وعلى رغم ظهور إجماع حول التهديد الذي تشكله شركات التكنولوجيا العملاقة على الديمقراطية، فإن هناك خلافاً واضحاً حول كيفية الرد على ذلك، إذ جادل البعض بأن الحكومة بحاجة إلى القضاء على فيسبوك وغوغل. في المقابل، دعا آخرون إلى قوانين أكثر صرامة تحد من استغلال تلك الشركات للبيانات....
بقلم: فرانسيس فوكوياما، باراك ريتشمان، آشيش غويل
من بين التحولات المتعددة التي تحدث في الاقتصاد الأميركي، يتمثل التحول الأبرز على الإطلاق بنمو منصات الإنترنت العملاقة. إن شركات "أمازون" و"أبل" و"فيسبوك" و"غوغل" و"تويتر" التي كانت قوية بالفعل قبل جائحة كورونا، قد ازدادت قوتها أثناء الجائحة، مع انتقال تفاصيل كثيرة في حياتنا اليومية إلى شبكة الإنترنت. وبقدر ما تعد التقنية المعتمدة فيها مناسبة وسلسة، إلا أن ظهور مثل تلك الشركات المهيمنة يجب أن يدق نواقيس الخطر. ولا يعود السبب في ذلك إلى تمتعها تتمتع بقوة اقتصادية هائلة فحسب، بل لأنها أيضاً تتحكم بشكل كبير في الاتصالات السياسية أيضاً. في الواقع، تسيطر تلك الشركات العملاقة الآن على نشر المعلومات وتنسيق التحشيد السياسي. ويحمل ذلك تهديدات فريدة تحدق بديمقراطية ناجحة.
وبينما سعى الاتحاد الأوروبي إلى إنفاذ قوانين مكافحة الاحتكار ضد هذه المنصات، أظهرت الولايات المتحدة استجابة أضعف وأكثر خجلاً، لكن هذا بدأ يتغير. فعلى مدار العامين الماضيين، بدأت "لجنة التجارة الفيدرالية" Federal Trade Commission إلى جانب ائتلاف من المدعين العامين، في إجراء تحقيقات حول سوء استخدام محتمل للسلطة الاحتكارية التي تتمتع بها تلك المنصات. وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2022، رفعت وزارة العدل دعوى مكافحة احتكار ضد شركة "غوغل". وحاضراً، أصبح منتقدو عمالقة التكنولوجيا يشملون الديمقراطيين الخائفين من التلاعب الذي يمارسه المتطرفون المحليون والأجانب، والجمهوريين الذين يعتقدون أن المنصات الكبيرة متحيزة ضد المحافظين. في غضون ذلك، تسعى حركة فكرية متنامية، بقيادة زمرة من علماء القانون المؤثرين، إلى إعادة تفسير قانون مكافحة الاحتكار من أجل مواجهة هيمنة المنصات الشبكية.
وعلى رغم ظهور إجماع حول التهديد الذي تشكله شركات التكنولوجيا العملاقة على الديمقراطية، فإن هناك خلافاً واضحاً حول كيفية الرد على ذلك، إذ جادل البعض بأن الحكومة بحاجة إلى القضاء على "فيسبوك و"غوغل". في المقابل، دعا آخرون إلى قوانين أكثر صرامة تحد من استغلال تلك الشركات للبيانات. ومن دون طريق واضح نحو الأمام، لجأ عدد من النقاد إلى الضغط على المنصات كي تضع ضوابط رقابية ذاتية، وشجعوها على إزالة المحتوى الخطر وتأدية عمل أفضل في تنظيم البيانات الموجودة على مواقعها. ولكن، لا تدرك سوى قلة أن الأضرار السياسية التي تسببها منصات الإنترنت أكثر خطورة من الأضرار الاقتصادية، وثمة حفنة صغيرة تفكر في طريقة للمضي قدماً، تتمثل في إلغاء دور المنصات كحماة للمحتوى. ويستلزم هذا النهج دعوة مجموعة جديدة من شركات "البرامج الوسيطة" الكفؤة كي تقدم للمستخدمين سبلاً تمكنهم من اختيار طريقة وصول المعلومات إليهم. ومن المرجح أن يكون ذلك أكثر فاعلية من الجهد الخيالي الرامي إلى تفكيك تلك الشركات.
قوة منصات الإنترنت
تعود جذور قانون مكافحة الاحتكار الأميركي المعاصر إلى سبعينيات القرن الماضي، مع بروز اقتصاديي السوق الحرة والباحثين القانونيين. ظهر روبرت بورك الذي عمل محامياً عاماً في منتصف السبعينيات، كباحث بارز جادل في أن قانون مكافحة الاحتكار يجب أن يكون له هدف واحد لا غير، وهو زيادة رفاه المستهلك إلى أقصى حد. وجادل بورك أيضاً بأن السبب وراء نمو بعض الشركات إلى هذه الدرجة يتمثل في أنها كانت أكثر كفاءة من منافسيها، بالتالي فإن أي محاولة لتفكيك هذه الشركات ليست سوى مجرد معاقبة لها على نجاحها. وقد استرشد هذا المعسكر من الدارسين بالنهج المستند على عدم التدخل الذي تتبناه مدرسة يطلق عليها اسم "مدرسة شيكاغو للاقتصاد"، بقيادة الحائزين على جائزة نوبل ميلتون فريدمان وجورج ستيغلر، اللذين ينظران بريبة إلى مفهوم تنظيم الاقتصاد. واستطراداً، رأت "مدرسة شيكاغو" أنه إذا توجبت هيكلة قانون مكافحة الاحتكار من أجل تحقيق أقصى قدر من الرفاهية الاقتصادية، فيجب أن يكون منضبطاً للغاية. وفي الواقع، حققت هذه المدرسة الفكرية نجاحاً مذهلاً بكل المقاييس. فتركت أثراً على أجيال من القضاة والمحامين، وتولت السيطرة على المحكمة العليا. وتبنت وزارة العدل في إدارة ريغان عدداً من مبادئ "مدرسة شيكاغو" وقننتها، فاستقرت سياسة مكافحة الاحتكار الأميركية إلى حد كبير على نهج متساهل منذ ذلك الحين.
