المشكلة التي سيثيرها وجود فلاتر روبوتات الذكاء الاصطناعي، أن منح الحرية لهذه الروبوتات من دون قيود، قد تكون له عواقب هائلة، فعلى سبيل المثال، سيتاح توجيه سؤال عن كيفية صنع قنبلة، فتأتي الإجابة خطوة بخطوة مرفقة بأمثلة، أو قد يبدأ الذكاء الاصطناعي بإلقاء نكات عنصرية أو إهانات بحقّ مختلف المجتمعات...
منذ إطلاق روبوت الدردشة «تشات جي بي تي» من قبل شركة «openAI» أواخر العام الماضي، انفجر الصراع على الاستثمار في هذه الأداة التي تعكس اتجاهاً أيديولوجياً تُبنى عليها أجوبة مؤطّرة في مقاربة أحادية. هو متحيّز يتبنّى وجهة محدّدة في كل المعرفة التي يقدّمها. على الأقل هكذا بدا للعموم، وهو ما أثار سلسلة من الأسئلة: هل هو مقيّد في قول ما يخالف معايير مجتمع ما؟ هل سيخرج ذكاء اصطناعي آخر يقدّم مقاربات مناقضة أو مختلفة؟ هل هذا "الربوت" يدفع مموّلي اتجاهات أخرى إلى الاستثمار في "روبوت" لديه قيم مختلفة وفلاتر أخرى؟
بخلفية هذه الأسئلة، انطلق سباق تنافسي محتدم لجمع مليارات الدولارات لتمويل منصات ذكاء اصطناعي بتوجهات سياسية واقتصادية واجتماعية مغايرة. هي اندفاعة نحو «تفريخ» منصّات ذكاء اصطناعي أوقد «تشات جي بي تي» النار تحتها. فقد أعلن محرّك البحث الصيني «بايدو»، أنه يرسم خطة لإطلاق روبوت دردشة خاص به في آذار الجاري، ويدعى «إيرني» (ERNIE). وهذه خطوة تتماهى مع الأولوية الاستراتيجية للصين لتصبح قوّة علمية وتكنولوجية عظمى. أيضاً برزت مشاريع مماثلة قيد التنفيذ لدى عمالقة التكنولوجيا الصينية مثل «هواوي»، «علي بابا»، «تنسنت»، و«جاي دي»، فضلاً عن كبريات المؤسّسات ومن بينها «أكاديمية بكين للذكاء الاصطناعي».
الصحف الغربية انتقدت التوجهات الصينية بالإشارة إلى أن مساعيها ستصطدم مع نظام الرقابة الصيني لأن الحزب الشيوعي الصيني قد يعيق بشكل كبير تطوير ونشر روبوتات الدردشة نظراً إلى حاجته إلى «السيطرة على مساحة المعلومات على الابتكار والإبداع»، وزعمت أن الصين ستجد نفسها متخلّفة عن الغرب في سباق الذكاء الاصطناعي. لكن يبدو أن الانتقادات الغربية تغافلت عن أن «تشات جي بي تي» منحاز. فقد باتت منصّة «تويتر» تضجّ بصور وفيديوات لمستخدمين طلبوا منه كتابة شعر يمدح الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن، ففعل ذلك، إلا أنه رفض القيام بالمثل عن الرئيس السابق دونالد ترامب. كذلك رفض كتابة نكات عن النساء، بينما كتب عن الرجال. وفيما اعتُبر «تشات جي بي تي»، ذراعاً رقمية في يد الحزب الديموقراطي، كشف موقع «ذي إنفورمايشن»، أن إيلون ماسك يتواصل مع باحثين في مجال الذكاء الاصطناعي لتأسيس مختبر أبحاث جديد؛ من مهامه تطوير بديل من «تشات جي بي تي»، ووظّف إيغور بابوشكين، الباحث الذي ترك منصبه السابق في قسم الذكاء الاصطناعي «DeepMind AI» الخاص بـ«الفابت» الشركة الأمّ لـ«غوغل»، للعمل لدى «تويتر» من أجل إطلاق روبوت دردشة مواجه لـ«تشات جي بي تي». ماسك عبّر عن هذا الانقسام بالإشارة إلى أن "العالم بحاجة إلى روبوت دردشة غير ليبرالي وغير منحاز إلى ثقافة اليقظة.
في المقابل، تبيّن أن الصينيين أصدروا تعليمات لشركات التكنولوجيا الصينية الرئيسية بعدم تقديم خدمات «تشات جي بي تي» وسط قلق متزايد في بكين بشأن الردود غير الخاضعة للرقابة لروبوت الدردشة المدعوم بالذكاء الاصطناعي على استفسارات المستخدمين. والتبرير الذي قدّم على صفحات صحيفة «تشاينا ديلي»، أن روبوتات الدردشة الآلية «يمكن أن تقدّم يد العون للحكومة الأميركية في نشرها للمعلومات وتلاعبها بالروايات العالمية من أجل مصالحها الجيوسياسية».
وفيما انخرطت روسيا في هذا التنافس على الفلتر الذي سيوضع على فم الذكاء الاصطناعي، معلنة أنها ستموّل مشاريع في هذا المجال بنحو مليارَي دولار، بدأت تظهر اتجاهاته الاقتصادية أيضاً. إذ إن «بنك أوف أميركا» متفائل بشأن تأثير الذكاء الاصطناعي على الأعمال، ويعتقد أن كل قطاع في الاقتصاد سيتأثر بهذه الفورة، ولو بشكل متفاوت. وفي مطلع الشهر الحالي، نشر المصرف الأميركي قائمة بأسهم شركات يرى أن المستثمرين قد يرغبون في شرائها للاستفادة من الفورة الحالية.
