخرى هامة كانت غائبة في تدخل سعيدة وارثي.
إلى حد الآن، لم يفتح أي تحقيق حول التقارير الأصلية التي نشرت حول ما سمي بمؤامرة "حصان طروادة". وأنا أعتقد أن هذا الأمر ضروري جدا، ففي شهر آذار/ مارس من سنة 2014، ذكرت صحيفة "صانداي تايمز" أن مجموعة من الإسلاميين تآمروا للسيطرة على المدارس في شرق برمنغهام. في الواقع، دفعت هذه القصة الحكومة لفتح عدد من التحقيقات، لعل أبرزها التحقيق الذي أجراه بيتر كلارك، المدير السابق لمكتب مكافحة الإرهاب في شرطة لندن، وقد أنجز هذا التحقيق لفائدة وزارة التعليم. علاوة على ذلك، فُتح أيضا تحقيقان آخران عاجلان لفائدة مكتب المعايير التربوية، شملا 21 مدرسة ومؤسسة، وفحص سلوك 15 مدرسا. ولكن الأهم من كل ذلك، هو أن قضية "حصان طروادة" كان لها تأثير قوي جدا على سياسات مكافحة الإرهاب في الحكومة البريطانية.
لا وجود لمؤامرة "حصان طروادة"
على خلفية قضية "حصان طروادة"، أعلنت وزارة التعليم البريطانية في تشرين الثاني/ نوفمبر من سنة 2014، أن مكتب المعايير التربوية سوف يتخذ إجراءات ضد المدارس التي فشلت في "الدعم النشيط للقيم البريطانية الأساسية". وسنة 2015، استندت الحكومة إلى تقرير كلارك كدليل على التطرف، في إستراتيجيتها الجديدة والأكثر حدة في مواجهة الإرهاب.
خلال شهر شباط/ فبراير من ذلك العام، أصبح من المسؤوليات الملزمة قانونيا للمؤسسات العمومية على غرار المدارس، تطبيق "السياسة الوقائية"، وذلك عبر إبلاغ السلطات عن الأفراد الذين يعتقد أنهم يشكلون خطر نشر التطرف.
مع ذلك، هناك أدلة متزايدة على أنه لم يوجد في أي وقت من الأوقات شيء اسمه مؤامرة "حصان طروادة" في برمنغهام. فبعد ظهور العديد من التفنيدات القوية، وكشف أدلة دامغة حول قيام محامي وزارة التعليم البريطانية بحجب أدلة النفي، انهارت كل الدعاوى القضائية المقامة في هذا الشأن باستثناء واحدة فقط. وقد تبين لاحقا أن الكثير من الادعاءات التي استهدفت المدارس لا أساس لها من الصحة. كما تشكل قضية "حصان طروادة" حجر الأساس، في النقاش الحاد الذي دار مؤخرا حول الحجاب في شرق لندن.
في هذا الإطار، أشارت أماندا سبيلمان، كبيرة المحققين في مكتب المعايير القانونية في بريطانيا، إلى قضية برمنغهام، دون ذكرها بشكل مباشر، أثناء تدخلها غير الموفق في وقت سابق من الشهر الحالي. وبمرور الوقت، سوف يقتنع الناس بأن قصة الاستحواذ على مدارس برمنغهام، كانت تعبر عن استغلال فاحش للعدالة والمساواة أمام القانون، وتمثل تعديا واضحا على شريحة مجتمعية مستضعفة.
سوء فهم عميق
لهذا السبب، أنصح وبشدة بقراءة كتاب "التصدي للتطرف في المدارس البريطانية؟ الحقيقة حول قضية حصان طروادة في برمنغهام"، وهو كتاب صدر مؤخرا لعالمي الاجتماع جون هالموود وتيريزا أوتول. ويمثل هذا الكتاب رواية مقنعة، تم الاشتغال عليها بجهد كبير، حول الأحداث التي وقعت في برمنغهام، والتي تعرض جملة من الحقائق الصادمة.
في الحقيقة، يعد هذا الكتاب مثيرا للصدمة، بالنظر إلى أهمية هذه القضية من الناحية الرسمية. وقد تمكن الباحثان هالموود وأوتول من تفكيك تقرير بيتر كلارك ودحضه، حيث أظهر المؤلفان أن الخلاصات التي توصل إليها كلارك، كانت مستندة إلى سوء فهم عميق للقوانين المتعلقة بالمسائل الدينية في المدارس البريطانية. ولا يوجد في إنجلترا ما يسمى "بالمدرسة العلمانية". ومن خلال توفير فرص للتلاميذ، الذين هم كلهم تقريبا مسلمون، لممارسة شعائرهم الدينية، كانت المدارس بكل بساطة تؤدي واجباتها القانونية.
كما أشار هالموود وأوتول إلى فشل كلارك في الإشارة إلى أن المدرسة التي تقع في قلب هذه الاتهامات، وهي مدرسة "بارك فيو"، التي تغير الآن اسمها إلى أكاديمية "روك وود"، لم تقم بالتأثير على مدارس أخرى أو التدخل في شؤونها بسبب مؤامرة إسلامية، بل قامت بهذا الأمر بإيعاز من وزارة التعليم نفسها التي اقترحت هذا الأمر. ولا عجب في ذلك، فمدرسة "بارك فيو" كانت تمثل نموذجا مشرقا في هذه المنطقة المهمشة والمحرومة، وعندما تم تحويلها إلى أكاديمية سنة 2012، شجعتها وزارة التعليم على نشر أساليبها ومبادئها في بقية مدارس المنطقة.