وبعد عقود من هيمنة "مدرسة شيكاغو"، حظي الاقتصاديون بفرصة كبيرة لتقييم آثار هذا النهج، ثم وجدوا أن الاقتصاد الأميركي أصبح مركزاً بشكل متزايد في جميع المجالات [مفهوم التمركز الاقتصادي، بمعنى أن يسيطر عليه عدد من الأيدي يتضاءل باستمرار]. وينطبق ذلك على شركات الطيران والأدوية والمستشفيات ووسائل الإعلام، وبالطبع شركات التكنولوجيا. وفي المقابل، بات المستهلكون يعانون. وفي المقابل، مال كثيرون من أمثال توماس فيليبون، إلى الربط بصراحة بين الأسعار المرتفعة في الولايات المتحدة، مقارنة بتلك الموجودة في أوروبا، وبين تطبيق مكافحة الاحتكار بشكل غير كافٍ.
حاضراً، تتنامى "مدرسة ما بعد شيكاغو" التي تحض على وجوب تطبيق قانون مكافحة الاحتكار بصرامة أكبر. وتعتقد أن إنفاذ مكافحة الاحتكار ضروري لأن الأسواق غير المنظمة لا يمكنها أن توقف صعود وترسيخ الاحتكارات المانعة للمنافسة.
وعلى نحو مماثل، أدت أوجه القصور في النهج الذي اتبعته "مدرسة شيكاغو" في شأن مكافحة الاحتكار، إلى ظهور "مدرسة البرانديزيين الجدد" [تيمناً بالقاضي لويس برانديز]. وتجادل هذه المجموعة من الباحثين القانونيين بأن "قانون شيرمان"، أول قانون فيدرالي لمكافحة الاحتكار في البلاد [ظهر في 1890]، لم يكن يهدف إلى حماية القيم الاقتصادية فحسب، بل السياسية أيضاً، على غرار حرية التعبير والمساواة الاقتصادية. ونظراً إلى أن المنصات الرقمية تتمتع بنفوذ اقتصادي وتتحكم في تدفق البيانات والاتصالات، فقد أصبحت هذه الشركات تشكل هدفاً طبيعياً لهذا المعسكر.
في الواقع، تظهر الأسواق الرقمية سمات معينة تميزها عن التقليدية. أولاً، العملة المطلوبة في عالم اليوم هي البيانات. بمجرد أن تجمع شركة كـ"أمازون" أو "غوغل" بيانات عن مئات ملايين المستخدمين، يمكنها الانتقال إلى أسواق جديدة تماماً والتغلب على الشركات الموجودة الأخرى التي تفتقر إلى معرفة مماثلة. ثانياً، تستفيد هذه الشركات بشكل كبير مما يسمى "تأثيرات الشبكة" network effects. كلما زاد حجم الشبكة، أصبحت أكثر فائدة لمستخدميها، ثم يؤدي ذلك إلى حلقة من ردود فعل إيجابية تجعل شركة واحدة تسيطر على السوق. وخلافاً للشركات التقليدية، لا تتنافس شركات الفضاء الرقمي من أجل نيل حصة في السوق، بل على السوق نفسه. ويمكن للشركات الرائدة والسباقة التي تتخذ الخطوات الأولى، أن تحصن نفسها وتجعل من زيادة المنافسة أمراً مستحيلاً. وبإمكانها أيضاً ابتلاع المنافسين المحتملين، على غرار ما فعلته شركة "فيسبوك" من خلال شراء "إنستغرام" و"واتساب".
