منذ منتصف القرن العشرين نشأت أجيال في ظل مفاهيم حقوق الإنسان، وكيف تعتبر مرجعية نلجأ إليها عند الشعور بالتهديد. وعلى الرغم من وجود تراث يعود إلى ماضٍ سحيق، إلا أن الفهم المعاصر لهذه الحقوق تم تشكيله إلى حدّ كبير سنة 1948، وذلك عندما تم إنشاء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
وقد سعت هذه الوثيقة البارزة إلى تيسير إقامة نظام عالمي جديد في أعقاب الدمار الذي خلفته الحرب العالمية الثانية، فهي أعلنت أن جميع البشر يولدون أحراراً ومتساوين. والتزمت الدول بحماية حقوق عدة من بينها الحق في الحياة، وعدم التعرض للتعذيب، العمل، والحق في العيش الكريم. وقد عُززت هذه الوعود منذ ذلك الحين بنصوص صريحة في المعاهدات الدولية، بما في ذلك المعاهدتين المتعلقتين بالحقوق المدنية والسياسية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لعام 1966، وفي الوثائق الإقليمية مثل الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان لعام 1950.
ولكن في الآونة الأخيرة، بدأت الدول في التفكير مرةً أخرى بالأمر في ظل المشهد العالمي الراهن. فقد عرفت الولايات المتحدة في الأشهر الأولى لرئاسة دونالد ترامب انتهاكاً صريحاً لالتزامات حقوق الإنسان الدولية، خصوصا حظر السفر المثير للجدل الذي استهدف أولئك القادمين من دول مسلمة واللاجئين. وفي فرنسا، أدّت حالة الطوارئ الوطنية القائمة منذ الهجمات الإرهابية التي وقعت في باريس سنة 2015 إلى تعزيز الأمن وسلطات الشرطة.
وفي المملكة المتحدة، هناك دعوات لإلغاء قانون حقوق الإنسان. وقبل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، كان هناك أيضاً قدر كبير من عدم اليقين بشأن ما ينبغي الحفاظ عليه من حماية حقوق الإنسان، إن وجدت، بعد مغادرة الاتحاد الأوروبي.وتثير هذه التطورات أسئلة هامة بشأن حقوق الإنسان وما ينبغي أن تكون عليه في عالمنا المتغير. هل حان الوقت للتكيف مع واقعنا الحالي؟ ما الذي ينبغي أن تبدو عليه حقوق الإنسان في المستقبل؟
إن فهمنا لحقوق الإنسان، الذي تمّ تصوره إلى حد كبير في الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي، لم يعد من الممكن الحفاظ عليه. ويجب أن نكون مستعدين وراغبين لإعادة تقييم حقوق الإنسان، وإلا فإن الحكومات قد تفعل ذلك من أجلنا.
إعادة تقييم حقوق الحاضر من أجل المستقبل
يُعدّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمعاهدتان الدوليتان اللاحقتان، والاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان من الوثائق التأسيسية التي يُنظر إليها على أنها ترسي الأحكام الأساسية لماهية حقوق الإنسان. وقدمت هذه القوائم خريطة لحل مشاكل ذلك الوقت. غير أن سياق اليوم مختلف تماماً. ونتيجة لذلك، لم تعد هذه القوائم محاطةً بهالة من القدسية. وهي بحاجة إلى إعادة تقييم لكي تصبح صالحة للمستقبل.
التطورات العلمية تغيّر الطريقة التي ننظر بها إلى أجسادنا، إذ يمكننا أن نمدّ حياة الإنسان كما لم يحدث من قبل، ويمكن استخدام أجسادنا كسلع (مثل بيع الشعر، أو الدم، أو الحيوانات المنوية، أو الحليب الطبيعي). في عام 2016، طلبت فتاة تبلغ من العمر 14 سنة الحق في تجميد جسدها. وهذه الحالات لا تندرج بسهولة ضمن حدود الأحكام التقليدية لحقوق الإنسان.
الآلات صارت ذكية على نحو متزايد، تخزن وتستخدم البيانات المتعلقة بنا وبحياتنا. حتى أنهم يملكون القدرة على التعدي على حريتنا المعرفية وقدرتنا على السيطرة على عقولنا. وهذا يشمل التحركات المبلغ عنها من قبل الفيسبوك لإنشاء واجهة دماغ الكومبيوتر والتي سوف تسمح للمستخدمين الكتابة فقط من خلال التفكير.
