معظم قادة النظم غير الديمقراطية اليوم لم يعودوا يعتمدون على الخوف والقمع الجماعي. إنما هم، بدلا من ذلك، يتلاعبون بالمعلومات. فهم يخدعون العامة ويجعلونهم يعتقدون أنهم قادة أكفاء، ويدعون أنهم انتُخِبوا بشكل ديمقراطي. وبينما يقرون بالنواقص في إجراءاتهم الانتخابية، فهم يدعون أن هذه النواقص لا تختلف عن...
بقلم: سيرغيه غورييف
زيادة خدمة الإنترنت بتقنية الشبكات عريضة النطاق للأجهزة المحمولة وتقدم وسائل التواصل الاجتماعي يعيدان تشكيل أساليب خوض الحروب.
العدوان الروسي على أوكرانيا هو أول حرب كبرى تندلع بين دولتين في حقبة الهواتف الذكية. فوسائل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الجديدة تعيد تشكيل أسلوب خوض الحروب. وتشن الحكومة الروسية حربا على ثلاث جبهات: حرب حركية في أوكرانيا، وحرب داخل روسيا حيث يرغب المتظاهرون ضد الحرب في الضغط على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للانسحاب من أوكرانيا؛ وحرب لكسب الرأي العام العالمي.
ولتكنولوجيا المعلومات دور مهم في ثلاثتها. فداخل أوكرانيا، تسجل الهواتف الذكية كلاً من جرائم الحرب وتحركات القوات الروسية. وداخل روسيا، يساعد ما تبقى من الشبكات الاجتماعية على تنظيم المظاهرات والتنسيق لإرسال المحامين دعما للمحتجزين. وفي ساحة معركة المعلومات العالمية، تحاول الفيديوهات من الجانبين إقناع البلدان الأخرى بتعجيل أو إبطاء إرسال الأسلحة وفرض (أو المساعدة على إبطال) عقوبات اقتصادية غير مسبوقة.
أما فكرة أن توفر المعلومات ونقصها ذات أهمية في الحرب فهي ليست بجديدة. وكان كارل فون كلاوزفيتز، صاحب النظريات الحربية الشهير، قد كتب مقالا نُشِر بعد وفاته بعنوان عن الحرب أكد فيه أهمية "ضباب الحرب". فالحرب تربك التقارير الإعلامية العادية، وتثير مزيدا من أجواء عدم اليقين؛ ومن ثم، فإن المعلومات التي تقلل – أو تزيد – أجواء عدم اليقين هذه قد تؤثر بشكل كبير على نتيجة الحرب.
وبينما كان دور المعلومات في الحرب مفهوما دائما، أدت الزيادة الهائلة مؤخرا في استخدام خدمة الإنترنت بتقنية الشبكات عريضة النطاق للأجهزة المحمولة وتقدم وسائل التواصل الاجتماعي إلى حدوث تحول جذري في طريقة جمع المعلومات ونشرها. ووفقا للاتحاد الدولي للاتصالات، لم يكد نصيب الفرد في عام 2007 من الاشتراكات في خدمة الإنترنت بتقنية الشبكات عريضة النطاق للأجهزة المحمولة يزيد على 0,04. وفي عام 2021، بلغ هذا الرقم 0,83، أي أعلى بعشرين ضعفا. وشهدت هذا النمو الاقتصادات المتقدمة والنامية على حد سواء. فكانت معدلات الاقتصادات النامية 0,006 في 2007 و0,73 في 2021. وفي روسيا، يزيد هذا الرقم اليوم على واحد صحيح، مما يعني ببساطة أن الجميع متصلون بالشبكة. وأدت خدمة الإنترنت بتقنية الشبكات عريضة النطاق للأجهزة المحمولة إلى مزاحمة نفس الخدمة للأجهزة الثابتة باعتبارها المصدر الرئيسي للحصول على خدمة الإنترنت عالية السرعة. وكان نمو زيادة نصيب الفرد من الاشتراكات في الخدمة عريضة النطاق باستخدام الأجهزة الثابتة في العالم محدودا حيث ارتفع من 0,05 في 2007 إلى 0,17 في 2021.