في مسار متصل، ما زالت المداولات مستمرة حول ما إذا كانت شركات التكنولوجيا الضخمة تقلل من رفاهية المستهلك، إذ تقدم ثروة من المنتجات الرقمية على غرار عمليات البحث والبريد الإلكتروني وحسابات الشبكات الاجتماعية. ويبدو أن المستهلكين يقدرون هذه المنتجات بدرجة عالية، حتى حينما يدفعون الثمن [مقابل ذلك] من خلال التخلي عن خصوصيتهم والسماح لشركات الإعلان باستهدافهم. علاوة على ذلك، فإن كل إساءة استخدام تتهم هذه المنصات بارتكابها يمكن تبريرها في الوقت نفسه على أنها فاعلة اقتصادياً. مثلاً، أغلقت "أمازون" متاجر التجزئة الصغيرة الحجم وألحقت أضراراً بالأسواق الفعلية الرئيسة، بل حتى بمتاجر التجزئة الكبرى. وفي الوقت نفسه تقدم الشركة خدمة يجدها عدد من المستهلكين لا تقدر بثمن (تخيل كيف كان الوضع ليكون لو اضطر الناس إلى الاعتماد على البيع بالتجزئة وجهاً لوجه أثناء الوباء.) وفي ما يخص الادعاء بأن المنصات الكبرى تشتري الشركات الناشئة من أجل منع المنافسة، فمن الصعب معرفة إذا كانت شركة جديدة ستصبح "أبل" ثانية أو "غوغل" جديد، إذا ظلت مستقلة، أو إذا كانت ستفشل من دون ضخ رأس المال والخبرة الإدارية التي تلقتها من مالكيها الجدد. على رغم أن المستهلكين كانوا سيكونون أفضل حالاً ربما لو ظلت "إنستغرام" شركة منفصلة وصارت بديلاً عملياً من "فيسبوك"، إلا أن أحوالهم كانت لتسوء لو فشلت "إنستغرام" تماماً.
وتجدر الإشارة إلى وجود تعقيد في الحجة الاقتصادية لكبح جماح شركات التكنولوجيا الكبيرة. وفي المقابل، هناك حجة سياسية أكثر إقناعاً مفادها أن منصات الإنترنت تولد أضراراً سياسية أكثر إثارة للقلق من أي ضرر اقتصادي قد تتسبب فيه. ولا يكمن الخطر الحقيقي الذي تشكله تلك المنصات في تشويه الأسواق، بل في تهديد الديمقراطية.
محتكرو المعلومات
منذ عام 2016، أدرك الأميركيون قوة شركات التكنولوجيا في تشكيل المعلومات. في الحقيقة، سمحت هذه المنصات للمخادعين بنشر الأخبار المزيفة وللمتطرفين بالترويج لنظريات المؤامرة. لقد أنشأت "فقاعات تصنعها الفلاتر" [بمعنى أن وجود الفلتر يؤدي إلى أن المستخدم لا تصله إلا الأخبار التي ينتقيها الفلتر أو المرشح، فيصبح أسيراً لها]. وفي ظل "فقاعة المرشح"، تتكون بيئة لا تعرض للمستخدمين إلا المعلومات التي تؤكد معتقداتهم الموجودة مسبقاً، وذلك بسبب طريقة عمل الخوارزميات الخاصة بهم [يعطي المستخدم تفضيلاته إلى الفلتر المعلوماتي، فلا تعود تصل إليه إلا المعلومات التي تنسجم مع تلك التفضيلات].
واستطراداً، يمكن لتلك المنصات تضخيم أصوات معينة أو كتمها، بالتالي يكون لهذا تأثير مزعج على النقاش السياسي الديمقراطي. ويتمثل الخوف المطلق في أن المنصات الشبكية قد جمعت قوة هائلة يمكنها التأثير في الانتخابات، إما عن قصد أو من دونه.
وقد استجاب النقاد لهذه المخاوف من خلال مطالبة منصات الإنترنت بتحمل مسؤولية أكبر عن المحتوى الذي تبثه. فدعوا "تويتر" إلى منع تغريدات الرئيس دونالد ترمب المضللة أو التحقق من صحتها. وهاجموا شركة "فيسبوك" لإعلانها أنها لن تعمل على تعديل المحتوى السياسي. يود كثيرون رؤية منصات الإنترنت تتصرف بطريقة تشبه ما تفعله الشركات الإعلامية، وتنظم محتواها السياسي وتحاسب المسؤولين الحكوميين.
في المقابل، إن الضغط على المنصات الكبيرة لأداء هذه الوظيفة، على أمل أن تفعل ذلك، واضعة المصلحة العامة نصب أعينها، ليس حلاً طويل المدى، إذ يتفادى هذا النهج مشكلة القوة الكامنة التي تتمتع بها تلك المنصات الشبكية، وأي حل حقيقي يجب أن يحد من هذه القوة. وحاضراً، المحافظون هم من يشكون إلى حد كبير من التحيز السياسي لمنصات الإنترنت، إذ يفترضون، مع بعض التبرير، أن الأشخاص الذين يديرون منصات اليوم، جيف بيزوس من "أمازون"، ومارك زوكربيرغ من "فيسبوك"، وسوندار بيتشاي من "غوغل"، وجاك دورسي من "تويتر"، يميلون إلى تبني أفكار اجتماعية تقدمية، على رغم أن ما يحرك دوافعهم بشكل أساسي هو المصلحة الشخصية التجارية.
قد لا يصمد هذا الافتراض على المدى الطويل. فلنفترض مثلاً أن إحدى الشركات العملاقة وقعت في يد ملياردير محافظ. إن سيطرة روبرت مردوخ على محطة "فوكس نيوز" Fox News وصحيفة "ذي وول ستريت جورنال" The Wall Street Journal يمنحه بالفعل نفوذاً سياسياً واسع النطاق، لكن في الأقل، تعتبر تأثيرات هذه السيطرة واضحة للعيان. وأنت تعرف ذلك حينما تقرأ افتتاحية "وول ستريت جورنال" أو تشاهد "فوكس نيوز"، ولكن لو كان مردوخ يسيطر على "فيسبوك" أو "غوغل"، لتمكن من تغيير الترتيب أو خوارزميات البحث بحذق، من أجل صنع ما يراه المستخدمون ويقرؤونه، بالتالي فسيؤثر على آرائهم السياسية من دون درايتهم أو موافقتهم. واستطراداً، يصعب الهرب من تأثير هيمنة المنصات الرقمية. إذا كنت ليبرالياً، يمكنك ببساطة مشاهدة قناة "أم أس أن بي سي" MSNBC بدلاً من "فوكس نيوز". في المقابل، إذا استخدمت منصة "فيسبوك" تكون خاضعة لسيطرة مردوخ، غقد لا يكون لديك خيار مماثل [أي اللجوء إلى منصة بديلة] إذا كنت ترغب في مشاركة القصص الإخبارية أو تنسيق نشاط سياسي مع أصدقائك.
