انتهى عصر البشر. ألم تحذّرنا أفلام الخيال العلمي؟ انظروا كيف أطاح سكاينت العالم في غضون لحظات؟ انتهى الأمر. الذكاء الاصطناعي تسلّم زمام الأمور، هذه بعض من التعليقات التي رُصدت خلال الأسابيع القليلة الماضية بعدما أطلقت شركة OpenAI، للعموم، نموذج اللغة الطبيعية الخاص بها تشات جي بي تي...
«انتهى عصر البشر. ألم تحذّرنا أفلام الخيال العلمي؟ انظروا كيف أطاح «سكاينت» العالم في غضون لحظات؟ انتهى الأمر. الذكاء الاصطناعي تسلّم زمام الأمور...» هذه بعض من التعليقات التي رُصدت خلال الأسابيع القليلة الماضية بعدما أطلقت شركة «OpenAI»، للعموم، نموذج اللغة الطبيعية الخاص بها «تشات جي بي تي» (ChatGPT). تعليقات كهذه وغيرها، تثير مجموعة أسئلة بديهية: ما هو هذا النموذج؟ كيف يعمل؟ من وراءه؟ كم استُثمر فيه؟
نموذج حديث
يحبّ البشر إنشاء نماذج تجعل الأشياء أقلّ فوضوية وتفسح المجال أمام الربح السهل والسريع؛ نموذج يحلّل الطقس، وآخر يحلّل مؤشّرات الأسهم... «النمذَجَة» باتت نمطاً منتشراً. وهذا يشمل ما يُسمّى «الذكاء الاصطناعي» الحديث، الذي يعتمد على مبادئ مثل «تعلّم الآلة» و«التعلّم العميق» عبر شبكة عصبية برمجية (NPL) تعمل بشكل يشبه آلية عمل الدماغ البشري. نماذج «الذكاء الاصطناعي» مبنية على إنشاء برامج قادرة على التعلّم والتدرّب على أمر واحد محدّد. فعلى سبيل المثال، يتم تغذية برنامج التعرف على صور القطط بمليارات صور القطط التي تغزو الويب، فيتدرّب البرنامج على أن هذا هو شكل القطّة. هكذا، يصبح النموذج البرمجي قادراً على تبيان وجود القطط في أي صورة تعرض عليه. وإذا أنشأ برنامجاً آخر ودُرّب على اللغة، سواء بشكلها المحكي، أو وفق قواعدها الأساسية، فسينتهي المطاف بوجود برنامج لغوي قادر على الكتابة من خلال التدرّب على أنماط الكتابة المنتشرة حول العالم.
بداية ChatGPT كانت في أواخر عام 2015، حين قررت مجموعة، من بينهم إيلون ماسك، وسام ألتمن، إنشاء منظمة غير ربحية تدعى «OpenAI»، هدفها بناء برنامج ستّسم بما سمّته «الذكاء الاصطناعي» ليكون متاحاً لكل الناس. وافترضت أن برنامجاً كهذا، سيساعد الناس في مهامهم اليومية، وسيحميهم من «أنظمة الذكاء الاصطناعي» الذي تبنيه الحكومات والشركات الخاصة. لكن في عام 2018، أعلن ماسك انسحابه من هذا المشروع وكشف لاحقاً أن المنظمة تعمل بشكل مريب وسرّي وإن لم يعد يتفق معهم. في المقابل، أعلنت «OpenAI» تحوّلها من منظمة غير ربحية إلى شركة محدودة الربحية، ما سيوفّر لها المال الكافي لإنهاء البرنامج الذي تطمح إليه. لاحقاً، استثمرت شركة «مايكروسوفت» مليار دولار على شكل «سوبر كومبيوتر» يحتوي على برنامج الشركة المنتظر. وبحسب «نيويورك تايمز»، فإن الشركة خصّصت سرّاً مليارَي دولار إضافيين لهذا المشروع.
