الذكاء الاصطناعي، هو ذكاء آلي أُنشئ ليحاكي قدرات عقل الإنسان في حل المشكلات واتخاذ القرارات لأداء مهام مختلفة ضمن البيئات التي يوضع فيها. أي إن الباحثين، وعلى الرغم من معرفتهم الضئيلة بكيفية عمل الدماغ، يحاولون قدر الإمكان صنع برمجيات تقلّد بعض وظائفه. وتستخدم تلك الأنظمة الخوارزميات وتقنيات مثل تعلم الآلة والتعلم العميق...
دخل العالم، منذ نهاية العام الماضي، حقبة تشهد تسارعاً غير مسبوق في مجال الذكاء الاصطناعي، وهو نتاج جهود انطلقت منذ الخمسينيات. هي المرة الأولى التي تقدّم الآلة شعوراً، ولو زائفاً، بأنها تملك نوعاً من الوعي خلال تفاعلها لغوياً مع البشر. هذا حدثٌ جلل! ومنذ إطلاق «تشات جي بي تي»، بدايةً، ثم النسخة المطورة «جي بي تي 4» من قبل شركة «OpenAI»، لم يهدأ «شعبُ الإنترنت» على منصات التواصل الاجتماعي. واللافت في الأمر، اختلاف المقاربات في التعامل مع روبوت الدردشة. فنجد «قبائل إنترنتية» تنبّهت إلى قدرته على تسهيل جني المال أو أداء مهمات مكتبية واستخدمته في ذلك، وآخرون سخروا من الهلوسات التي يكتبها أحياناً، وهناك من أنشأ محاكم عرفية قضت بإعلانه غباءً اصطناعياً... وبين هذا وذاك، تبرز الحاجة إلى إعادة تصويب المفاهيم العلمية حول تلك البرمجيات ووضعها في إطارها الصحيح. فما هو الذكاء الاصطناعي؟ وأين حدوده؟
الذكاء الاصطناعي، هو ذكاء آلي أُنشئ ليحاكي قدرات عقل الإنسان في حل المشكلات واتخاذ القرارات لأداء مهام مختلفة ضمن البيئات التي يوضع فيها. أي إن الباحثين، وعلى الرغم من معرفتهم الضئيلة بكيفية عمل الدماغ، يحاولون قدر الإمكان صنع برمجيات تقلّد بعض وظائفه. وتستخدم تلك الأنظمة الخوارزميات وتقنيات مثل «تعلم الآلة» و«التعلم العميق» و«الشبكات العصبية البرمجية» للتعلّم والتطوّر والتحسين التدريجي والتلقائي في المهام المعيّنة لها. وانطلاقاً من ذلك، تصنّف علوم الكومبيوتر الذكاء الاصطناعي إلى خاناتٍ ثلاث:
- الذكاء الاصطناعي الضيّق (Narrow AI) ويشار إليه أحياناً بالذكاء الاصطناعي الضعيف، هو نظام صُمّم لأداء مهمة محددة أو مجموعة من المهام ضمن نطاق محدود من القدرات. يُدرّب على حل مشكلة معينة أو مجموعة من المشكلات، مثل التعرّف إلى الصور أو معالجة اللغة أو ممارسة لعبة. وكل التطوّر في المجال هذا، حتى هذه اللحظة، يقع في الخانة هذه، مثل المساعدين الافتراضيين و«تشات جي بي تي» و«جي بي تي 4» و«لامدا» و«BARD» و«DALL-E 2» ولعبة «غو» والخوارزميات التي تحكم منصات التواصل الاجتماعي، كل تلك الأنظمة هي في خانة الذكاء الاصطناعي الضيّق. وصحيح أن التواصل معها بات أشبه بالتواصل مع البشر، إلا أنها أنظمة لا تدرك ولا تعلم ما الذي تقوم به. بمعنى أنها غير واعية لوجودها أو لوجودنا، ولا قدرة لها خارج ما تدربت عليه.
- الذكاء الاصطناعي العام (ِArtificial General Intelligence أو AGI)، هو مفهوم نظري لنظام ذكاء اصطناعي يمكنه أداء أي مهمة فكرية يمكن للإنسان القيام بها. بمعنى آخر، هو نظام لديه القدرة على التعلم والتفكير والتخطيط وحل المشكلات عبر مختلف المجالات والسياقات، بطريقة مرنة وقابلة للتكيف وخلاقة. وعلى عكس أنظمة الذكاء الاصطناعي الضيقة، تهدف أنظمة الذكاء الاصطناعي العام إلى امتلاك قدرة معرفية مماثلة لتلك التي لدى الإنسان. ويجب أن يكون النظام قادراً على فهم اللغة الطبيعية وليس فقط الإجابة، أي عليه أن يكون واعياً لما يقوله، والتعرف إلى الأنماط، والتعلم من التجربة، واتخاذ القرارات بناءً على البيانات والسياق المعقد، والتفاعل مع البشر بطريقة طبيعية وذات هدف. ويعتبر تطوير الذكاء الاصطناعي العام من أهم التحديات في مجال الذكاء الاصطناعي، حيث هناك عقبات أساسية متعلقة بالتعلم الآلي وهندسة الكومبيوتر والفلسفة والبيولوجيا والنفس. وفي حين يعتقد بعض الباحثين أنه يمكن تحقيق الذكاء الاصطناعي العام نهاية العقد الحالي أو المقبل، يعتقد البعض الآخر أنه لا يزال حلماً بعيد المنال.