فلنضع في اعتبارنا أيضاً أن المنصات الشبكية، خصوصاً "أمازون" و"فيسبوك" و"غوغل"، تمتلك معلومات حول حياة الأفراد لم تكن موجودة لدى المحتكرين السابقين. إنها تعلم من هم أصدقاء الناس ومن هي عائلاتهم، وتعرف دخل الناس وممتلكاتهم، وبعض التفاصيل الأكثر حميمية في حياتهم. ماذا لو قام عمد مدير تنفيذي سيئ النية في إحدى المنصات الشبكية إلى استغلال معلومات محرجة من أجل الضغط على مسؤول عام؟ أو عوضاً عن ذلك، تخيل إساءة استخدام المعلومات الخاصة بالتعاون مع سلطات الحكومة، كأن تتعاون "فيسبوك" مع وزارة عدل مسيسة.
إن القوة الاقتصادية والسياسية المركزة التي تتمتع بها المنصات الرقمية تشبه سلاحاً محشواً موجوداً على الطاولة. في الوقت الحالي، من المستبعد أن يلتقط الجالسون على الجانب الآخر من الطاولة المسدس ويسحبوا الزناد. وبالنسبة إلى الديمقراطية الأميركية، يتمثل السؤال في مأمونية ترك السلاح هناك على الطاولة، حيث يمكن لشخص آخر لديه نية أسوأ أن يأتي ويسحبه. لا توجد ديمقراطية ليبرالية تكتفي بتفويض سلطة سياسية مركزة للأفراد بناءً على افتراضات حول نياتهم الحسنة. لهذا السبب تضع الولايات المتحدة ضوابط وتوازنات على تلك السلطة.
الضرب بيد من حديد
يجسد التنظيم الحكومي الطريقة الأكثر وضوحاً لكبح هذه السلطة. إنه النهج المتبع في أوروبا. ومثلاً، أصدرت ألمانيا قانوناً يجرم نشر الأخبار الزائفة. على رغم أن التنظيم قد يظل ممكناً في بعض الديمقراطيات بدرجة عالية من الإجماع العام الاجتماعي، فمن غير المرجح أن ينجح في بلد مستقطب سياسياً كالولايات المتحدة. بالعودة إلى الحقبة التي كان فيها البث التلفزيوني في أوجه، كان مبدأ الإنصاف الذي اعتمدته لجنة الاتصالات الفيدرالية يتطلب من الشبكات الحفاظ على تغطية "متوازنة" للقضايا السياسية. آنذاك، هاجم الجمهوريون المبدأ بلا هوادة، مدعين أن الشبكات كانت متحيزة ضد أصحاب الفكر المحافظ، فأبطلت لجنة الاتصالات الفيدرالية العمل بهذا المبدأ في عام 1987. واستطراداً، فلنتخيل بناءً على ذلك أن تحاول جهة تنظيمية ما الحسم في مسألة حظر تغريدة رئاسية اليوم. مهما كان القرار، سيكون الأمر مثيراً للجدل على نطاق واسع.
وهناك طريقة أخرى لكبح سلطة منصات الإنترنت تكمن في الترويج لمنافسة أكبر. إذا وجدت منصات متعددة، لن يحظى أي منها بالهيمنة التي تتمتع بها منصات "فيسبوك" و"غوغل" اليوم. وعلى رغم ذلك، تكمن المشكلة في أنه لا يمكن للولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي على الأرجح تفكيك شركتي "فيسبوك" أو "غوغل" بالطريقة التي تم بها تفكيك "ستاندرد أويل" Standard Oil و"أي تي أند تي" AT&T. [استخدم قانون شيرمان لمنع الاحتكار في عملية التفكيك تلك].
اليوم، ستقاوم شركات التكنولوجيا مثل هذه المحاولة بشدة. وحتى لو خسرت في النهاية، فإن عملية تفكيكها ستستغرق سنوات، إن لم يكن عقوداً، كي تكتمل. ربما الأهم من ذلك، أنه ليس من الواضح إذا كان تفكيك "فيسبوك" مثلاً، من شأنه أن يحل المشكلة الأساسية. وهناك فرصة كبيرة جداً أن شركة "فيسبوك" الصغيرة المولودة نتيجة هذا التفكيك ستنمو بسرعة كي تحل محل الشركة الأم. حتى "أي تي أند تي" استعادت هيمنتها في مجال الاتصالات، بعد تفكيكها في ثمانينيات القرن الماضي. والجدير بالذكر أن قابلية التوسع السريع لوسائل التواصل الاجتماعي قد تجعل ذلك يحدث بشكل أسرع.
