غادروا طفولتهم وأجبروا على نسيان البراءة ... قست عليهم الأقدار فحملوا ثقل الحياة فوق ظهورهم النحيلة... اغتيلت أحلامهم على أعتاب المدارس فلم يمنحهم الزمن دمية أو كتابا فكانوا هم اللعبة والحكاية.. إنهم أطفال الشوارع والنفايات، شريحة أخذت بالاتساع مكونة ما يسمى بـ(التجمعات العشوائية) والذين ينتشرون في الشوارع العامة والتقاطعات يبيعون المناديل الورقية والعلكة وفي الاسواق الشعبية يدفعون العربات ويبيعون اكياس النايلون أو يفتشون في النفايات بحثا عن العلب الفارغة، حكايات تشابهت في المضمون واختلفت في التفاصيل، اختلط فيها الكذب بالحقيقة لكنها تنبع من رافد واحد وهو البحث عن سبل العيش واللهاث وراء رغيف الخبز.
تؤكد الدراسات ان هذه الظاهرة تفاقمت بشكل ملحوظ في 1992- 1998 وهي سنوات الحرب والحصار ثم استشرت بعد سقوط النظام نتيجة الحروب الداخلية والصراعات السياسية التي القت على كاهل المواطن أعباءً اقتصادية ثقيلة وبالتالي اتساع الفئات السكانية المسحوقة اقتصاديا والمرشح الاول في التضرر من هذا الوضع هم الاطفال، فالمتتبع لتاريخ العراق يجد هناك دائما حروب، سجون، معتقلين وإعدامات، صراعات سياسية، وانفجارات، وقتل وفتن طائفية، وتهجير، وانتهاكات للطفولة بدءً من خسارة المدرسة والتعليم والسكن الى خسارة الاب والام والرغيف، والنتيجة فقدان الثقة والأمن والشعور الدائم بالخوف وتبني مشاعر العنف والانتقام والجنوح للعدوانية.
وقد يستهجن البعض الكتابة عن هذا الموضوع ومتابعته بدعوى أن هذه الشريحة موجودة في كل العالم ولا جدوى من معالجتها، فنقول أن بناء المجتمع الرصين يكون في بناء الانسان واستقراره ويبدأ من لحظة ولادته والطفل هو اللبنة الاولى التي يؤسس ويعتمد عليها بناء دولة متحضرة. وقد حذرت اليونيسيف من اتساع هذه الظاهرة في العراق وكشفت في تقريرها 2011 عن وجود (مـلـيـون) طفل عراقي تقريبا تحت خط الفقر كما قدر التقرير حجم عمالة الاطفال بـ(800) الف طفل وهو قابل للارتفاع بارتفاع الفجائع العراقية.
ولا توجد احصاءات رسمية دقيقة وشاملة في هذا الجانب وليس هناك بيانات دورية عن الاطفال العاملين او المتشردين او الجانحين من قبل دوائر وزارة الرعاية والشؤون الاجتماعية وهناك تعتيم واضح وتشديد في اعطاء المعلومة ولذا حاولنا الاعتماد على المشاهدة العينية لأطفال بملابس رثة ومناظر بائسة منتشرين في شوارع وورش صناعية واسواق البلد الذي يزيد انتاجه اليومي على مليوني برميل من الذهب الاسود وتشكل صادراته 15% من احتياجات العالم.
تضع (شبكة النبأ المعلوماتية) هذا الموضوع امام انظار المسؤولين والمراجع الدينية آملين ان يحوز اهتمامهم، ولكي لا يضطروا لمواجهة حملة اجتثاث جديدة بدعوى الاصلاح، فلا زالت هناك فرص للمعالجة اجتماعيا وحضاريا وشرعيا، وفي بلد يغص بالفقهاء يفترض ان تؤسس موازينه على قاعدة (التكافل الاجتماعي)!!، وإلا ستكون الدولة مضطرة لمواجهة جيش من الارهابيين والاشرار والمحتالين والحاقدين جيش ترعرع في مهاوي الرذيلة وادمن التدخين والمخدرات، وتفشت في صفوفه الأمية، هذا كان شعوري وانا اسمع حديث (معتز 11 سنة) الذي تتضاعف نقمته كلما رأى أقرانه يتوجهون الى المدارس صباحا في حين هو مجبر على التوجه الى السوق لبيع اكياس النايلون (العلاكات) ويحلم معتز بـ(عربة) يدفعها كي يريح جسده النحيل ليعمل (حمالا) ويزيد دخله اليومي فيشتري لوالدته عباءة جديدة!!!، أما المدرسة فهي حلم تحقيقه محال بالنسبة لهذا الصغير وهو ينوء بحمل ثقيل لإعالة أخواته الثلاث ووالدته بعد أن قتل والده في (ابو دشير) فنزحوا من تلك المنطقة حاملين ذكريات قاسية ومستمسكات تثبت انتماءهم للعراق ولكنها لا تسمن ولا تغني من جوع.