أما القطاعات التي قد يغيّرها «تشات جي بي تي» وأمثاله القادمون، فهي: البرمجة، صناعة أشباه الموصلات، مراكز البيانات، الأمن السيبراني، محرّكات البحث، التعليم، الميديا، الموسيقى، القضاء، الطبابة عن بعد (Telemedicine)، الصيدلة، المصارف، والـ«FinTech». وقد يحاجج البعض أن التغيّر ليس سهلاً، إذ إنّ من غير المرجح أن يدخل الذكاء الاصطناعي هذه المجالات فيقلبها رأساً على عقب في غضون سنة، لكن النماذج الماثلة تشير إلى العكس؛ فكم من الوقت استغرقت «أوبر» حتى توقف الناس عن رفع أيديهم أو الصفير طلباً لسيارة أجرة؟ العالم يتغيّر وبسرعة.
بهذه الخلفية، بدأ تخصيص الأموال لكل ما يتعلق بإنتاج ذكاء اصطناعي. تقول «ستاتيستا»، إن حجم سوق الذكاء الاصطناعي حول العالم بلغ أكثر من 320 مليار دولار اعتباراً من عام 2021، علماً أن عدد عمليات الاستحواذ على الشركات الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي ازداد بشكل مطّرد منذ عام 2010. فقد نما بأربعة أضعاف تقريباً بين عامَي 2015 و2018. وبالتوازي، ازداد تمويل الشركات الناشئة حول العالم في مجال الذكاء الاصطناعي، من نحو مليار دولار في 2013 إلى 8.5 مليارات دولار في نهاية آذار 2020، وخلال السنتين التاليتين، زاد إجمالي الاستثمار العالمي السنوي في الشركات الناشئة العاملة في مجال الذكاء الاصطناعي بقيمة خمسة مليارات دولار، أي نحو ضعف استثماراتها السابقة. ويأتي معظم هذا التمويل من رأس المال الخاص للشركات الأميركية.
وأحدث شركات الذكاء الاصطناعي التي يتم تمويلها بأعلى نسبة، هي الشركات التي تُعنى بتقنية التعلّم الآلي وروبوتات الدردشة (مثل تشات جي بي تي)، مع التركيز على التفاعل البشري مع الآلات. وتوقعت شركة أبحاث السوق «IDC»، أن يصل حجم سوق الذكاء الاصطناعي العالمي إلى أكثر من نصف تريليون دولار بحلول عام 2024. وهناك أبحاث أخرى تقدّر أن تنمو هذه السوق لتتخطى 1.5 تريليون دولار بحلول عام 2030.
ما قبل تشات GPT وما بعده
كان محرّك البحث «غوغل» يسيطر على معظم عمليات البحث التي تتم بواسطة الإنترنت، ما أتاح له أن يصبح «حارس بوابة الإنترنت». بهذا المعنى، فإن النتائج التي تظهر للمستخدم، تكون مدفوعة بالإعلانات، أو بتوجه سياسي معين يضمن سردية على أخرى. ورغم أن هناك ملايين المواقع الإلكترونية الموجودة في العالم السيبراني، يجد المستخدم نفسه أمام المواقع التقليدية ذاتها، الأمر الذي يحدّ من مصادر المعلومات التي يتلقّاها، وبالتالي ضمان عدم خروجه بعيداً من السرب. لكن هذا لم يكن يعني أنه ليس متاحاً للمستخدم أن يغرق في دهاليز عملية البحث، وربما يختار محركاً بحثياً آخر مثل «DuckDuckGo» أو «Yandex» الروسي، واللذين يضمنان حصوله على نتائج مختلفة.
وهذا ما يجعل الذكاء الاصطناعي أداة أكثر خطورة في هذا الصراع، فما سبق أن هيمنت غوغل عليه، يبدو مجرّد نزهة أمام ما يحصل اليوم. إذ إن روبوت دردشة مثل «تشات جي بي تي»، لا يقدم روابط لمواقع إلكترونية مثل نتائج بحث «غوغل»، إنما إجابات مباشرة وأحياناً بصيغة نخبوية متعالية. المتضرر الأول من هذه الميزة هو المواقع الإلكترونية التي تعتمد على الإعلانات، فمن دون حركة دخول إليها من قبل المستخدمين، لن تستطيع جذب إعلانات وبالتالي جني المال، وهو ما يضرب نموذج عمل جني المليارات لشركات مثل «غوغل». والمتضرر الثاني والأكبر هو المستخدم نفسه، الذي يجد أن أبواب المعرفة وأدوات تشكيل الوعي والرأي باتت مختصرة في روبوت واحد.
حرية بلا قيود؟
المشكلة التي سيثيرها وجود فلاتر روبوتات الذكاء الاصطناعي، أن منح الحرية لهذه الروبوتات من دون قيود، قد تكون له عواقب هائلة. فعلى سبيل المثال، سيتاح توجيه سؤال عن كيفية صنع قنبلة، فتأتي الإجابة خطوة بخطوة مرفقة بأمثلة، أو قد يبدأ الذكاء الاصطناعي بإلقاء نكات عنصرية أو إهانات بحقّ مختلف المجتمعات...
اضف تعليق