في ظل التحولات الاجتماعية السريعة وانعدام الأمن وانتشار الفوضى وغياب دور القانون، تزايدت في العراق ظاهرة (التحرش الجنسي) التي تثير الحرج والحياء وتستفز الأعراف كما تنبذها المجتمعات المدنية بكل أشكالها، وقد كان المجتمع العراقي أكثر المجتمعات العربية والشرقية نبذا وأقلها تعاطيا لظاهرة (التحرش الجنسي)، كونه محافظا متمسكا بأعراف وتقاليد كان بالأمس القريب يحكي ويتفاخر بها واليوم مع دخول شتى التقنيات والانفتاح على أفكار تكاد تدوس بعجلتها على ما تبقى من أصالة وحضارة عرف بها الإنسان العراقي.. ولذا نجد من الأهمية الالتفات لخطورة هذه الظاهرة التي تفشت في الشارع والمدرسة والدائرة والجامعة والبيوت، ومعرفة أسبابها ومؤشرات انتشارها، وأسباب هذا الانتشار ونتائجه وطرق الحد منه وعلاجه لما يمثله من تهديد واختراق لهيكلية النظام الأخلاقي في المجتمع العراقي.
ويعرف (التحرش الجنسي) بأنه كل سلوك خارج عن نطاق اللياقة سواء كان كلاما، لمسة، إيماءة أو نظرة، وهو في كل أشكاله يشير إلى الابتذال ويعد تعديا واضحا على حرية الآخرين وكرامتهم . ولأن موضوع التحرش واسع ومتشعب سنتناوله في عدة مباحث ارتأينا أن نبدأ بأخطرها وهو التحرش الذي يستهدف الأطفال من كلا الجنسين، حيث تعتبر الطفولة من أهم مراحل النمو الإنساني وذلك لتأثيرها في تحديد معالم الشخصية الناضجة، ويعنى بالطفولة هنا الفترة العمرية دون سن الثامنة عشر والتي تتطلب رعاية خاصة وفي حال عدم توفر هذه الرعاية أو تعرضها لأي اختلال، سوف تسبب للطفل مشاكل وأمراضا نفسية كثيرة وقد يسلك الطفل سلوك الجاني كنوع من الانتقام والخوف الدائم من المستقبل.
ويعد التحرش الجنسي أشد الإساءات وقعا على نفسية الطفل وله آثار سلبية جسيمة يفترض أن ينال مرتكبها العقاب الرادع.
معظم حوادث التحرش يجري التكتم عليها!!
أجرت (شبكة النبأ المعلوماتية) استطلاعا البسيطة حول أكثر الأماكن خصوبة لهذه الظاهرة وكانت النتائج هي المدارس والأحياء الصناعية والشعبية والشوارع بعمومها حيث تنتشر (عمالة الأطفال) وهي بحد ذاتها تمثل خرقا لمواثيق (حقوق الإنسان).
ومعظم حوادث التحرش يجري التكتم عليها وقد تروى بتحفظ شديد لغرض حماية الضحية من نظرة المجتمع باعتبارنا مجتمع شرقي محافظ، وبذلك يترك (الجاني) بلا عقاب أو توبيخ ولا يجري فضحه في أغلب الأحيان ولذا فقد يكرر فعلته لأن (من أمن العقاب أساء الأدب).
إن عشرات الحوادث المؤسفة تجري في مدارسنا وشوارعنا وفي مدن ومناطق يجدر بها أن تكون مثالا يقتدى به في السلوك الإنساني، وفي هذا السياق تروي لـ(شبكة النبأ المعلوماتية) السيدة (ش .ش) التي هجّرت من بغداد بعد مقتل زوجها بأحداث الطائفية: عبثا حاولت إجبار إبني (الصف الثاني الابتدائي) للمواظبة على الدوام في المدرسة الجديدة وذلك بعد فترة أقل من شهر على انتقالنا من بغداد وبدأ ابني يفتعل شتى الأعذار ليتغيب من المدرسة، كان يبكي بحرارة ويتحمل الضرب والتوبيخ ويصر على مرافقته وانتظاره في باب الصف، وإذا لا أفعل كان يهرب من المدرسة ويذهب إلى مدرسة أخته المجاورة لمدرسته وكانت شكوكي في البداية تحوم حول أسلوب المعلمة معه والتهرب من الواجب المدرسي ولكن تبين أن المعلمة متعاطفة معه ولا تطلب منه غير الحضور في الصف ورغم تدخل المدير وتعاونه لم يتغير ابني حتى أصبحت (مرافقا دائما) على مستوى المدرسة والمنطقة، وفشلت كل المحاولات والمغريات والهدايا لتشجيعه على الدوام بل على العكس كان يتوسل كي انقله لمدرسة أخرى مع أبناء أقاربنا وحينما كنت أسأله عن الأسباب وهل هناك أحد يضربه أو يضايقه ينكر حتى اكتشفت بالصدفة البحتة بأن تلميذين (من الصف السادس) كانا يتحرشان به بطريقة مبتذلة جدا وقد هدداه بالضرب وتصفية (أمه) فيما لو أخبرها وقد صدّقهم صغيري المسكين ولذا خاف من مصارحتي، وتحدثت (ش. ش) لـ(شبكة النبأ المعلوماتية) عن معاناتها وشعورها بالحرج لمكاشفة مدير المدرسة بالأمر حيث قام بضربهما وطردهما من المدرسة مع استدعاء أولياء أمورهما، وتبين أنهم من عوائل فقيرة أحدهم ابن حارس المدرسة الذي يسكن في نفس البناية مع اسرته المكونة من ثمان ابناء وأمهم في غرفة واحدة!!!.
