بقلم فهيم تشتكين
سينظر البرلمان التركي قريباً في مجموعة من الاتفاقات العسكرية المقترَحة مع بلدان أخرى فيما تسعى أنقرة إلى التوسّع أبعد من تأثير "القوة الناعمة" الذي تمارسه، واستعادة مكانتها في ميادين كان لها تأثير فيها سابقاً.
لدى تركيا حضور في أفغانستان وكوسوفو والبوسنة والعراق، عن طريق البعثات الإنسانية والتربوية وبعثات البناء وحفظ السلام. وهي تضيف بعداً عسكرياً من خلال اقتراح توسيع حضورها في قاعدتها في العاصمة القطرية، الدوحة، والافتتاح المقرّر لمنشأة تدريبية في مقديشو، عاصمة الصومال، هذا العام.
تبث هذه الخطوات الدفء في قلوب أعضاء "حزب العدالة والتنمية" الذين يحلمون بالزمن العثماني. ربما تشعر الأوساط القومية ببهجة عارمة، غير أن المعارضة السياسية في البلاد تسأل: لماذا تعمل تركيا على تأمين غطاء أمني لقطر؟ مقابل ماذا؟ هل إيران هي هدفنا؟
في الرابع من أيار/مايو، وافقت لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان على اتفاق للتعاون في التدريب العسكري مع منغوليا، واتفاق للتعاون الأمني مع ألبانيا، وبروتوكول للتعاون في تدريب قوات الدرك مع قطر، واتفاق لنشر قوات تركية في الأراضي القطرية. سوف يتم قريباً طرح مسوّدات هذه الاتفاقات، من جملة مسوّدات أخرى، على التصويت في البرلمان المنعقد بكامل أعضائه. لقد أثار الاتفاق حول نشر القوات التركية في قطر الاهتمام الأكبر.
كشف العميد إحسان بلبل، نائب وكيل وزارة الدفاع، عن بعض التفاصيل المتعلقة باجتماع اللجنة. لقد وافقت قطر وتركيا، بموجب المعاهدة، على إنشاء مقر مشترك للفرقة التكتيكية مع تمركز خمسمئة إلى ستمئة جندي تركي في القاعدة. وسوف تتولى شخصية عسكرية قطرية برتبة لواء قيادة الفرقة، على أن يكون نائبه عميداً تركياً.
يحدّد الاتفاق هدف البعثة بـ"تطوير قدرات قطر الدفاعية" من أجل القيام بتدريبات ومناورات مشتركة، و"تنفيذ مهام أخرى بالاتفاق بين البلدَين". وينصّ الاتفاق على تحمّل قطر جميع التكاليف المترتبة عن إنشاء القاعدة وعملياتها. بعد انقضاء عشر سنوات، يتم تجديد الاتفاق غير المحدّد الأجل تلقائياً لمدة خمس سنوات إضافية إلا إذا قام أحد الطرفَين بفسخه.
بحسب محاضر مداولات اللجنة التي حصل عليها موقع "المونيتور"، واجه المسؤولون في وزارتَي الخارجية والدفاع والقيادة العامة لقوات الدرك أو الجندرمة في تركيا، مشكلات في الإجابة عن أسئلة ممثّلي المعارضة. فقد سأل النائب عن "حزب الشعب الجمهوري"، أوغوز كان ساليسي، لماذا تولي تركيا كل هذه الأهمية لقطر التي لا يتخطى حجم تجارتها السنوية معها 1.3 مليار دولار أميركي. أجاب نائب وكيل وزارة الخارجية أوميت يرديم بأن "الدولة الإسلامية" و"القاعدة" وأتباع فتح الله غولن يشكّلون تهديداً مشتركاً، وأن قطر كانت على رأس البلدان التي دعمت تركيا بعد المحاولة الانقلابية في 15 تموز/يوليو الماضي. أضاف أن قطر دولة حليفة للولايات المتحدة وتتمتع بأهمية استراتيجية. لكنه لم ينجح في إقناع مستجوبيه لدى محاولته أن يشرح ما قصده بكلامه عن الأهمية الاستراتيجية.
قال ساليسي، الذي لفت إلى أن القوات الأجنبية التي تستخدم قواعد في تركيا تتحمّل النفقات بنفسها، إنه لم يحصل على أجوبة شافية عن أسئلته. وسأل مجدداً: "ستتمتع هذه القوة بالامتيازات كافة في الأراضي القطرية، فيما تتحمل قطر كامل النفقات المترتبة عنها. تجلب قطر قوة عسكرية متمرّسة إلى أرضها. وكأنها تقول ’تعالوا للدفاع عنا‘. ما الذي ستحصل عليه تركيا مقابل دفاعها عن قطر؟ أليست حقيقة ما يجري أن تركيا تبني مظلات أمنية لقطر والسعودية بهدف التصدّي لإيران، وأننا ننجرّ [إلى مواجهة مع إيران] بسبب ما يحدث في اليمن، هل هناك من تفسير آخر؟"
في الحرب الأهلية الدائرة في اليمن، تدعم إيران الثوّار الحوثيين وأنصار الرئيس السابق علي عبدالله صالح. أما السعودية وقطر فتدعمان الطرف الآخر، أي حكومة الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي.