وترتبت على الجيلين الثالث والرابع من تكنولوجيا خدمة الإنترنت بتقنية الشبكات عريضة النطاق للأجهزة المحمولة، ويُعرفان بأنهما 3G و4G، قفزة نوعية مقارنة بالجيلين السابقين لهما حيث يمكنان المستخدمين من التقاط الصور، وتسجيل الفيديوهات، وتوزيعها مباشرة على مستوى العالم. ومن ثم، أصبح انتشار الجيل الثالث والجيل الرابع محركا رئيسيا لنمو شبكات التواصل الاجتماعي. واليوم، يوجد في العالم حوالي 3 مليارات مشترك في فيسبوك، و2,5 مليار في يوتيوب، و1,5 مليار مشترك في إنستاغرام. وتُجرى الغالبية العظمى من استخدامات وسائل التواصل الاجتماعي عبر الأجهزة المحمولة.
وعلى حد قول مارتن غوري في كتابه التنبؤي بعنوان The Revolt of the Public and the Crisis of Authority in the New Millennium، إن لهذا التحول التكنولوجي انعكاسات سياسية جمة. وكان محمد بوعزيزي البائع المتجول التونسي الذي ضحى بنفسه في ديسمبر 2010 قد أشعل الربيع العربي بسبب تسجيل هذه اللحظات بهاتف ذكي وانتشارها على نطاق واسع. وكانت هناك حالة مشابهة للتضحية بالنفس أقدم عليها بائع متجول آخر هو عبد السلام تريمش قبل هذه الحادثة ببضعة أشهر لكنها لم تُسَجَّل ولم يكد يلاحظها أحد. وكان الربيع العربي برهانا على التغيير الكبير في طريقة تداول تقارير الإعلام. فكانت قناة الجزيرة الإخبارية ومقرها قطر تعتمد في تغطية أحداث الربيع العربي على فيديوهات صورتها هواتف محمولة ونُشِرَت على وسائل التواصل الاجتماعي، وليس من كاميرات مصورين محترفين.
وينطبق الشىء نفسه على الحرب في أوكرانيا اليوم، أول صراع كبير في حقبة الشفافية الراديكالية. فالمدنيون والجنود على حد سواء يحملون هواتف ذكية، ويلتقطون الصور ويسجلون الفيديوهات وينشرونها على وسائل التواصل الاجتماعي. ومع هذا، فضباب الحرب لم ينقشع بعد. وليست المشكلة هي نقص المعلومات، وإنما يكمن التحدي في فرط المعلومات – والكثير منها لم لم يتم استبيان حقيقته. وتحقق خدمة الإنترنت بتقنية الشبكات عريضة النطاق ووسائل التواصل الاجتماعي تماما هدف نشر محتوى مثير للاهتمام وشائن، وليس بالضرورة أن تكون المعلومات حقيقية. وشهدنا بالفعل خلال العقد الماضي مهارة السياسيين الشعبويين في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي. ومن خلال دراستنا بعنوان "إنترنت الجيل الثالث والثقة في الحكومة" أوضحت أنا، ونيكيتا ميلنيكوف، وإيكاتيرينا زورافسكايا، أن انتشار خدمة الإنترنت بتقنية الشبكات عريضة النطاق على الأجهزة المحمولة يعزى إليه نحو نصف زيادة الشعبوية مؤخرا في أوروبا.
انتشار خدمة الإنترنت بتقنية الشبكات عريضة النطاق على الأجهزة المحمولة يعزى إليه نحو نصف زيادة الشعبوية مؤخرا في أوروبا.
ولكن تفضيل وسائل التواصل الاجتماعي لا يقتصر على الشعبويين وحدهم. وإنما هي أيضا أداة اختارها جيل جديد من القادة غير الديمقراطيين – يطلق عليهم دانييل تريزمان وأنا اسم "الدكتاتوريون المراوغون". ونقول في كتابنا الجديد الذي يحمل نفس الاسم إن معظم قادة النظم غير الديمقراطية اليوم لم يعودوا يعتمدون على الخوف والقمع الجماعي. إنما هم، بدلا من ذلك، يتلاعبون بالمعلومات. فهم يخدعون العامة ويجعلونهم يعتقدون أنهم قادة أكفاء، ويدعون أنهم انتُخِبوا بشكل ديمقراطي. وبينما يقرون بالنواقص في إجراءاتهم الانتخابية، فهم يدعون أن هذه النواقص لا تختلف عن تلك التي تشوب نظم الغرب.