وفي ضوء احتمالات التفكيك القاتمة، لجأ عدد من المراقبين إلى "قابلية نقل البيانات" من أجل إدخال المنافسة على سوق المنصات الشبكية. وتماماً مثلما تطلب الحكومة من شركات الهاتف السماح للمستخدمين بأخذ أرقام هواتفهم معهم حينما يغيرون الشبكات، فقد تفرض أيضاً أنه للمستخدمين الحق في نقل بياناتهم من منصة إلى أخرى. وقد شكل "القانون العام لحماية البيانات" GDPR تشريعاً قوياً في الاتحاد الأوروبي يحمي الخصوصية ودخل حيز التنفيذ في 2018. وقد فرض ذلك القانون على الشركات اتباع نسق معياري موحد قابل للقراءة آلياً، بغية استخدامه في نقل البيانات الشخصية.
وفي المقابل، تواجه قابلية نقل البيانات عدداً من العقبات، أهمها صعوبة نقل أنواع مختلفة من تلك البيانات. على رغم سهولة نقل بعض المعلومات الأساسية، على غرار اسم الشخص وعنوانه ومعلومات بطاقة الائتمان وعنوان البريد الإلكتروني، فسيكون نقل جميع البيانات الوصفية الخاصة بالمستخدم أكثر صعوبة. وتتضمن البيانات الوصفية إشارات الإعجاب والنقرات والأوامر وعمليات البحث، وما إلى ذلك، وهذه الأنواع بالتحديد هي القيمة في الإعلانات الموجهة. ولا يقتصر الأمر على أن ملكية هذه المعلومات غير واضحة، بل إن هذه المعلومات نفسها هي أيضاً غير متجانسة ومحصورة بكل منصة على حدة. كيف يمكن بالضبط نقل سجل عمليات البحث السابقة على "غوغل" مثلاً إلى منصة جديدة تشبه "فيسبوك"؟ [تتضمن البيانات الوصفية، ميتاداتا Metadata، أنواعاً من البيانات توضع من قبل الشركات في الغالب، كي ترافق البيانات وتصفها. أنت ترسل إيميل إلى صديقك، فترافقه بيانات تشمل هوية حاسوبك، وتاريخ ووقت الإرسال والتشفير العام والخاص للإرسال والتلقي، وبيانات عن التطبيق الذي أرسلت منه الإيميل والمنطقة الجغرافية والأكواد المرتبطة بها وغيرها].
ثمة طريقة بديلة يمكن استعمالها في كبح قوة المنصات الشبكية، تعتمد على قانون الخصوصية. بموجب هذا النهج، تفرض ضوابط كي تحد من الدرجة التي يمكن أن تستخدم بها شركة التكنولوجيا بيانات المستهلك المسجلة في مجال معين من أجل تحسين أوضاعها في مجال آخر، وبذلك ستحمي الخصوصية والمنافسة. ومثلاً، يطلب "القانون العام لحماية البيانات" عدم استخدام بيانات المستهلك إلا للغرض الذي جرى الحصول على المعلومات من أجله في الأصل، إلا إذا أعطى المستهلك إذناً صريحاً بخلاف ذلك. وقد صممت هذه القواعد بغية معالجة أحد أهم مصادر قوة المنصة الشبكية. ويعني ذلك أنه كلما زادت البيانات التي تمتلكها المنصة، يصير من الأسهل تحقيق مزيد من الإيرادات وحتى الحصول على مزيد من البيانات.
من جهة أخرى، ثمة مشكلات من نوع خاص يثيرها الاعتماد على قانون حماية الخصوصية لمنع المنصات الكبيرة من دخول أسواق جديدة. وعلى غرار الحال بالنسبة إلى قابلية نقل البيانات، ليس من الواضح إذا كانت تشريعات من نوع "القانون العام لحماية البيانات" تنطبق على البيانات التي قدمها المستهلك طواعية إلى المنصة فحسب أم إنها تشمل أيضاً البيانات الوصفية. وحتى إذا نجحت، فمبادرات الخصوصية لن تقلل على الأرجح سوى من تخصيص الأخبار لكل فرد، لكنها لا تقلل تمركز القوة التحرير [أي إضافة البيانات الوصفية وتخزين البيانات وكيفية استخدامها].
وعلى نطاق أوسع، من شأن هذه القوانين أن تغلق باب الحظيرة على الحصان الذي غادرها منذ فترة طويلة [بمعنى أنها ستأتي بعد فوات الأوان]. فلقد جمعت عمالقة التكنولوجيا بالفعل كميات هائلة من بيانات العملاء. ووفق ما تشير إليه الدعوى القضائية الجديدة التي رفعتها وزارة العدل، يعتمد نموذج أعمال "غوغل" على جمع البيانات المتأتية من منتجاتها المختلفة، "جي مايل" Gmail و"غوغل كروم" Google Chrome و"خرائط غوغل" Google Maps ومحرك البحث الخاص بها، ويؤدي تجمع بيانات تلك المنتجات إلى الكشف عن معلومات غير مسبوقة عن كل مستخدم. على نحو مماثل، عملت "فيسبوك" على جمع بيانات واسعة حول مستخدميها، جزئياً من خلال زعمها الحصول على بعض المعلومات عن المستخدمين أثناء تصفحهم لمواقع أخرى. إذا منعت قوانين الخصوصية المنافسين الجدد من تجميع مجموعات بيانات مماثلة واستخدامها، فإنها ستخاطر ببساطة بحصر المزايا بتلك الشركات السباقة التي اتخذ بالفعل الخطوات الأولى قبل غيرها.