استفاد الطرفان من هذه المقايضة؛ «مايكروسوفت» حصلت على حقوق وامتيازات تتيح لها إنشاء وربط ونشر منتجات جديدة تعتمد على هذه التكنولوجيا بشكل أحادي. في المقابل، توالت إنجازات «OpenAI» سريعاً، إذ إنه في عام 2020 أطلقت الشركة برنامج ذكاء اصطناعي سمّته «GPT-3»، وهو قادر على إنشاء نصّ من تلقاء نفسه بما في ذلك التغريدات والمدوّنات والمقالات وحتى كود برمجي بسيط. وفي العام الماضي، كشفت الشركة النقاب عن «DALL-E» القادر على رسم صور بمجرد وصف المستخدم لما يريده. وبالاستناد إلى نفس تقنية «GPT-3»، أطلقت الشركة في كانون الأول الماضي «ChatGPT» بشكل مجاني على الإنترنت، وانتشر كالنار في الهشيم مدفوعاً بالضجيج الذي بدأ عبر «تيك توك» ليصبح في غضون أيام قليلة، روبوت الدردشة الذي اختبره الملايين حول العالم.
آلية عمل «ChatGPT»
هو اختصار لعبارة: Chat Generative Pre-trained Transformer. وهو نموذج لغوي، يعمل عبر الاحتمالات، إذ إنه قادر على تخمين ما يجب أن تكون الكلمة التالية في العبارة، بدقّة متناهية. حصل ذلك بواسطة تقنيات التعلّم الآلي التي تتطلب استخدام مدربين بشر وتزويد البرنامج بتسميات أو عناوين صريحة للبيانات التي يتدرّب عليها. وهذا أمر بالغ الأهمية، لأن الأجوبة الصحيحة التي يمنحها البشر له، تعلّمه وتساعده على تكوين قاعدة للمعرفة. بشكل أو بآخر، تكون معرفة «موجّهة»، أي أنها تتأثر بالأيديولوجيا والاصطفافات السياسية والمعتقدات البشرية. لذا، هو برنامج يعطي إجابات أفضل بكثير من «غوغل» الذي يقدّم مجموعة من المواقع الإلكترونية حيث يُترك للمستخدم انتقاء ما يريده منها بعد تصفخها واحدة واحدة. في المقابل، هناك روبوت محادثة قادر على تقديم إجابة مباشرة. ولأن آلية عمله مبنية على قواعد أدخلت في البرنامج، فهي منحازة وتذوب في سردية واحدة عالمية. فعلى سبيل المثال، يختار «ChatGPT» كلماته بعناية فائقة، كي لا يتلفّظ بأمر يُحتمل أن يكون غير «بوليتكلي كوركت»، أو مضادّ لثقافة «اليقظة» (wokeness). كذلك تمّت تغذيته بمجموعة بيانات هائلة من الكتب والمقالات وجزء كبير من محتوى الإنترنت حتى عام 2021 فقط، وبحسب إيلون ماسك فإنه كانت لديه القدرة على الوصول إلى كل محتوى «تويتر».
المنافسة التجارية
أهمية «ChatGPT» أنه بات قادراً على منافسة «غوغل»، وربما تحطيم مسيرتها. فمنذ 1997 هيمن محرك البحث «غوغل» على سوق عمليات البحث عبر الإنترنت. أحدث إحصاءات «ستاتيستا»، تشير إلى أن «غوغل» يستحوذ على 84% من عمليات البحث على الويب حول العالم، وتليها «مايكروسوفت» بنسبة 9% عبر محركها البحثي «بينغ». وغالبية عائدات «غوغل» تأتي من الإعلانات. فعلى سبيل المثال، بلغ إجمالي الإيرادات العالمية للشركة في الربع الثالث من عام 2022، نحو 69 مليار دولار، منها 54.5 مليار دولار من الإعلانات. وكانت «Alphabet»، الشركة الأمّ لـ«غوغل» واحدة من أكبر شركات الإنترنت في جميع أنحاء العالم اعتباراً من عام 2022، برأسمال قيمته 1.9 تريليون دولار.