(محمد 13 سنة) في الصف الخامس الابتدائي ويعتقد أنه لا يستطيع اكمال تعليمه لأنه يقضي معظم النهار في الشارع لبيع السكائر والعلكة ولا وقت لديه للمذاكرة والواجب المدرسي مع ان والده حي يرزق لكنه عاطل حيث كان جنديا في الجيش السابق وتأسر في الحرب الملعونة مع ايران ويقول (محمد) :والدي عصبي وقاسي معنا باستمرار يضرب والدتي ويطردنا من البيت وهو يعاني من مرض نفسي وزاد من حالته سوءا فقدان اخي الاكبر عام 2007 واخشى على اخواتي ووالدتي من الضياع لأننا في عالم لا يرحم!، قال محمد الكلمة الاخيرة (لا يرحم) وكأني بها أصابت مقتلا حيث رافقها حسرة طويلة وهو يلقي بنظره الى الارض.
(عدي 13 سنة) يشاركه أخواه الأصغر في مسح زجاج السيارات في منطقة البتاويين حيث يقضون معظم وقتهم مع اصحاب محلات تصليح السيارات(الفيترية والبنجرجية) ويقول: توفي والدي قبل عام بعد أن تزوج من امرأة اخرى وهجرنا فكان علينا ان نتدبر معيشة خمسة شقيقات كبراهن مطلقة ولها طفلة ... من يتحدث الى عدي لا يشعر إنه أمام صبي فطريقة الحديث وتعابير الوجه والعبارات السوقية سمات تبعث النشوة في نفسه وتشعره بالكبر، وحينما سألته ان كان يدخن أو يتعاطى شرب الكحول طأطأ رأسه ولم يجب بشيء!! ثمة رغبة بالبكاء ساورتني وإحساس بالحزن لم يفارقني على هذا الطفل الذي فارق براءته بقساوة فكان إنموذجا للطفولة المشوهة .
(ميعاد 10 سنوات) ترافقها شقيقتها الأصغر تبيعان (العلكة) كذريعة للاستجداء، وتعود في المساء إلى جدتها لأمها حيث تعيش معها البنتان بعد أن قتل انفجار في محافظة ديالى والدتهما (بائعة خضار) فلحقت بالوالد الذي سبقها، وتقول ميعاد تركنا ديالى ونزحنا الى مدينة كربلاء، هكذا كان رأي جدتي لنكون في حمى (ابا عبد الله الحسين ع) في البداية ساعدنا أحدهم وقدم لنا سكن (تجاوز) مع مبلغ بسيط ومواد غذائية ثم انقطع ذلك المحسن ولم نعرف كيف ندبر معيشتنا وجدتنا مسنة ومصابة بأمراض كثيرة ... محدثتي الصغيرة (ميعاد) تدرك جيدا مخاطر الشارع من الناحيتين الجسدية والاخلاقية لذلك هي تخشى على شقيقتها وتتمنى ان يلتفت لهم (الخالق) لينقذهما من حياة الشارع وما يحصل لهما من انتهاكات أسرّتني بها كـ(امرأة لامرأة) وبحركة عفوية حنونة مسحت بيدها على رأس شقيقتها.. ودّعتني وفي عينيها نظرة مليئة بالخوف من غد قد يكون أقسى من اليوم.
أما (زهراء 11 سنة) فقد وجدت نفسها فجأة أما وأبا لأخوتها الثلاثة وحسبما تقول توفيت والدتي أثناء الولادة فانتقل بنا والدي الى دار عمّنا كي ترعانا زوجة عمي بينما يذهب هو لرزقه (بسطية لبيع السكائر) لكن ( المظلوم مظلوم) حسب تعبيرها فقد راح والدها ضحية انفجار غادر في السوق ، وتقول زهراء منذ ذلك اليوم عرفت ماذا يعنى الطب العدلي (هو المكان الذي يضعون فيه الناس الذين يموتون في الانفجارات) !أصبح العبء ثقيل على عمي وبدأت المشاكل بينه وبين زوجته بسببنا فكانت تضربني وتوبخ اخوتي باستمرار ثم طردتنا مع إني كنت أساعدها في أعمال البيت !.. فأخذت اخوتي وجلست على الرصيف وبقينا حتى غابت الشمس فكان المارة (يترحمون علينا) مع أننا لم نمد أيدينا فتجمع عندي مبلغ لا بأس به وعدت إلى زوجة عمي ووضعت المبلغ كله في يدها كي أنال رضاها .. ففرحت جدا واتفقت معي ان أذهب يوميا الى نفس المكان وستبقينا معها على شرط أن لا يعرف عمي .. زهراء تبدو امرأة ناضجة قبل أوانها وهي تتحدث بمنطق المسؤولية وعسر المعيشة التي دفعت بزوجة عمها لزّجّها في (مهنة الاستجداء) وهي مقتنعة جدا بتضحيتها ما زال هناك سقف يحمي أخوتها .. طموحها أن يذهب شقيقها الى المدرسة وتدعو الله ان يقدرها على تربية اخوتها وتوفير اللقمة الحلال !! هذه الطفلة تحمل قدرا من المسؤولية وتفكيرا لا يرقى اليه نواب منتخبون بل هم يتحملون المسؤولية المباشرة في وصولها وامثالها الى الشارع !!