الحل المستند إلى البرمجيات الوسيطة
إذا فشلت مقاربات التنظيم والتفكيك وإمكانية نقل البيانات وقانون الخصوصية، فما الذي يجب فعله في شأن تمركز القوة لدى المنصات الشبكية؟ إن أحد أكثر الحلول الواعدة، وهو البرامج الوسيطة Middle Ware Solution، لم يحظ باهتمام كبير. تعرف البرامج الوسيطة عموماً بأنها برمجيات تستطيع أن تمسك بالبيانات الموجودة على منصة رقمية ما، ثم تعمل على تعديل طريقة عرض البيانات الأساسية. إضافة إلى خدمات منصات التكنولوجيا الحالية، يمكن أن تتيح البرمجيات الوسيطة للمستخدمين اختيار كيفية تنظيم المعلومات وتصفيتها أو فلترتها، بالتالي يتمكن المستخدمون من اختيار خدمات البرامج الوسيطة التي من شأنها تحديد أهمية المحتوى السياسي وصحته، وستستعمل المنصات تلك الخيارات والتحديدات من أجل تنظيم ما يراه المستخدمون. بعبارة أخرى، ستتدخل مجموعة منافسة من الشركات الجديدة ذات الخوارزميات الشفافة فتعمل كأنها بوابات تحرير للبيانات المتناقلة عبر شبكة الإنترنت، وهي المهمة التي تتولاها حالياً منصات الشركات التكنولوجيا المهيمنة التي تحوز خوارزميات غير الشفافة.
يمكن تقديم منتجات البرمجيات الوسيطة من خلال مجموعة متنوعة من المقاربات. تتمثل إحدى المقاربات الفاعلة بشكل خاص في ولوج المستخدمين إلى البرمجيات الوسيطة عبر منصة تكنولوجيا كـ"أبل" أو "تويتر". لنأخذ مثلاً المقالات الإخبارية في آخر تحديثات المستخدمين أو التغريدات الشائعة لشخصيات سياسية. في الواجهة الخلفية [المستوى الذي يحدد فيه المبرمجون أطر عمل الموقع أو التطبيق وطريقة عرض البيانات التي يراها المستخدم] في برامج "آبل" أو "تويتر"، يمكن أن تضيف خدمة البرمجيات الوسيطة عبارات وصفية من نوع "مضللة" و"لم يتم التحقق منها"، و"تفتقر إلى السياق". وحينما يسجل المستخدمون دخولهم إلى "أبل" أو "تويتر"، سيرون تلك الملاحظات [العبارات الوصفية التي أضافتها البرمجيات الوسيطة] على المقالات الإخبارية والتغريدات.
كذلك يغدو مستطاعاً أن تؤثر البرمجيات الوسيطة الأكثر تدخلاً على تصنيفات التحديثات المتجددة على غرار قوائم المنتجات في "أمازون" أو الإعلانات في "فيسبوك" أو نتائج البحث على "غوغل" أو توصيات الفيديو في "يوتيوب". ومثلاً، يمكن للمستهلكين اختيار مزودي البرمجيات الوسيطة الذين عدلوا نتائج عمليات بحثهم في موقع "أمازون"، بشكل يجعلها تعطي الأولوية للمنتجات المصنوعة محلياً أو الصديقة للبيئة أو السلع المنخفضة السعر. كذلك، تستطيع البرمجيات الوسيطة أن تمنع المستخدم من مشاهدة محتوى معين أو تحظر بشكل تام مصادر معلومات معينة أو شركات مصنعة بعينها.
وفي ذلك السياق، سيطلب من كل مزود للبرمجيات الوسيطة أن يكون شفافاً في عروضه وميزاته التقنية، كي يتمكن المستخدمون من اتخاذ قرار مستنير. وسيشمل مقدمو البرمجيات الوسيطة الشركات التي تسعى إلى تحسين خلاصات آخر الأخبار، والمنظمات غير الربحية التي ترمي إلى تعزيز القيم المدنية. قد تقدم كلية الصحافة برمجيات وسيطة تفضل التقارير المتفوقة وتزيل القصص التي لم يجر التحقق منها، أو قد يقدم مجلس إدارة مدرسة الولاية، برمجيات وسيطة تعطي الأولوية للقضايا المحلية. من خلال التوسط في العلاقة بين المستخدمين والمنصات، يمكن أن تلبي البرمجيات الوسيطة تفضيلات كل مستهلك مع توفير مقاومة كبيرة للإجراءات الأحادية الجانب التي تتخذها الجهات الفاعلة المهيمنة [أي الشركات التكنولوجية العملاقة].