لكن الأسوأ من ذلك، أن كلارك اعتمد على ادعاءات تم إبلاغه بها، وتعامل معها بشكل متسرع، وحرم المتهمين من فرصة عرض روايتهم المختلفة للأحداث. وبسبب هذا الإهمال الواضح، فشل محامو وزارة التعليم البريطانية في الاعتماد على تقرير كلارك كسند قانوني، لإثبات وجود مخالفات قانونية، أثناء جلسات المحكمة.
تجدر الإشارة إلى أنه تم تحريك مسلسل حصان طروادة عندما وصلت رسالة مجهولة المصدر إلى مكتب رئيس مجلس مدينة برمنغهام، ألبرت بور، في تشرين الثاني/ نوفمبر من سنة 2013. وعلى الرغم من وجود اعتقاد قوي بأن تلك الرسالة كانت مجرد خدعة، إلا أن كلارك لم يقم بأي محاولة للتأكد من صحتها. وبهذه الطريقة، يفسر هالموود وأوتول في كتابهما، كيفية عدم قيام أي طرف بدحض رواية حصان طروادة.
إلى جانب ذلك، تمكن هالموود وأوتول، بأسلوب منهجي وعلمي دقيق، من فضح كل الإخلالات والتناقضات في سلوك مكتب المعايير التربوية البريطاني. وقد أظهر الباحثان أنه في تلك التقارير، التي حذفها الآن مكتب المعايير التربوية من موقعه الرسمي، أشاد هذا المكتب بشكل صريح بممارسات مدرسة "بارك فيو"، وهي نفس الممارسات التي عاد في وقت لاحق للتنديد بها: ألا وهي "سلوك وسلامة الأطفال، وأسلوب قيادة وإدارة هذه المدرسة".
من مذهلة إلى غير مرضية
في كانون الثاني/ يناير من سنة 2012، وصف مكتب المعايير التربوية مدرسة "بارك فيو" بأنها مذهلة على جميع الأصعدة. وخلال زيارة إلى هذه المدرسة، علق كبير المتفقدين في ذلك الوقت، وهو مايكل ويلشو، قائلا "إن بقية المدارس يجب أن تكون على هذه الشاكلة". وقد نجح كبير المدرسين، الذي عمل فيها لوقت طويل، إلى جانب رئيس مجلس الإدارة، في تحويل "بارك فيو" من إحدى أسوأ المدارس في البلاد خلال سنوات التسعينيات، إلى الأفضل ضمن التصنيف الوطني.
رغم عدم حصول تغييرات تذكر على طاقم المدرسين أو الموظفين أو النتائج، إلا أن مكتب المعايير التربوية عاد ليعلن عن أن هذه المدرسة "غير مرضية" في شهر آذار/ مارس من سنة 2014. وهنا يلاحظ هالموود أوتول أن التقرير الذي ذكر فيه هذا التقييم السلبي، قد صيغ بعد ظهور الادعاءات بوجود مؤامرة حصان طروادة في برمنغهام. وقد حصل هذا قبل 11 يوما فقط من عودة المتفقدين مرة أخرى للمدرسة، لمنحها تقييما سيئا والتوصية بإعادة النظر في تصنيفها الجيد.
بناء على ذلك، تساءل هالموود وأوتول عما إذا كان حجم الضغط الذي سُلط على المتفقدين، من قبل كبار المسؤولين في مكتب المعايير التربوية أو وزارة التعليم. كما يطرح هؤلاء تساؤلات حول السر وراء إعادة اعتماد التقييم الجيد، الذي سحب سابقا من هذه المدرسة، بعد أن باتت تخضع الآن لإشراف إدارة جديدة غير إسلامية، رغم تراجع نتائجها.
أما الأهم من ذلك، أن الكاتبان ناقشا مناخ التغطية الإعلامية الذي أحاط بالتحقيقيات التي أجريت في ربيع 2014، أي في الأشهر التي عقبت الكشف عن الرسالة المتعلقة بوجود حصان طروادة، وأسلوب وسائل الإعلام، ومن ضمنها صحيفة "ديلي ميل"، التي أكتب على صفحاتها بشكل دوري ضمن عمود سياسي، التي نشرت الكثير من القصص حول عدم تسامح المسلمين: مثل الحديث عن أطفال يتم تلقينهم أن النساء الغربيات هن "عاهرات بيضاوات"، وتسمية غير المسلمين بأنهم "كفار".
رواية مغلوطة
باستثناء البعض منهم، فشل الصحفيون في تناول الأسباب العميقة، واكتفوا بترديد ما تبين لاحقا أنه اتهامات زائفة. وفي هذا السياق، وصف هالموود وأوتول هذه التقارير الصحفية بأنها "نموذج من الذعر الأخلاقي... حيث يُقدم كبش فداء من الفئات المهمشة، في سياق حالة ذعر شعبية، ويتم تضخيم هذا الأمر من قبل الصحافة". وكل هذا يطرح تساؤلات جدية حول الحقيقة، وصلابة الديمقراطية البريطانية، وحقوق المواطنين.
عندما تحدثتُ مع هالموود خلال الأسبوع الماضي، عقد مقارنة بين هذه القصة وفضيحة هيلزبرة، حين استغرق الأمر ثلاثة عقود تقريبا من الحملات والجهود التي بذلها سكان ليفربول، لإثبات أن مأساة وفاة 96 من مشجعي فريق مدينتهم، لم تكن سببها حالة السكر التي كان عليها هؤلاء، بل بسبب إهمال من طرف الشرطة. كما قال هالموود إنه لا يتذكر أي قصة أخرى مماثلة، شهدت هذا القدر من التواطئ السلبي بين الحكومة والإعلام، من أجل خلق رواية مغلوطة للأحداث أدت لشيطنة فئة كاملة من المجتمع. وفي الحقيقة، لا يمكنني أن أكون أكثر اتفاقا مع هذا الموقف.
اضف تعليق