هل تحتاج حقوق الإنسان إلى حمايتنا من الذكاء الاصطناعي الذي أنشأناه؟
يمكن تطبيق نفس إعادة التقييم ضمن فكرة ما ينبغي أن يكونه "الإنسان" نفسه. وفي حين تم تأمين حقوق محددة للأطفال والنساء وذوي الاحتياجات الخاصة والعمال المهاجرين وغيرهم على مدى السنوات السبعين الماضية، فإن حالة "الإنسان" لا ينبغي أن تؤخذ على أنها استقرت الآن.
هل نحن بحاجة إلى إعادة النظر في الحقوق لمعالجة تجارب الأفراد الذين يقعون خارج الأطر المفهومة حاليا في المجتمع؟ وقد يشمل ذلك الأشخاص الذين يعرفون بأنهم عديمي الهوية الجنسية الذين لا يعتبرون أنفسهم لا رجالاً و لا نساءاً. وقد نسأل أيضا عما إذا كان من الضروري إعادة تقييم كيفية فهمنا للبشرية نفسها. وقد نحاول، على سبيل المثال، أن نعترف بشكل أفضل بأن البشر متعلقون أساسا بالطبيعة وبيئتهم. نتيجة لذلك لا يكون الإنسان المنزوع عن أي سياق هو الأفضل أو الوحيد لتطبيق حقوق الإنسان. ويمكن أن يؤدي ذلك إلى النظر بجدية في توفير الحقوق للكيانات التي كانت تعتبر سابقا غير بشرية، كالبيئة.
خلق يوتوبيا جديدة
تقدم حقوق الإنسان طريقة للتفكير في نوع المستقبل الذي نريده بمصطلحات طهرانية كانت عنصراً مهماً في تأسيس فترة ما بعد الحرب ومازالت كذلك. لكن هناك حاجة لرؤية متوافقة مع الليبرالية أو الرأسمالية أو حكم الدولة كما كانت حال حقوق الإنسان في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي. أدواتنا الحالية لحقوق الإنسان تم تعريفها من قبل الدول، وتتمسك بحقوق الملكية الفردية والحرية الشخصية وهي الأفكار التي تناسب الحياة في بيئة ليبرالية رأسمالية. لكن بدلاً من ذلك بالإمكان استخدام حقوق الإنسان لخلق يوتوبيا جديدة. بالإمكان تأسيسها بناءاً على أشكال جديدة للحياة، إيجاد وهيكلة مجتمع يواجه مشكلات الحاضر. بالإمكان استخدامها للتفكير في مجتمع يفكك مركزية الدولة. بإمكان الأشخاص وليس الحكومات، أن يكونوا المُحددِّين لملامح حقوق الإنسان، والمحافظين على جوهرها، والأقدر على حمايتها.
على نفس المنوال، بإمكان المفهوم الذي يأخذ بصورة أشمل العوامل الاجتماعية لحقوق الإنسان أن يساعدنا على التفكير في أشكال أخرى لهيكلة المجتمع، تتجاوز التركيز على الفرد، وهو الأمر المركزي في الرؤية الليبرالية الرأسمالية للعالم.
قد يتضمن هذا تركيزاً أكبر على فكرة حقوق الجماعات، والتي يُصاغ فيها حق الإنسان من خلال الجماعة التي ينتمي إليها، بدلاً من النظر إلى حقه كعضو منفرد. فقد طُبق هذا المفهوم فيما يتعلق بالسكان الأصليين والهوية الثقافية، إلا أنه يمكن توسيع نطاقه ليشمل معضلات أخرى ضمن مفاهيم جمعية. على سبيل المثال، يجب علينا أن نبدأ بتطبيق الحقوق من خلال الأخذ في الحسبان تقديم الرعاية الطبية من منظور جماعي، بكل ما تحمله من أساليب الحماية المختلفة، والالتزامات المستحقة، وتقديمها بصورة تشمل الجميع بدلاً من الحق الفردي في الرعاية الصحية. من خلال هذه الخطوات، يصبح بالإمكان بناء رؤية يوتوبية جديدة للحقوق، مبنية على أشكال العلاقات الاجتماعية المختلفة تماماً عن التي نعيشها الآن.
يجب أن تتغير حقوق الإنسان لتصبح أدوات تحفز الحوار النقدي، ومبارزة الحجة بالحجة في الوقت الراهن، مما يساعد على وضع رؤية جديدة للمستقبل، بدلاً من مواصلة رؤية القرن العشرين. التفكير فيها بمثل هذه الطريقة، يمكن أن لا يجعل حقوق الإنسان تبدو كشيء من الماضي، ولكن من المستقبل.
اضف تعليق