وتقول السيدة (ش ش) كنت مصدومة لأني لم ألحظ اهتماما جادا بالموضوع من قبل الإدارة وليس هناك أي دور للباحث الاجتماعي وشعرت حينها بخذلان شديد بينما تعهد لي المدير إن ابني سيكون في (الحفظ والصون) ولا داع لنقله أو توسيع المسألة وكأنه يترجاني كي لا يكون مؤشرا سلبيا على مدرسته في حين عاد (الجناة) بعد يومين إلى المدرسة بشكل طبيعي ولم يتخذ أي إجراء بحقهما ولو حتى (تنقيص درجات بسبب السلوك) كرد اعتبار لابني على الأقل.
وتعتبر( ش ش) إن رد فعل الإدارة لم يكن بمستوى السلوك المنحرف والضرر النفسي الذي لحق بطفلها ويبدو إن ذلك ليس بجديد ولا غريب وتتساءل لماذا لم يعد للإدارة دورا فعالا في رصد وتوجيه السلوكيات الخاطئة كما في السابق.
-أما الطالبة إيناس (أول متوسط) فتروي لـ(شبكة النبأ المعلوماتية) بحرج شديد لما حدث لها وكيف( تحرشت) بها إحدى زميلاتها في (دورة المياه) بطريقة مقززة ومنافية للأخلاق وحينما جابهتها (إيناس) لتردها للصواب كان جوابها بمنتهى الوقاحة بأنها (سوية) جدا وليس هناك حرام ولا مساس بالأخلاق مازالت لم تمارس (فعلتها الشنيعة) مع رجل!.
وحينما سألنا إيناس لماذا لم تبلغ الإدارة عن ذلك هزت بيدها وقالت باستهزاء (ليش المديرة تدري شيصير بالمدرسة! حتى لو عرفت معليها.. الشغله تايهه..)
-ويقول أبو سرمد لـ(شبكة النبأ المعلوماتية) (صاحب محل لتأجير الدراجات النارية): بحكم عملي لاحظت معظم حالات (التحرش بالأولاد) تبدأ من هنا حيث يستغل المنحرفون حاجة الضحية ورغبته في ركوب الدراجة، وغالبا ما يكون (المنحرف) معرفا للضحية كأن يكون من أهالي المنطقة جارا أو قريبا يطمئن له الطفل ثم يتم استدراجه والإيقاع به شيئا فشيئا، لقد ضاع الأمان بضياع الضمير والقيم، وأنا بدوري وكواجب إنساني حذرت الأطفال ونبهت أسر الذين أعرفهم لمتابعة أبنائهم.
-أما سحر (ثالث متوسط) فتتحدث بمرارة لـ(شبكة النبأ المعلوماتية) عن معاناتها اليومية في الذهاب والإياب بين البيت والمدرسة ومعاكسات بعض (عناصر الشرطة) والكلام الخارج عن اللياقة والذوق والعرف والقانون باعتبار إن الشرطة هم الجهاز التنفيذي للقانون، وأكثر ما يخيفنا أنا وزميلاتي هو التحرش الصادر من بعض عناصر الشرطة المنتشرين في شوارعنا ونظراتهم وتهامسهم ولا من رادع لهم، لمن نلجأ إذن ومن يحمينا إذا كان هؤلاء من شرطتنا!.