- الذكاء الاصطناعي الخارق (Artificial Super Intelligence أو ASI)، هو حالة مستقبلية افتراضية للذكاء الاصطناعي حيث تتجاوز الآلات الذكاء البشري في جميع الجوانب. سيكون قادراً على أداء المهام الفكرية على مستوى يتجاوز القدرات البشرية، وسيكون لديه مستوى من الإبداع، والحدس، وقدرة على حل المشكلات التي لا نظير لها من قبل أي إنسان. هناك آراء مختلفة حول ما إذا كان يمكن تحقيق الوصول إلى هذا الذكاء أم لا. ومع ذلك، يعتقد بعض الخبراء في مجال أبحاث الذكاء الاصطناعي أنه يمكن تحقيق (ASI) في المستقبل من خلال تطوير خوارزميات متقدمة وإنشاء نظام ذكاء اصطناعي محسّن ذاتياً يمكنه التعلم والتطور من تلقاء نفسه من دون تدخل بشري.
بشكل عام، تعمل أنظمة الذكاء الاصطناعي الحديثة، من خلال التهام كميات هائلة من البيانات خلال عملية التدريب، وتحليل البيانات من أجل إيجاد الأمور المرتبطة والأنماط، واستخدام تلك الأنماط لتقديم نتائج وإجابات. بهذه الطريقة، يمكن أن يتعلم روبوت الدردشة، الذي تم تغذيته بأمثلة من الدردشات النصية، كيفية إجراء نقاشات تبدو حقيقية مع البشر، أو يمكن لأداة التعرف إلى الصور أن تتعلم تحديد الأشياء في الصور ووصفها من خلال التدرب على ملايين الصور. «تشات جي بي تي»، على سبيل المثال، دُرّب على مئات المليارات من الكلمات، ولديه 175 مليار «Parameters» بمعنى معيار، وتلك المعايير في سياق التعلم الآلي، وبشكل مبسط، كلما كانت مدربة بشكل جيد كلما أتت النتيجة واقعية وطبيعية. فعلى سبيل المثال، إن قلت لروبوت الدردشة كلمة «بيروت»، فجوابه الأول سيكون: «هي عاصمة لبنان». وحصل ذلك لأن تلك الإجابة لديها أعلى احتمال في المعايير. ولو أعدنا السؤال، قد يقول: سويسرا الشرق (معاذ الله!)، وهذا لأن الإجابة الثانية كانت التالية بحسب ترتيب المعايير. وما حصل هو تنبؤ صحيح في الكلمة التالية في الجملة. «محرك التنبؤ» (prediction engine) في النظام، أخذ ما كتبه المستخدم، حلله مع المعايير التي لديه وأعطى أفضل إجابة ممكنة. وكلما كان عدد المعايير أعلى، كلما كانت النتائج باهرة وواقعية أكثر. ولدى النسخة الجديدة «جي بي تي 4» عدد معايير أعلى (رفضت الشركة الإعلان عن العدد) ومع ذلك، تقول «OpenAI» إن النسخة الجديدة تقدم هلوسات أقل بنسبة 40 في المئة من «تشات جي بي تي».
انطلاقاً مما سبق، من غير المنطقي محاكمة أي ذكاء اصطناعي حالياً على أنه ذكاء اصطناعي عام (AGI)، أو مقارنته بأداء العقل البشري. لم يدّع أي خبير في هذا المجال غير ذلك ولم تعِد أي شركة منتجة لتلك الأنظمة بأنها وصلت إلى غير ذلك. وهناك من تختلط عليه الأمور بين الوعي والحياة والذكاء.