قطر غنية بالنفط والغاز الطبيعي. غير أن بعض أعضاء "حزب الشعب الجمهوري" يشكّكون في أهميتها بالنسبة إلى تركيا لعدد من الأسباب. فقطر هي بحجم جزيرة هاواي تقريباً، إذ لا تتعدّى مساحتها حوالي 4400 ميل مربع. أما تركيا فأكبر بقليل من تكساس، مع 302535 ميلاً مربعاً. يبلغ عدد سكان تركيا نحو 79 مليون نسمة؛ وعدد سكان قطر 2.6 مليونَي نسمة، مع الإشارة إلى أن 313 ألفاً منهم فقط هم مواطنون قطريون. لقطر قوة عسكرية متواضعة، فعديد الجيش هو 11800 عنصر. وهي تدين بأمنها، بطريقة من الطرق، لعشرة آلاف جندي أميركي في قاعدة العديد.
كانت قطر رأس الحربة في حروبٍ شُنَّت بالوكالة في ليبيا وسوريا، وشاركت في عمليات في البحرين واليمن بعد رضوخها للضغوط السعودية. من الطبيعي تماماً أن تشعر قطر بالحاجة إلى تطوير مفهوم دفاعي مشترك بالتعاون مع قوة نافذة غير الولايات المتحدة. لكن ما الذي يدفع بتركيا إلى الدخول في مثل هذه العلاقة العسكرية مع قطر، لاسيما على ضوء التدخل التركي الراهن في الحرب الأهلية السورية؟ لدى نوّاب "حزب الشعب الجمهوري" انطباعٌ بأن تركيا أُقحِمت في الاستقطاب المذهبي بين إيران وبلدان الخليج، وبأن كل هذه الاتفاقات موجَّهة ضد إيران.
قال مولود دورو، وهو أيضاً نائب عن "حزب الشعب الجمهوري" في لجنة الشؤون الخارجية، لموقع "المونيتور" إن هناك هواجس بشأن النقاط المبهمة في الاتفاق مع قطر، مضيفاً: "إنه اتفاق غير محدّد الأجل. وليس واضحاً ما هو موضوعه. يشتمل الاتفاق على تعابير غامضة مثل ’مختلف أنواع المساعدات‘. لا تستطيع وزارتا الخارجية والدفاع إعطاء تفسيرات عن أنواع المساعدات المقصودة. في رأينا، ليست هناك حاجةٌ تستدعي قيام تركيا بإنشاء قاعدة في قطر. هذه ليست سوى خطوة موجَّهة ضد إيران. لا أجد أي تفسير آخر لهذا الاتفاق. تُبذَل جهود لتشكيل تكتّل سنّي بقيادة السعودية".
تابع دورو: "تتحمّل قطر جميع التكاليف المترتّبة عن القاعدة في الدوحة. هل يوظّفوننا للعمل عندهم بمثابة جندرمة؟ ليس مبرَّراً على الإطلاق أن تنخرط تركيا في مثل هذه المغامرة. حظيت مسوّدة الاتفاق بموافقة اللجنة، لكنها ستثير سجالات حادّة عند طرحها على البرلمان".
عندما وقّع رئيس الوزراء آنذاك، أحمد داود أوغلو، الاتفاق لإنشاء قاعدة الدوحة في نيسان/أبريل 2016، توقّفت مصادر ديبلوماسية وسياسية في أنقرة عند النقاط الآتية:
ستعود تركيا إلى قطر بعد مئة عام من انسحاب الإمبراطورية العثمانية منها خلال الحرب العالمية الأولى.
يهدف إنشاء القاعدة في قطر إلى إرساء توازن في مقابل التأثير الإيراني المتنامي في المنطقة.
سوف تعكس القاعدة التعاون الأمني بين أعضاء التحالف السنّي المؤلّف من تركيا وقطر والسعودية.
سيتمكّن الجنود الأتراك في القاعدة من تقديم الدعم في الأزمات الخطيرة، بناءً على طلب المجتمع الدولي.
في ذلك الوقت، أوجزت قناة "تي آر تي" التلفزيونية المملوكة من الدولة التركية آراء الدوائر الحكومية على الشكل الآتي: "يرتدي هذا الاتفاق أهمية أيضاً من أجل إيجاد أسواق جديدة للصناعة الدفاعية التركية. تنتهج تركيا وقطر مقاربتَين شبه متطابقتين للأزمات في الشرق الأوسط. فهما تتشاركان الموقف نفسه في دعم المعارضة السورية، وكذلك في ما يتعلق بالأزمات في العراق واليمن. يرتدي الاتفاق أهمية إضافية بالنسبة إلى قطر، لأن الحكومة السنّية في الدوحة غير مرتاحة لذوبان الجليد بين الولايات المتحدة وإيران. لا ترى الحكومة القطرية في الجنود الأميركيين المتمركزين في البلاد رادعاً عسكرياً مناسباً، من هنا جاء قرارها معالجة هذا النقص عبر التعاون مع تركيا".