واستكمالاً، لا بد من العمل على تفاصيل كثيرة. ويتمحور السؤال الأول حول مقدار قوة التنظيم التي يجب نقلها إلى الشركات الجديدة للبرمجيات الوسيطة. من ناحية، يمكن لمقدمي البرمجيات الوسيطة تحويل المعلومات المقدمة من المنصة الأساسية كاملة إلى المستخدم، وفي هذه الحالة تعمل المنصة كأنها أكثر بقليل من قناة نقل محايدة. وفقاً لهذا النموذج، ستتولى البرمجيات الوسيطة وحدها مسألة تحديد محتوى عمليات البحث وأولويتها على "أمازون" أو "غوغل"، فيما يقتصر عمل هاتين المنصتين على توفير الوصول إلى خوادمها. من ناحية أخرى، يمكن للمنصة الاستمرار في تنظيم المحتوى وترتيبه بالكامل باستخدام خوارزمياتها الخاصة، فيما ستعمل البرمجيات الوسيطة كمرشح [فلتر] تكميلي فحسب. ومثلاً، ففي إطار هذا النموذج، لن تطرأ تغييرات كبيرة على واجهة "فيسبوك" أو "تويتر". وكذلك سيقتصر عمل البرمجيات الوسيطة على التدقيق في الحقائق أو إرفاق المحتوى بالعبارات وصفية من دون إعطاء أهمية للمضمون أو تقديم توصيات أكثر دقة.
وربما يكمن أفضل نهج في مكان ما بين هذين النموذجين. في الواقع، قد يعني تسليم قوة هائلة إلى شركات البرمجيات الوسيطة أن منصات التكنولوجيا الأساسية ستفقد اتصالها المباشر بالمستهلك. ومع تقويض نماذج أعمالها، لن تقف شركات التكنولوجيا مكتوفة الأيدي، بل ستقاوم. في المقابل، فإن منح شركات البرمجيات الوسيطة تحكماً ضئيلاً للغاية قد يفشل في كبح قدرة المنصات على تنظيم المحتوى ونشره، بيد أن تدخل الحكومة سيكون ضرورياً بغض النظر عن الحد المقبول [درجة التدخل المقبولة]. من المحتمل أن يضطر الكونغرس إلى إصدار قانون يتطلب من المنصات استخدام "واجهة برمجة التطبيقات" Application Programming Interface مفتوحة وموحدة، من شأنها أن تسمح لشركات البرامج الوسيطة بالعمل بسلاسة مع منصات تكنولوجيا مختلفة [واجهة برمجة التطبيقات هي مساحة التقاطع بين نظام التشغيل وبين البرامج والتطبيقات التي تعمل عليه]. وسيتعين على الكونغرس أيضاً أن ينظم بعناية موفري البرمجيات الوسيطة بحد ذاتهم، حرصاً على أن يستوفوا الحد الأدنى من معايير الموثوقية والشفافية والاتساق.
واستطراداً، تتضمن المسألة الثانية في هذا الحل، إيجاد نموذج عمل من شأنه أن يحفز شريحة تنافسية من الشركات الجديدة على الظهور. سيكون النهج الأكثر منطقية هو أن تبرم المنصات المهيمنة ومقدمو البرمجيات الوسيطة الذين يمثلون طرفاً ثالثاً بين الشركات والمستخدمين، اتفاقات تقاسم الإيرادات. وهكذا، فحينما يجري شخص ما بحثاً معيناً على "غوغل" أو يزور صفحة "فيسبوك"، سيجري مشاركة عائدات الإعلانات من الزيارة بين المنصة ومقدم البرمجيات الوسيطة. من المحتمل أن تخضع تلك الاتفاقات لإشراف الحكومة، لأنه حتى لو كانت المنصات المهيمنة حريصة على مشاركة عبء تصفية المحتوى، فمن المتوقع أنها ستقاوم مشاركة عائدات الإعلانات.
وبطريقة موازية، ثمة تفصيل آخر يجب العمل عليه أيضاً يتمثل في نوع من الإطار التقني الذي من شأنه أن يشجع على ظهور مجموعة متنوعة من منتجات البرمجيات الوسيطة. يجب أن يكون هذا الإطار بسيطاً بما يكفي كي يجذب أكبر عدد ممكن من المشاركين، وفي الوقت نفسه متطوراً بما يكفي كي يلائم المنصات الكبيرة التي يملك كل منها تركيباً تقنياً خاصاً. علاوة على ذلك، يجب أن يسمح للبرمجيات الوسيطة بتقييم ثلاثة أنواع مختلفة على الأقل من المحتوى هي المحتوى العام الذي يمكن الوصول إليه على نطاق واسع (كالقصص الإخبارية والبيانات الصحافية والتغريدات من الشخصيات المعروفة)، والمحتوى الذي ينشئه المستخدمون (على غرار مقاطع فيديو يوتيوب والتغريدات العامة من الأفراد) والمحتوى الخاص (كرسائل "واتساب" وتدوينات "فيسبوك").
وقد يجادل المشككون في أن نهج البرمجيات الوسيطة سيقسم الإنترنت ويعزز "فقاعات الفلاتر". فعلى رغم أن الجامعات قد تطلب من طلابها استخدام منتجات برمجية وسيطة توجههم إلى مصادر موثوقة للمعلومات، فإن المجموعات ذات العقلية التآمرية قد تفعل العكس. قد تؤدي الخوارزميات المصممة خصيصاً وفقاً للطلب، إلى مزيد من الانقسام في النظام السياسي الأميركي، وتشجع الناس على العثور على أصوات تعبر عن وجهات نظرهم، ومصادر تؤكد معتقداتهم، وقادة سياسيين يضخمون مخاوفهم.