يتتبع دايول لي، أستاذ بلومبيرغ المتميز في علوم الأعصاب والعلوم النفسية والدماغية، في كتابه «ولادة الذكاء» (مطبعة جامعة أكسفورد، 2020)، تطور الدماغ والذكاء من الحمض النووي الريبي المتكاثر ذاتياً إلى أنواع مختلفة من الحيوانات والبشر وحتى أجهزة الكمبيوتر من أجل معالجة الأسئلة الأساسية حول الذكاء، مثل الأصل، النمو وقيوده، ويقول إنه يمكن تعريف الذكاء بأنه القدرة على حل المشكلات المعقدة أو اتخاذ القرارات بنتائج تفيد الفاعل. وأنه قد تطور (الذكاء) في أشكال الحياة للتكيف مع البيئات المتنوعة من أجل بقائه وتكاثره. بالنسبة للحيوانات، يعتبر حل المشكلات واتخاذ القرار من وظائف أجهزتها العصبية، بما في ذلك الدماغ، لذلك يرتبط الذكاء ارتباطاً وثيقاً بالجهاز العصبي. ومن هذا المنطلق، يوضح أن الذكاء الاصطناعي، الذي يعتمد على تقنيات تحاكي تلك الآليات مثل تقنية الشبكات العصبية البرمجية، تجاوزت الذكاء البشري بشكل مطرد في العديد من المجالات الفردية، بما في ذلك ألعاب «ألفا غو» و«الشطرنج» أو معالجة ملايين البيانات في لحظات.
ودفع هذا النجاح بعض الباحثين إلى تكهن الوصول الوشيك للذكاء الاصطناعي الذي يتجاوز الذكاء البشري في كل مجال، وهو حدث افتراضي يسمى «التفرد التكنولوجي». وغالباً ما يشار إلى هذا الذكاء الاصطناعي باسم الذكاء الاصطناعي العام أو الذكاء الخارق. ومع ذلك، من وجهة نظره، يتطلب الذكاء الحقيقي الحياة، التي يمكن تعريفها على أنها عملية تتكاثر جسدياً من تلقاء نفسها. لذلك، يعتقد أن الذكاء الخارق هو إمّا أمر مستحيل أو شيء في المستقبل البعيد.
في النسخة الرابعة من كتاب «artificial intelligence: a modern approach»، لستيوارت راسل وبيتر نورفيغ، والصادرة عام 2020 والمستخدمة في أكثر من 1500 جامعة حول العالم، تُقدّم نظرة عامة وشاملة على مجال الذكاء الاصطناعي، بما في ذلك مواضيع مثل حل المشكلات، وإظهار المعرفة، والتخطيط، ومعالجة اللغة الطبيعية، والتعلم الآلي، والروبوتات (يشيع استخدام الكتاب للطلاب الجامعيين والباحثين الأكاديميين في تخصصات الذكاء الاصطناعي، ويعتبر مرجعاً في هذا المجال). يحدّد الكاتبان أربعة تعريفات للذكاء الاصطناعي، يمكن الوصول إلى كلٍ منها عبر طريقة مختلفة:
«تاريخياً، تابع الباحثون إصدارات مختلفة من الذكاء الاصطناعي. حدد البعض الذكاء في شرط أن يكون مخلصاً للأداء البشري، بينما يفضل البعض الآخر تعريفاً تجريدياً رسمياً يسمى العقلانية أي القيام (بالشيء الصحيح). ومن هذين البعدين - الإنسان مقابل العقلاني والفكر مقابل السلوك - هناك أربعة مجموعات ممكنة، وكان هناك مؤيدون وبرامج بحثية لجميع الأربعة. والأساليب المستخدمة للوصول إلى كلٍ منها مختلفة بشكل ضروري: فالسعي وراء ذكاء يشبه الإنسان يجب أن يكون في جزء منه علماً تجريبياً متعلقاً بعلم النفس، يتضمن ملاحظات وفرضيات حول السلوك البشري الفعلي وعمليات التفكير؛ في حين أن النهج العقلاني، يتضمن مزيجاً من الرياضيات والهندسة، ويرتبط بالإحصاء، كما نظرية التحكم وعلم الاقتصاد». وانطلاقاً من ذلك، يطرح الكتاب سؤالاً بالغ الأهمية: هل نهتم بالتفكير أم بالطريقة؟ هل نريد أن نخلق نموذجاً بشرياً داخل الآلة؟ أم نحاول صنع أنظمة تحقق أفضل النتائج للبشر؟ وهذه أسئلة قد تحدد مصير ما يحاول البشر صنعه عبر الآلة.
تاريخ الذكاء الاصطناعي مليء بالإنجازات والخيبات. ولقد نضج بشكل كبير مقارنة بالعقود الأولى من عمره، نظرياً ومنهجياً. ونظراً لأن المشكلات التي يتعامل معها الذكاء الاصطناعي الحالي أصبحت أكثر تعقيداً، فقد أصبح المجال نفسه أكثر صعوبةً. وانتقلت التقنية من المنطق البوليني إلى التفكير الاحتمالي، ومن البرمجيات المسبقة إلى التعلم الآلي من البيانات. مقاربات برمجية سقطت وأخرى عَلَت. لكن الأكيد أن ما بعد «تشات جي بي تي» ونماذج اللغة مثله والقادمة من مختلف شركات التكنولوجيا، لن تشبه ما سبق.
اضف تعليق