عملياً، كانت «غوغل» منيعة تجاه المنافسة. غير أن رهان المدير التنفيذي لـ«مايكروسوفت» ساتيا ناديلا، على «OpenAI»، بدأ يصبح خنجراً شُحذ على مدار سنوات ببطء، منتظراً دخول خاصرة أكبر محرك بحثي في العالم. فالشركة تستعدّ اليوم لتحدّي عملاق محرّكات البحث «غوغل» بواسطة تكنولوجيا «Disruptive» (لأنها تخرب القواعد القديمة من أجل إنشاء قواعد جديدة) فتهدد إمبراطورية «غوغل» التي تولّد الإيرادات من الإعلانات التي تظهر خلال عملية البحث. فعلى الغالب، إن النتائج التي تظهر في الصفحة الأولى من البحث بواسطة «غوغل» موجودة هناك بسبب الإعلانات. لذا، فإن تقنية «ChatGPT» التي تقدّم الإجابة مباشرة، تضرب نموذج عمل «غوغل» في أساساته. لكن اللافت أن «مايكروسوفت» تتفاوض بهدف استثمار 10 مليارات دولار أخرى في «OpenAI»، ساعية إلى دفع تقنيّتها أبعد، الحديث هنا عن «Artificial General Intelligence» أو الذكاء الاصطناعي العام، حيث يتساوى الذكاء الاصطناعي عندها بالمقدرة مع الدماغ البشري.
إذاً، ما جدوى استثمار «مايكروسوفت» في «OpenAI» مع أنها ستصرف 10 آلاف موظف؟ قد تكون هذه الشركة ساعية ليصبح هذا البرنامج الحجر الأساس، يُبنى فوقه توجّهات وصولاً إلى نموذج اللغة الشامل للأفراد والشركات، الذين سيدفعون لـ«مايكروسوفت» مقابل هذه الخدمة. وبدورهم، سيبنون برامج فوق الذكاء الاصطناعي. فهذا النموذج أو البرنامج المسمّى «ذكاء اصطناعي» يشبه نظام التشغيل على الهاتف الخلوي، والتطبيقات التي ستحمّل عليه هي طبقات تعمل بواسطته ومن خلاله.
نحو الوعي؟
لكن حتى الآن، ما زال «ChatGPT» مجرّد روبوت دردشة تدرّب في حضن القيم الغربية. هو مؤدلج بطبيعة الحال، وليس على ذلك المستوى من الفعالية. يستطيع الكتابة واختصار المقالات وإنشاء كلماتٍ لأغانٍ وتعريف أصعب النظريات الفيزيائية بأسهل الطرق، أجل، وكذلك هو قادر على أن يكتب معلومات زائفة بشكل يجعلها تبدو حقيقية. وبالمناسبة، لا يجب أخذ ما يكتبه من إجابات - أقلّه حتى الآن - على محمل الجد، ويجب التأكد من كل ما يقدّمه لنا. كذلك، هو غير قادر على التفكير، بمعنى أنه ليس كياناً مدركاً لنفسه ولأفكاره، ليس واعياً، هو غير قادر على الإتيان بحلّ لمشكلة لم يجد لها البشر حلاً. هذه النسخة من «ChatGPT» رقمها 3.5، لذا يمكن التساؤل عما ستكون عليه النسخة 4.0 والنسخة 5.0. لذا، يتوجب أن يتدرّب المستخدمون على كيفية التواصل مع هذا الروبوت بشكل فعّال ليؤمّن لهم المساعدة في مهامهم اليومية، وخصوصاً أن هذا ما ستكون عليه طريقة البحث عبر الويب في القريب. الأمر يشبه القول للناس أن يتدرّبوا على «غوغل» في عام 1997.
اضف تعليق