تميل الدوائر الحكومية التركية إلى إدراج مسألة القاعدة القطرية في إطار التنافس الأميركي-التركي. غير أن قطر لا تستطيع، في صنعها لقراراتها، التصرّف بصورة مستقلة عن الولايات المتحدة والسعودية.
في الواقع، قبل اندلاع الأزمات في سوريا والبحرين واليمن خلال الربيع العربي في العام 2011، كانت قطر تنتهج مقاربة متوازنة في التعاطي مع إيران على الرغم من جميع الضغوط التي مارستها عليها السعودية. حتى إنها أشارت إلى أنها لن تسمح للولايات المتحدة باستخدام قواعدها الموجودة على الأراضي القطرية في عملية ضد إيران. بطبيعة الحال، كان لتقاسم قطر حوض الغاز الطبيعي في جنوب بلاد فارس مع إيران دور في تلك المقاربة.
بيد أن قطر وجدت نفسها في المعسكر المناهض لإيران إبان عسكرة الانتفاضات العربية. لم يعد واضحاً إذا كان قرارها تجنُّب التشنجات مع إيران لا يزال قائماً. بالطبع، لم تستطع قطر، باعتبارها عضواً في مجلس التعاون الخليجي، أن تنأى بنفسها إلى ما لا نهاية عن الأزمة المتصاعدة بين إيران والسعودية.
وبعد انتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب، تعود الولايات المتحدة إلى سياساتها المناهضة لإيران، وتشتدّ التشنجات الإيرانية-السعودية، ما يؤشّر إلى احتمال هبوب عواصف في الخليج. في الثاني من أيار/مايو، تسبّب وزير الدفاع السعودي محمد بن سلمان بتأجيج التشنجات عندما قال إنه في حال اندلاع حرب، سوف تحاول السعودية أن تخوضها وتحسمها في إيران قبل وصولها إلى الأراضي السعودية.
ردّ وزير الدفاع الإيراني حسين دهقان: "إذا قام السعوديون بتصرّف أرعن، سيقضي الجيش الإيراني على مملكتهم عن بكرة أبيها، ما عدا مكة المكرمة والمدينة المنورة".
يُبدي مراقبون كثر قلقهم إزاء اشتداد التشنّجات في الخليج والشراكة العسكرية التركية مع الدوحة والرياض. طرح كاتب العمود الخاص في صحيفة "حرييت" التركية، محمد يلماز، مؤخراً سؤالاً في محلّه: "هل سنشنّ حرباً ضد عدوّنا المشترك؟ هل سيكون ثمن المعاهدة العسكرية الشاملة مع السعودية التورّط في حرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل؟"
من الواضح أنه مع تعاظم التشنجات، تأمل السعودية بالاعتماد على القدرات العسكرية التركية فيما تحاول أنقرة الترويج لنفسها بأنها الصوت الناطق باسم العالم السنّي.
على الرغم من كل هذه التطورات، هل يمكن تصنيف جميع الخطوات التركية في خانة الاستقطاب ضد إيران؟ مما لا شك فيه أن التعاون العسكري مع قطر والسعودية يشهد تقدّماً في إطار التناقضات الإيرانية-الخليجية في سوريا واليمن. عندما تتخذ أنقرة مثل هذه الخطوات، يستحضر ذلك التطلعات التركية إلى إنشاء تكتّل سنّي يستهدف إيران تحت مسمّى "التحالف الإسلامي ضد الإرهاب"، أو إلى تأسيس "ناتو إسلامي" بمشاركة تركيا، ثاني أكبر قوة عسكرية في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وباكستان التي تملك أسلحة نووية في ترسانتها.
ثمة دافع آخر وراء مبادرة تركيا إلى إضافة أبعاد عسكرية "صلبة" في مقابل الأبعاد "الناعمة" إلى شراكاتها في العالم العربي: إيجاد زبائن جدد لصناعتها الدفاعية الآخذة في التطور. لا شك في أن هذين الهدفَين هما من الأحلام التي ترواد حكومة "حزب العدالة والتنمية".
واقع الحال هو أنّ ترويج تركيا نفسها كعنصرٍ لإرساء توازن في مقابل القوة الإيرانية المتنامية وسيلةٌ تتيح لها إقامة تعاون عسكري مع قطر والسعودية، لكنه أيضاً انعكاس للشغف التركي غير المعلَن، إنما الواضح والذي لا يمكن نكرانه، بالتحوّل إلى قوّة إقليمية.
اضف تعليق