وربما يمكن حل بعض هذه المشكلات من خلال اللوائح والأنظمة التي تتطلب أن تلبي البرمجيات الوسيطة حداً أدنى معيناً من المعايير، ولكن من المهم أيضاً ملاحظة أن مثل هذا الانقسام يمكن أن يحدث بالفعل، وقد يكون من المستحيل من الناحية التكنولوجية منع حدوثه في المستقبل.
مثلاً، لنأخذ في الاعتبار المسار الذي سلكه أنصار نظرية "كيو أنون" QAnon، وهي نظرية مؤامرة يمينية متطرفة محبوكة بإتقان تفترض وجود عصابة عالمية تتألف من أشخاص يستغلون الأطفال جنسياً [وكذلك وجود أشخاص يسربون معلومات عن تلك العصابة إلى الجمهور]. فبعد حظر المحتوى الخاص بهم على "فيسبوك" و"تويتر"، تخلى مؤيدو "كيو أنون" عن المنصات الكبيرة وانتقلوا إلى "فورتشان" 4chan، وهي عبارةعن منتدى مناقشة [غرف دردشة] أكثر تساهلاً. وحينما بدأت فرق الإشراف داخل "فورتشان" في تلطيف التعليقات المحرضة، انتقل أتباع "كيو أنون" إلى منصة جديدة، "8تشان" 8chan (تسمى الآن "8كون" 8kun). لا يزال بإمكان منظري المؤامرة التواصل مع بعضهم البعض عبر البريد الإلكتروني العادي أو عبر القنوات المشفرة مثل "سيغنال" Signal و"تيليغرام" Telegram و"واتساب"، إذ إن مثل هذا الخطاب، مهما كان إشكالياً، محمي بموجب التعديل الأول من الدستور الأميركي. [يفرض التعديل الأول في الدستور الأميركي أن يكون الكونغرس محايداً حيال الأفكار والمعتقدات والديانات].
علاوة على ذلك، فإن الجماعات المتطرفة تعرض الديمقراطية للخطر في المقام الأول حينما تغادر محيط الإنترنت وتصبح أفكارها مقبولة وسائدة. ويحدث ذلك حينما تنقل وسائل الإعلام أصوات تلك الجماعات أو تعرض منصة ما أفكارها. خلافاً لـ"8تشان"، يمكن للمنصة المهيمنة أن تؤثر في شريحة واسعة من السكان، ضد إرادة هؤلاء الأشخاص ومن دون علمهم. وعلى نطاق أوسع، حتى لو شجعت البرمجيات الوسيطة على الانقسام، فإن هذا الخطر يتضاءل بالمقارنة مع الخطر الذي يشكله تمركز القوة لدى المنصة الشبكية، إذ لا يتمثل التهديد الأكبر للديمقراطية على المدى الطويل في انقسام الآراء، بل في القوة غير الخاضعة للمساءلة التي تتمتع بها شركات التكنولوجيا العملاقة.
إعادة دفة التحكم
يجب أن يشعر الناس بالقلق من نمو منصات الإنترنت المهيمنة وقوتها. وهناك سبب وجيه يجعل صانعي السياسات يلجأون إلى قانون مكافحة الاحتكار باعتباره حلاً، بيد أن هذه ليست سوى واحدة من الاستجابات المتعددة المحتملة لمشكلة تمركز القوة الاقتصادية والسياسية الخاصة.
حاضراً، تطلق الحكومات إجراءات لمكافحة الاحتكار ضد منصات التكنولوجيا الكبيرة في الولايات المتحدة وأوروبا، ومن المرجح أن يتم رفع دعاوى قضائية ناتجة عن ذلك طوال سنوات قادمة، لكن هذا النهج لا يشكل بالضرورة أفضل طريقة من أجل التعامل مع التهديد السياسي الخطر الذي تشكله قوة المنصات الرقمية بالنسبة إلى الديمقراطية. كذلك يرسم التعديل الأول [في الدستور الأميركي] صورة وجود سوق للأفكار تتولى فيه المنافسة، وليس التشريعات التنظيمية، حماية الخطاب العام. وعلى رغم ذلك، ففي عالم تضخم فيه المنصات الكبيرة الرسائل السياسية وتقمعها وتستهدفها، تنهار هذه السوق.
في الواقع، يمكن للبرمجيات الوسيطة معالجة هذه المشكلة، إذ تستطيع أن تسلب منصات التكنولوجيا قوتها وتسلمها ليس إلى جهة تنظيمية حكومية واحدة فحسب، بل إلى مجموعة جديدة من الشركات المنافسة التي تسمح للمستخدمين بالتحكم في تصميم تجاربهم عبر الإنترنت. لن يمنع هذا النهج انتشار خطاب الكراهية أو نظريات المؤامرة، لكنه سيحد من نطاقهما بطريقة تتماشى بشكل أفضل مع الهدف الأصلي للتعديل الأول [في الدستور الأميركي]. في الوقت الراهن، يحدد المحتوى الذي تقدمه المنصات بواسطة خوارزميات مبهمة تصنعها برامج الذكاء الاصطناعي. وفي المقابل، حينما ستستخدم البرمجيات الوسيطة، سيتولى مستخدمو المنصات زمام الأمور، وسيقررون بأنفسهم المحتوى الذي يرونه، وليس البرامج الخفية للذكاء الاصطناعي.
اضف تعليق