-هبة (طالبة إعدادية) والدها متوفي وهي أكبر إخوتها تعرضت وهي في الأول متوسط للتحرش من قبل أكثر من واحد من الأقرباء، مشكلتها إنها لم تصارح والدتها بالتحرش الأول ولجأت إلى قريبهم (64سنة) والذي كانت تعتبره كوالدها وتثق به لعله يحميها ولكنه بعد فترة عرض عليها (صفقة) مفادها أن يدللها أمام الآخرين ويقدم لها ما تشاء (ماديا طبعا) على أن تمنحه (المتعة) بمفاتنها دون أن يمس عفافها! كيف هو العفاف بمفهوم هذا الرجل ووفق أي مبدأ أو دين لا أعلم!! ذكرني حديث الفتاتين بقول الشاعر(إلى الماء يسعى من يغصّ بلقمة .... إلى أين يسعى من يغص بماء؟).
أهم الدوافع والأسباب
أولا: إن الأماكن المزدحمة والمكتظة ومنها مع شديد الأسف مدارسنا تمثل ما يطلق عليه علميا بـ (البيئة المحرضة على التحرش)، ففي هذه الأماكن يضعف وجود ما يسميه علماء الاجتماع بـ(المساحة الحضارية) وهي المساحة التي يتحرك فيها الفرد داخل المجتمع فكلما ضاقت هذه المساحة ازدادت الاحتكاكات والمشاكل ومظاهر العنف.
ثانيا: ازدواجية التربية والبيئة الأسرية والاجتماعية ويتمثل ذلك في التشدق بالاعراف والتعاليم الدينية الأخلاقية داخل الأسرة (شفاها) فقط وعدم الالتزام بها على أرض الواقع بل وتوفير شتى المسوغات مما يشجع على الانفلات الأخلاقي.
ثالثا: يعتبر الفقر والجهل والحرمان من الأسباب المشجعة للتحرش الجنسي وبذلك تكون مصدرا نشطا للتلوث الأخلاقي والتشوهات الاجتماعية.
رابعا: يشارك الاعلام في إشاعة هذه الظاهرة، فالاعلام بكل وسائله ومن خلال عرضه للأفلام والمشاهد الاباحية وبطرق مغرية يقوم بالتحريض على إبادة روح الالتزام بالعرف الاجتماعي.
خامسا: يجب علينا أن لا نغفل استفحال ظاهرة تعاطي المخدرات (والكبسلة) في مجتمعنا في الآونة الأخيرة وانتشارها بين الشباب على وجه الخصوص والتي تعمل على التلاعب بالتوازن العقلي وإلغاء الضبط النفسي والأخلاقي وتمنح لمتعاطيها فرصة الغيبوبة والانفلات.
سادسا: فقدان احد الاحتياجات الأساسية لدى بعض الأفراد تدفعهم لتعويضها واشباعها على حساب احتياج آخر وبطريقة غريزية وذلك حسب رأي (ابراهام أوسلو) عالم النفس الشهير وصاحب نظرية (الاحتياجات الأساسية) والذي يعتبر الجنس من ضمنها ويأتي في المرتبة الرابعة بعد الطعام والشراب والمسكن، ثم يأتي بعدها التقدير، الكرامة، الأمن والحب. وفي ظل ظروف بلدنا الراهنة فإن الفاقدين للاحتياجات الأساسية لا حصر لهم.
سابعا: ضعف الضابط الاجتماعي المتمثل ب ـ(الضمير) وغياب الضابط القانوني والذي يمثل ردعا لمن لا يردعه (ضميره).
كيف نحمي أطفالنا من التحرش؟
1) تثقيف أطفالنا وتزويدهم بالمعلومة الصحيحة وخلق علاقة من الصداقة الحميمة معهم لمنحهم الثقة بأنفسهم وبالوالدين.
2) منحهم الفرصة للتحدث عن أحلامهم وآمالهم ومشاكلهم ومخاوفهم من خلال إشعارهم بالأمان ودون حواجز.
3) متابعة الأطفال ومنعهم من الاختلاط بمن هم أكبر منهم وملاحظة تحركاتهم وعلاقاتهم بأصحابهم مع عدم إشعارهم بالرقابة.
4) توصية الطفل أن يروي لوالديه أحداث يومه بصورة منتظمة ومن خلال ذلك يتمكن الوالدان من تشخيص ما هو مريب وغريب للإحتراز واتخاذ الحيطة.
5) محاولة إيجاد فرص لتطوير الطفل وزجه بنشاطات متنوعة حسب ميوله وهواياته وإشعاره بالاهتمام والحب لإبعاد تفكيره عن كل ما هو مناف للطفولة.
6) حماية الأطفال من متابعة القنوات الفضائية التي تعرض برامج ومشاهد مخالفة للأخلاق وتوعيتهم عن كيفية استخدام الانترنت والاستفادة منه ورفض كل ما هو غير لائق.