أما بالنسبة لمن نطلق عليهم الدكتاتوريين المراوغين، فوسائل التواصل الاجتماعي تمنحهم منصة عظيمة. ولا غرابة إذن في أن بوتين، وهو أحد الملهمين الرئيسين لكتابنا، قد استثمر بكثافة في حرب المعلومات القائمة من خلال الإنترنت على مدار العشر سنوات الأخيرة. وكان لمجموعات التصيد الإلكتروني الموجَّه، وروبوتات وسائل التواصل الاجتماعي، وقنوات التلغرام مجهولة الهوية، والحملات الدعائية على فيسبوك دور رئيسي في هذه الاستراتيجية السياسية في الداخل والخارج. وهو الآن يطبق هذه الأدوات على الحرب مع أوكرانيا. ومهمته هذه المرة أصعب بكثير: فبينما نحن نرى أدلة مباشرة على جرائم الحرب في أوكرانيا، فهو بالتأكيد يخسر حرب المعلومات في الغرب. ولكن هذا الأمر يزيد من المخاطر التي يواجهها في الداخل. إذ يجب عليه أن يقنع عددا كبيرا على الأقل من العامة الروس بأنه يشن حربا عادلة. ولهذا السبب قام بعد أسبوع واحد من شن الحرب بإغلاق كل ما تبقى من وسائل الإعلام المستقلة، ومنع معظم وسائل التواصل الاجتماعي الغربية، وفرض عليها الرقابة العسكرية. والتصريحات العامة التي تتنافى مع النسخة الرسمية من سرد الأحداث أصبحت الآن تخضع لعقوبة السجن لمدة تصل إلى 15 سنة.
فهل نجح في ذلك؟ نعم ولا. فقد سجلت استطلاعات الرأي نموا سريعا في معدلات قبول بوتين، من 60% إلى 80%. ومن ناحية أخرى، لم تعد استطلاعات الرأي جديرة بالثقة في ظل القمع الذي يزيد بصورة هائلة. أولا، كان هناك هبوط هائل في معدلات الإجابة. وثانيا، يشير الاستبيان باستخدام تجربة القائمة (list experiments) – وهي طريقة خاصة يستخدمها علماء السياسة للاستدلال على متوسط مستوى الدعم بدون توجيه أسئلة مباشرة للأشخاص – إلى عودة الكثير من الروس إلى الممارسة الروسية في "تزييف التفضيلات". ومع هذا، حتى في الاستبيان باستخدام تجربة القائمة (list experiments)، وُجِدَ أن 53% من الروس يؤيدون الحرب، حسب ما ذكره فيليب شاكوفيسكي وماكس شوب في دراستهما بعنوان:"Do Russians Tell the Truth when They Say They Support the War in Ukraine? Evidence from a List Experiment". ودعاية الحكومة الروسية تحقق أهدافها.
وإضافة إلى دعم الجيش الأوكراني بالأسلحة وفرض مزيد من العقوبات على روسيا، ينبغي أن يتعهد الغرب وفقا لذلك بضخ مزيد من الموارد في حرب المعلومات في عقول الروس. وهذا ليس بالمستحيل. فروسيا ليست الصين، ولا توجد فيها برمجيات واقية عظيمة. ولا يُفرض فيها الحظر على بعض وسائل التواصل الاجتماعي، أهمها يوتيوب وتليغرام. ولا يُحظر استخدام الشبكات الخاصة الافتراضية. ومقارنة بأوقات الحرب الباردة، عندما كان الغرب يستخدم برامج المذياع باللغة الروسية عبر Radio Free Europe، وRadio Liberty، وBBC، وDeutsche Welle، فإن الفرص اليوم أكبر بكثير للوصول إلى الجمهور الروسي، وتقديم حقائق عن الحرب والتحقق مما تدعيه حملة الدعاية الروسية. وكسب حرب المعلومات داخل روسيا سيساعد على كسبها على جبهات أخرى – ومنع نظام بوتين من شن أي غزوات أخرى مستقبلا.
اضف تعليق