(وردة 9 سنوات) يصطحبها والدها كل صباح الى مقلع النفايات كي تعينه في جمع العلب الفارغة، استغلت ابتعاد والدها بضعة امتار فأباحت لي بما هو ليس سرا ( أموت وشوف المدرسة) قالتها بلوعة وحذر شديد خوفا من والدها وهي تدير رأسها المعصوب بخرقة أعجبتها فالتقفتها من بين النفايات!! (وردة النفايات) جلّ أحلامها هو المقعد الدراسي.... تتخيل شكله وكيف تكون متعة الجلوس عليه...! كانت تنظر بانبهار للقلم والدفتر الذي بيدي فمدت اناملها المتسخة والخشنة لتتلمس الورق .. همست ( أريد أكتب اسمي .. ورده) سرعان ما نادى عليها والدها وهو معتليا تلّ النفايات وبصوت مرتفع لا يخلو من استبداد وصلافة قاصدا إسماعي (تعالي شوفي رزقج الجرايد ما توكّل خبز...) هرعت المسكينة ولكني امسكت بيدها ورافقتها الى حيث كان يقف الأب وحالما شاهد الورقة الخضراء فئة (10000) عشرة الاف دينار بيد ابنته تهللت أساريره ورحب بـ(الجرايد) لكن (وردة) كانت أكثر سعادة منه وهي تتصفح بياض الورق في دفتر ملاحظاتي الذي أعطيته لها بعد استقطاع المستخدم منه .. انشغلت عني وهي تبحث بين النفايات عن كيس تحفظ فيه القلم والدفتر !!
كلمة ليست الأخيرة
حسب دراسة ميدانية أردنية عراقية بأن 90% من أطفال الشوارع يتعاطون التدخين والمخدرات المحلية المتوفرة في الاسواق كما تشير بحوث خاصة أجريت على الأحداث الجانحين بأن 35% من الجرائم ارتكبت في مناطق وأحياء شعبية وان هؤلاء الجانحين ورثوا الفقر والجهل من عوائلهم وسيورثوه لأبنائهم مكونين دائرة حلزونية للجنوح والجريمة والانحطاط بكل اشكاله، وكشفت تقارير بأن 96% من هؤلاء الاطفال يتعرض للعنف الجسدي واللفظي، كما ان معظم الاطفال الذين التقيتهم عبروا بشكل وآخر عن كرههم للمجتمع وميولهم العدوانية ، ولنا أن نقدر هذا الكم الهائل من القنابل الموقوتة بيننا وحجم المأساة التي تهدد مستقبل البلد والمجتمع وهي تكشف مدى قصور الحكومات المتعاقبة عن محاصرتها وتحجيمها , فالحكومة اليوم مطالبة وتتحمل مسؤولية اعادة تأهيل هذه الشريحة ، واجتثاث جذور ظاهرة انتشار الاطفال في الشوارع سواء كان للعمل او التسول والتصدي لها من خلال:
إجراء دراسات ميدانية لمعرفة حجمها على الواقع وبالأرقام باعتبارها حالة منافية لاتفاقية حقوق الطفل الملزمة للبلدان التي وقعت عليها ومنها العراق ومنافية للدستور العراقي الذي تكفل بضمان حقوق الفرد بالتعلم والعيش الكريم والامان.
* تفعيل قانون رعاية الأحداث والذي يقضي بعرض الطفل إذا تم ضبطه على المحاكم المختصة بالأحداث واستدعاء ولي أمره وتقديم كفالة (250) الف دينار تستوفى في حالة ضبطه ثانية أو حجزه لمدة شهر وإيداعه دار رعاية الاحداث لتأهيله.
* على الحكومة تخصيص ميزانية لتمويل ودعم البرامج والمشاريع الموجهة للأطفال.
* تفعيل قانون التعليم الالزامي وتقديم الحوافز المادية كأن تكون مبلغا شهريا مهما يكن بسيطا سيشجعهم على الانخراط بالمدرسة.
* تفعيل قانون الضمان الاجتماعي للأسر الفقيرة لأن الفقر بالدرجة الأولى يقف خلف حالات التفكك الأسري.
إن حكومة معظم أفرادها يحمل شهادات عليا في مختلف العلوم جديرة في التخطيط والعمل بجدية لانتشال اطفال الشوارع والعكس يعدّ مباركة لإرهاب محلي ّجديد .. والله من وراء القصد.
اضف تعليق