ولكن الاحترازات التي تتخذها الأسرة مهما كانت فهي لوحدها غير كافية للحد من هذه الظاهرة إلا إذا رافقها تعاون مؤسساتي تربوي وقانوني، حيث يقع على الدولة العبء الكبير فيما يحدث لأطفالنا خاصة أولئك الذين يفتقدون الرعاية الأسرية بسبب التشرد والفقر والحرمان لأسباب اقتصادية وأمنية اضطرتهم للعمل والاختلاط بالكبار، وجعلت منهم غير أسوياء بطريقة وأخرى وهو بحد ذاته يعد خرقا لحقوق الانسان والإتفاقيات الدولية لحماية الطفولة، ولذا يجب إعادة تفعيل دور الباحث الإجتماعي في المدارس بل وتشكيل وحدة إرشاد اجتماعي تعالج هذا النوع من المشاكل في المدارس بمهنية عالية وسليمة.
كذلك نأمل من التربية الايعاز للمدارس بإعادة نظام (خفر الفرصة) كما كان معمولا به في السابق حيث تضع الإدارة جدولا يقوم وفقه (المعلم أو المعلمة) الخفر في أثناء الفرص بتفقد الساحة والصفوف ودورات المياه الصحية ورصد السلوكيات الخاطئة لتقويمها ومعالجتها، وكان هذا النظام معمولا به في معظم مدارس العاصمة سابقا، وبذلك يمكن للمدرسة أن تحافظ على قدسيتها وتؤدي رسالتها التربوية والتعليمية على أحسن وجه.
كذلك يجب على إدارات المدارس اتباع اسلوب المكاشفة وإبلاغ ذوي الطفل (الضحية) في حالة تعرضه لأية إساءة (جنسية) مهما كانت بسيطة بنظرهم واستدعاء ذوي (المسيء) لاتخاذ اللازم.
وعلى الرغم من أن المشرّع العراقي لم يغفل هذه الجريمة في مواد قانون العقوبات العراقي لكننا كمجتمع محافظ يتحاشى الناس فيه التحدث في مشاكل (التحرش)، ومعظمهم يتحرج ويحذر من اللجوء للقانون فيما لو تعرض طفله (لإساءة جنسية) لاعتبارات كثيرة، أولها الخوف من اهتزاز سمعة العائلة، والخوف من الفضيحة والتقولات وما يلحق بها من إشاعات، فنحن في مجتمع أكثر ما يراعى فيه (الظاهر) من الأمور أما (الجوهر) فلا يهمّنا مادام (مستورا) دون التفكير بمعاناة الطفل الذي وقع عليه التحرش ومدى تأثير ذلك على شخصيته مستقبلا.
رأي لابدّ منه
الخلل إذن لا يكمن في القانون ولكن في ضعف الوعي الاجتماعي والثقافة القانونية وعليه يجب على الإعلام أن يأخذ دوره في توعية الناس وتثقيفهم بطبيعة ظاهرة (التحرش الجنسي) وأشكاله ومصادره وأسبابه ومدى تأثيره على الطفل وخطورته وكيفية الوقاية منه ومحاربة من يمارسونه أيا كانوا.
وأود الإشارة هنا إلى أن مجرد السكوت والتستر على هذه الظاهرة لاعتبارات ومسوغات ما أنزل الله بها من سلطان جميعها تصب بشكل وآخر في حماية (الجناة والمنحرفين) وتعتبر جريمة قتل للقيم الإنسانية وانتهاك لبراءة الطفولة وصفائها.
وتقع على الدولة مسؤولية مكافحة هذه الظاهرة لأنها تجمع في قبضتها السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية ولكننا نعلم جيدا إن كل ما نقوله ونكتبه (هواء في شبك)! ولذا نعتقد إن على المؤسسات المعنية بحقوق الانسان والطفولة في بلدنا (مساعدة الدولة) وتأسيس مكاتب خاصة مهمتها معالجة قضايا (التحرش الجنسي) ومن خلالها يتم تقديم الشكاوى وايقاع العقاب بالمسيئين على أن يتم التحرك بسرية، حفاظا على كيان العوائل وسمعتها ودفعا للفضائح وفي نفس الوقت توفير فرصة للضحية لاستعادة كرامتها واعتبارها والتخلص من التأثيرات السلبية التي يخلفها التحرش في نفسية الطفل.
أخيرا نقول إن الحد من هذه الظاهرة ليس صعبا ولا مستحيلا في بلد يعد مهبط الرسالات الإنسانية والدينية ومهد الحضارات.
اضف تعليق